الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عز وجل من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جملة خبرية أو إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد أخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم. ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال: بعت بائع.
واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل: ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: ٢٣٣] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلّا من المحذور. نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه، وقيل: إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها. ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على
الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظاهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز وجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة. ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي.
وقد صرح الإمام في شرح الإشارة عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر. والثانية وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقا للعبادة. والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه. ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه- كما قال الشهاب- لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات. ولذا قال أهل الظاهر:
صفاته لم تزد معرفة... لكنها لذة ذكرناها
فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم. والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل. وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات.
وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام.
وحاصله أن اللام الجارة في «لله» لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد: إن التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما بقي فرق بين «الحمد لله» وله الحمد غير كون الثاني أوكد من الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر دون الآخر وإن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عز وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقا بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب. ويعضد ما أشير إليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب، نعم في
ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه مقصورا عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف. ثم قال: وبالجملة إن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ مدعى ومدلول.
وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ إلخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولا على ما قيل وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد، ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها، وأيضا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل. وأما ما يقال: إنما قيل الْحَمْدُ لِلَّهِ بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودا عليه.
وقد يقال: إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩] على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم مقامه فكأنهم قالوا:
الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل: الإله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السماوات والأرض ولكونه كذا وكذا. وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى.
فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات- على ما قيل-: هل له وجه أم لا؟ قلت: أما كون الذات الصرف محمودا عليه، وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له.
وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح
بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد.
وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [سبأ: ١] وبين وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [سبأ: ١] مما محصله أن جملة لَهُ الْحَمْدُ جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به تعالى بخلاف جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ إلخ فإنها لم يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ إلخ بخلاف جملة لَهُ الْحَمْدُ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك. وجمع سبحانه السماوات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم. ولذا عيب على أبي نواس قوله:
ومالك فاعلمن فينا مقالا | إذا استكملت آجالا ورزقا |
وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض. صفحة رقم 77
واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس، وقال بعضهم: إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض، ولهذا لم تجمع، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين»
فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة، وكذا يحمل ما
أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام»
والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته، والمراد من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام»
ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين.
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: ١٢] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أو أم كل صاد، وحمل المماثلة في الآية أيضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر.
ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السماوات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم.
وعن الشيخ الأكبر قدس سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد.
والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السماوات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عطف على خَلَقَ السَّماواتِ داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل، والجعل- كما قال شيخ الإسلام- الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: ١٠٣] وأيّا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه، وقيل: الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية.
واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفساد يبطل بمجرد هذا، وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه، وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً
، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً [الفرقان: ٥٢، ٥٣] إلى غير ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر، وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أو لما قدمناه في البقرة.
وقيل. لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى:
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٥٣] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسماوات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده، وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل.
وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وهو باطل، أما أولا فلأن كونها أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم، وأما إن قيل: إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس، وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة، وأما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أولا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل: إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل: إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها. وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم «بيان الصغرى بثلاثة أوجه»، الأول أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة.
والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء. والثالث أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة «والجواب» أن قولهم: الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل. وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل، وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم. ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو الظلمة، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لا يجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور. الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية، والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل
النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده. والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا. وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية. الثاني أن البياض قد يكون مضيئا ومشرقا وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال إذا الضوء لا يقابله إلا الظلمة.
الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلا قد لا يكون مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذ يرى ضوءه فذلك ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلا بد من التغاير.
الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا، وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوءه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة، وفرق الإمام بين النور، والضوء، والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال: إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءا والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نورا، والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا. والذي يكون للشيء من غيره كما للمرأة يسمى بريقا.
وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضا، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور، والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة، ولهذا قدمت الظلمات على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على الملكات.
وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فيهما العدم والملكة المشهوران، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب، فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما ينشأ من المادة المهيأة قبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل. وقال المولى ميرزاجان: لا بد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلا للوجودي، ولا يكفى نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له، ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب.
قال في الشفاء: العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة، وهذا مما لا بد منه في معناه المشهور انتهى، وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام، وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود: إن عدم
الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات.
ولذا قال الإمام: إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء
في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن.
وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل، وتحقيقه- على ما قيل- إن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجودا عينيا، وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يحتمل أن يكون يَعْدِلُونَ فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية، والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للإيمان أو بمعنى كفران النعمة، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه، ثم هي إما معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إنشاء أو اخبارا أو على قوله سبحانه خَلَقَ صلة الذي أو على الظُّلُماتِ مفعول جعل فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع، والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه، وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين.
والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته.
وثُمَّ لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق بالمقام، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد أمر الاستبعاد، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول، فالظاهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها، وما قاله المحقق التفتازاني مني إنه لا مخصص لكل من توجيهي بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه، وذلك لأنه إذا قيل مثلا في الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة، ولا
يناسب أن يقال: إنهم يسوون به غيره إذا لم يسبق صريحا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية، وإذا قيل مثلا في الصورة الثانية: إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال: ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه ويعرضون عنه.
وقال بعض المحققين: إذا كان المعنى على الأول الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه، وعلى الثاني المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته، فوجه التخصيص في الأول أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولي نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإن المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره، وفي الثاني أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصور لجهل العادل بحقه وما يليق بحقه فإن العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوى بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر.
واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ما له ذلك. ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محمودا عليه. وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه، وفي ذلك تعظيم منبىء عن كمال الاستحقاق، وقد يقال: وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلا اختياريا، وما ذكر ليس كذلك فعليه لا بد من التأويل.
وذكر شيخ الإسلام في الاعتراض على العطف المذكور أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الانباء في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه، وادعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل: الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه عز وجل كما يقتضيه الادعاء المذكور، وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بروادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام انتهى.
ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته. وادعاء التعكيس ممنوع فإن المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام آخر إذ لكل مقام مقال. واعترض أيضا بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم: أبو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظاهر موضع الضمير وكأنه قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع إمكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح. وأجيب بأنه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيرا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النجاة: إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم.
واعترض شيخ الإسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودا بالإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي، وأجيب بأنه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيها للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل، وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك، والذي تصدح به كلماتهم أن صلة يَعْدِلُونَ على تقدير أن يكون من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الإنكار على نفس الفعل، وإنما قدروا له مفعولا على تقدير أن يكون من العدل بمعنى التسوية فقالوا: غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم بِرَبِّهِمْ على احتمال تعلقه بما بعد لذلك، ويجوز أن يكون للاهتمام.
وقال بعض المحققين: إن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه. ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب. هذا وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن كعب قال: فتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وختمت بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله سبحانه وتعالى وكبره تكبيرا.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ استئناف مسوق لبيان كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه خلقهم منه: إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة.
وقال المهدوي في ذلك: إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين
لخبر «ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته»
وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من التجوز، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم، وأيّا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة.
ثُمَّ قَضى أي قدر وكتب أَجَلًا أي حدا معينا من الزمان للموت. وثُمَّ للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق، وقيل: الظاهر الترتيب في الزمان، ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به اللائكة وتكتبه كما وقع
في حديث الصحيحين «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون
مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد».
وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي حد معين للبعث من القبور، وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل وعِنْدَهُ هو الخبر، وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره. وقدم على خبره الظرف مع أن الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم، فإن ما قصد به ذلك حقيق بالتقديم فالمعنى وأجل أي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا يقف على وقت حلوله سواه جل شأنه لا إجمالا ولا تفصيلا. وهذا بخلاف أجل الموت فإنه معلوم إجمالا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمال الإنسان.
وقيل: وجه الاخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والأول أيضا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: ٣٤] لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كان.
وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث. وروي ذلك عن الحسن وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه حيث قال:
قضى أجلا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه فإذا كان الرجل صالحا وأصلا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل الحياة وزاد في أجل الممات، وذلك قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: ١١] وعليه فمعنى عدم تغير الأجل عدم تغير آخره، وقيل: الأجل الأول الزمن الذي يحيى به أهل الدنيا إلى أن يموتوا والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب ذلك إلى مجاهد، وابن جبير، واختاره الجبائي.
ولا يخفى بعد إطلاق الأجل على المدة الغير المتناهية، وعن أبي مسلم أن الأجل الأول أجل من مضى والثاني أجل من بقي ومن يأتي، وقيل: الأول النوم والثاني الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأيده الطبرسي بقوله تعالى: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: ٤٢] ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا الموت لكنه لم تعهد تسميته أجلا وإن سمي موتا، وقيل: إن كلا الأجلين للموت ولكل شخص أجلان أجل يكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وهو المراد بالعمر
في خبر «إن صلة الرحم تزيد في العمر»
ونحوه وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره عز شأنه وكثير من الناس قالوا: إن المراد بالزيادة الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة، وقيل: المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا: ذكر الفتى عمره الثاني وضعفه الشهاب، وقيل: الأجلان واحد والتقدير وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف وعِنْدَهُ خبر بعد خبر أو متعلق بمسمى وهو أبعد الوجوه.
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي تشكون في البعث كما أخرجه ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان، وعن الراغب المرية التردد في المتقابلين وطلب الامارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر. ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم. قيل: الامتراء الجحد، وقيل: الجدال. وأيّا ما كان فالمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقطع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارا
على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة. ومن هذا يعلم أن شطرا من تلك الأوجه السابقة آنفا لا يلائم مساق النظم الكريم، وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على جحوده وإنكاره كما ينبىء عنه كثير من الآيات للدلالة على أن جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار.
وذكر بعض المحققين أن الآية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه دليل البعث، ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه عز وجل لأنه المنعم لا أحد غيره ويلزم منه أنه لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى، وزعم بعضهم أنها لا تدل على ذلك إلا بملاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا تدل على أكثر من وجود الصانع، ومنشأ ذلك حمل الدليل على البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله وليس ذلك باللازم. ومن الناس من جعل الآية الأولى أيضا دليلا على البعث على منوال قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: ٢٧] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر.
وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ جملة من مبتدأ عائد إليه سبحانه كما قال الجمهور وخبر معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام الهيئة لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف ما تقدم، والحمل ظاهر الفائدة إذا اعتبر ما يأتي وإلا فهو على حد- أنا أبو النجم وشعري شعري-، وقوله تعالى: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق- على ما قيل- بالمعنى الوصفي الذي تضمنه الاسم الجليل كما في قولك: هو حاتم في طيىء على معنى الجواد.
والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم الكريم أعني المعبود أو ما اشتهر به الاسم من صفات الكمال إلا أنه يلاحظ في هذا المقام ما يقتضيه منها أو ما يدل عليه التركيب الحصري لتعريف طرفي الإسناد فيه من التوحيد والتفرد بالألوهية أو ما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه تعالى خاصة فكأنه قيل:
وهو المعبود فيهما أو وهو المالك والمتصرف المدبر فيهما حسبما يقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة أو وهو المتوحد بالألوهية فيهما أو وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يشرك به شيء في هذا الاسم، ومعنى ذلك مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمن ذلك الاسم الجليل ويكفي مثل ذلك في تعلق الجار لا أنه يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو على نحو المالك والمتصرف أو المتوحد أو يقدر القول، وعلى كل تقدير يندفع ما يقال: إن الظرف لا يتعلق باسم الله تعالى لجموده ولا بكائن لأنه حينئذ يكون ظرفا لله تعالى وهو سبحانه وتعالى منزه عن المكان والزمان.
ومن الناس من جوز تعلقه بكائن على أنه خبر بعد خبر والكلام حينئذ من التشبيه البليغ أو كناية على رأي من لم يشترط جواز المعنى الأصلي أو استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة التي حصلت من إحاطة علمه سبحانه وتعالى بالسماوات والأرض وبما فيهما بحالة بصير تمكن في مكان ينظره وما فيه والجامع بينهما حضور ذلك عنده.
وجوز أن يكون مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر، وأن يكون استعارة بالكناية بأن شبه عز اسمه بمن تمكن في مكان وأثبت له من لوازمه وهو علمه به وبما فيه، وليس هذا من التشبيه المحظور في شيء وعليه يكون قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو منها ومن الأفعال بيانا للمراد وتوكيدا لما يفهم من الكلام. وتعليق علمه سبحانه بما ذكر خاصة مع شموله لجميع من في السماوات وصاحبتها لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا يعتبر بيانا على تقدير اعتبار ما اشتهر به الاسم الجليل من صفات الكمال عند تعلق الجار على ما علمت فإن ملاحظته من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل حسبما تقدم مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط حتما.
وعلى التقادير الأخر لا مساغ كما قيل لجعله بيانا لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مفهوم شيء من المعبودية واختصاص إطلاق الاسم عليه تعالى، وكذا مفهوم المتوحد بالألوهية فكيف يكون هذا بيانا لذلك. واعتبار العلم فيما صدق عليه المتوحد غير كاف في البيانية، وقيل في بيانها على تقدير اعتبار المتوحد بالألوهية: إن حصر الألوهية بمعنى تدبير الخلق، ومن تفرد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له تدبيرها فملاحظة المتوحد بالألوهية مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط على طرز ما تقرر في ملاحظة اسمه عز اسمه من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل على الوجه المتقدم.
ومن هذا يعلم اندفاع ما أورد على احتمال تعلق الجار السابق باعتبار ملاحظة المتوحد بالألوهية من أن التوحيد بها أمر لا تعلق له بمكان فلا معنى لجعله متعلقا بمكان فضلا عن جميع الأمكنة فإن تدبير الخلق مما يتعلق بما في حيز الجار من الحيز، وكذا بما فيه. وتعقب ذلك بمنع تفسير الألوهية بما ذكر ولعل الجملة على هاتيك التقادير خبر ثالث، وقد جوز غير واحد الاخبار بالجملة بعد الاخبار بالمفرد، وبعضهم جعلها كذلك مطلقا، والقرينة على إرادة المراد من الجملة الظرفية حينئذ عقلية، وهي أن كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عما يقتضيه الظاهر من المكان، وذلك كما في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: ٤] إذا لم يردف بما يبينه، وجوز أن تكون كلاما مبتدأ وهو استئناف نحوي. ورجحه غير واحد لخلوه عن التكلف أو استئناف بياني ويتكلف له تقدير سؤال، وقيل: إن الجملة هي خبر هُوَ والاسم الجليل بدل منه والظرف متعلق بيعلم. ويكفي في ذلك كون المعلوم فيما ذكر ولا يتوقف على كون العالم فيه ليلزم تحيزه سبحانه وتعالى المحال. وهذا- كما قيل- كقولك: رميت الصيد في الحرم فإنه صادق إذا كنت خارجه والصيد فيه.
ونقل بعض المدققين عن الإمام التمرتاشي في الإيمان إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل كما إذا قلت: إذا ضربت في الدار أو في المسجد فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه فلذا قال بعض الفقهاء: لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فكذا فشرط حنثه كون الفاعل فيه. وإن قال: إن ضربته في المسجد أو جرحته أو قتلته أو رميته فكذا فشرطه كون المفعول فيه. وفرق بين الرميين المتعدي بإلى والمتعدي بنفسه بأن الأول إرسال السهم من القوس بنية وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل. والثاني إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيؤثر فيه ولذا عد كل منهما في قبيل. وعلى هذا يشكل ما نحن فيه لأن العلم لا يظهر له أثر في المعلوم فيلزم أن يكون الكلام من قبيل شتمته في المسجد ويجيء المحال وكون العلم هنا مجازا عن المجازاة وهي مما يظهر أثرها في المفعول فيكون الكلام من قبيل إن ضربته في المسجد ويكفي كون المفعول فيه دون الفاعل في القلب منه شيء على أن كون المفعول هنا أعني سر المخاطبين وجهرهم في السماوات مما لا وجه له.
والقول بأن المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في السماوات ونفوسكم المقارنة لأبدانكم الكائنة في الأرض تعسف وخروج عن الظاهر على أن الخطاب حينئذ يكون للمؤمنين وقد كان فيما قبل للكافرين فتفوت المناسبة والارتباط، ومثله القول بتعميم الخطاب بحيث يشمل الملائكة وظاهر أن سرهم وجهرهم في السماوات.
وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا أنهما يكونان في السماوات أيضا، وقيل: المراد بالسر ما كتم عنهم من
عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر وما ظهر لهم من السماوات والأرض. وإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقا بالمصدر على سبيل التنازع، واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه.
ويلزم أيضا التنازع مع تقدم المعمول. وأجيب بأن منهم من يجوز التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول: بجواز تقديم الظرف على المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره، ونقل عن ابن هشام أنه قال: إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه، وقال مولانا صدر الدين: يرد على منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤] مع أن إلها مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فإن أول بالصفة مثل المعبود فليؤول السر والجهر بالخفي والظاهر.
وعن أبي علي الفارسي أنه جعل هُوَ ضمير الشأن واللَّهُ مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرا وعلانية. وتخصيص ذلك بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر لإظهار كمال الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في إعادة يَعْلَمُ. ومن الناس من غير بين المتعاطفين بجعل العلم هنا عبارة عن جزائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم. وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر. وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على ما لم يقع بعد.
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد وامترائهم في البعث وإعراضهم عن بعض أدلته.
والإعراض عن خطابهم للإيذان بأن إعراضهم السابق قد بلغ مبلغا اقتضى أن لا يواجهوا بكلام بل يضرب عنهم صفحا وتعدد جناياتهم لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم. فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية كما أشار إليه العلامة البيضاوي ولله تعالى دره أو للدلالة على الاستمرار التجددي، ومن الأولى مزيدة للاستغراق أو لتأكيده، والثانية للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف مجرور أو مرفوع وقع صفة لآية، وجعلها ابن الحاجب للتبيين لأن كونها للتبعيض ينافي كون الأولى للاستغراق إذ الآية المستغرقة لا تكون بعضا من الآيات. ورد بأن الاستغراق هاهنا لآية متصفة بالإتيان فهي وإن استغرقت بعض من جميع الآيات على أن كلامه بعد لا يخلو عن نظر.
وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها.
والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات والإتيان على الأول بمعنى النزول، وعلى الثاني بمعنى الظهور على ما قيل، ويفهم من كلام بعض المحققين أنه مطلقا بمعنى الظهور استعمالاته في لازم معناه وهو المجيء الذي لا يوصف به إلا الأجسام مجازا لا كناية كما قيل.
وحاصل المعنى على الأول ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها.
إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير مقبلين عليها ولا معتنين بها، وعلى الثاني ما تظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته عز وجل إلا كانوا تاركين للنظر
الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها، وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات. واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض. وفسر شيخ الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء، و «عن» متعلقة بمعرضين. والتقديم لرعاية الفواصل.
والجملة بعد إلا- كما قال الكرخي- في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما. وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [القمر: ٢] للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات.
وفي الكلام إشارة إلى غاية انهماكهم في الضلال حيث آذن أن إعراضهم عما يأتيهم من الآيات أن الإتيان كما يفصح عنه كلمة لَمَّا في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه. وعبر عنه بذلك إظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به. والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية- كما هو الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام- لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد.
ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه. ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل بل آن المجيء تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع. وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف.
والمعنى على الأول حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه. وعلى الثاني أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات. واختار في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها. وجوز أيضا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها. فقد قال الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: ٣٤] وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية.
وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي بشيء من ذلك، ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضا.
واستشكل بأن السبب يتقدم على المسبب لا متعقب إياه. وتكلف صاحب التوضيح لتوجيه بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار دخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية. ورد بأنها لا تتأتى في كل محل، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت: كيف يتصور ترتب السبب على المسبب؟ قلت: من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب انتهى. وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقا. لكن ظاهر كلام النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدا فإنه أبوك، واعبد الله فإن العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه الأول أولى وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل: لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الفصيح فكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا أسقط الفاء. نعم قيل: إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل عنه وفيه تأمل.
وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت الآية بمعنى الدليل أو المعجزة أو الآية
القرآنية لتغاير الإعراض والتكذيب فيها. والفاء في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للترتيب أيضا بناء على أن ما تقدم لكونه أمرا عظيما يقتضي ترتب الوعيد عليه، وقيل: يستهزئون إيذانا بأن ما تقدم كان مقرونا بالاستهزاء.
واستدل به أبو حيان على أن في الكلام معطوفا محذوفا أي فكذبوا بالحق واستهزؤوا به. ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة إليه. وما عبارة عن الحق المذكور. وعبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الذي يعظم وقعه. والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده بما يحصل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة، وقيل: المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب النار ونحوه وقيل: المراد بأنباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو ظهور الإسلام وعلو كلمته، وظاهر ما يأتي من الآيات يرجح الأول.
وصرح بعض المحققين بأن إضافة أَنْباءُ بيانية وهو احتمال مقبول وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزؤوا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أو نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لإقحامه. وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي [الشعراء: ٦] فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ بدون تقيد الكذب والتنفيس بالسين لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بما تقدم، وقيل: شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر. والرؤية عرفانية، وقيل: بصرية، والمراد في أسفارهم وليس بشيء. وهي على التقديرين تستدعي مفعولا واحدا. وكَمْ استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها. وهي منصوبة بأهلكنا على المفعولية. وهي عبارة عن الأشخاص، وقيل: إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدهما. ومِنْ قَرْنٍ مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت. واختلف في مقدار تلك المدة فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: سبعون، وقيل: ستون، وقيل: ثلاثون، وقيل: عشرون. وقيل: مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان. ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج: إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى. ويحتمل أن يعتبر ذلك مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها. وقيل: هو عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم. واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله. والمراد به هنا الأهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز.
وجوز بعضهم انتصاب كَمْ على المصدرية بأهلكنا بمعنى إهلاك أو على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف.
ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا. وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية. والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزءون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وقوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ استئناف بياني كأنه قيل ما كان حالهم؟، وقال أبو البقاء: إنه في موضع جر صفة قَرْنٍ لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص. وجمع الضمير باعتبار معناه. وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة. على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود
لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم. كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد انتهى. ولا يخفى أن التنوين التفخيفي لا يأبى الوصف. وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى، وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب: إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم فَأَهْلَكْناهُمْ إلخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئا. وتمكين الشيء في الأرض- على ما قيل- جعله قارا فيها.
ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض. ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: ٢٦] وأخرى مكن له في الأرض. ومنه قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الكهف: ٨٤] حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر. ومنه قوله تعالى: ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ بعد ما تقدم كأنه قيل في الأول: مكنا لهم وفي الثاني ما لم نمكنكم.
وفي التاج أن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له. وقال أبو علي: اللام زائدة مثل رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] وكلام الراغب في مفرداته يؤيده. وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له. ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين وما إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم أو نكرة موصوفة أي تمكينا لم نمكنه. وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف، وقيل: إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي أعطيناكم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم. وقيل: إنها مصدرية ظرفية أي مدة تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب للكفرة. وقيل: لجميع الناس، وقيل:
للمؤمنين. والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى. وقيل: ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر، وهي نكتة في الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني.
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر كما روي عن هارون التيمي. ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقيل: السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل. وقيل: هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. والإرسال والإنزال- كما في البحر- متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي غزيرا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال من السماء والظرف متعلق بأرسلنا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ أي صيرناها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت مساكنهم. والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا. ولم يقل سبحانه: أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه: أَرْسَلْنَا السَّماءَ للإيذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة ظاهرة، ولو كان ما ذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: ٢٥ وغيرها] واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب. وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول. وليس المراد- على ما قيل- بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا. وينبىء عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين.
قوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ والفاء للتعقيب. وقيل: فصيحة. والمراد فكفروا فأهلكناهم. ورجح الأول، والباء للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة
والسلام وَأَنْشَأْنا أي أوجدنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد إهلاكهم بسبب ذلك قَرْناً آخَرِينَ بدلا من الهالكين.
وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخلي بلاده منهم فإنه جل جلاله قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: ١٥] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين ويلونهم من بعدهم وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ استئناف سيق بطريق تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم في المكابرة وما يتفرع عليها من الأقاويل الباطلة إثر بيان ما هم فيه من غير ذلك.
وعن الكلبي وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد لما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله، والكتاب المكتوب، والجار بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أو متعلق به، وقيل: إن جعل اسما كالإمام فالجار في موضع الصفة له، وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق به.
وجوز أن يتعلق بنزلنا وفيه بعد، والقرطاس بكسر القاف وضمها، وقرىء بهما معرب كراسة كما قيل، وممن نص على أنه غير عربي الجواليقي، وقيل: إنه مشترك ومعناه الورق، وعن قتادة الصحيفة، وفي القاموس القرطاس مثلثة القاف وكجعفر ودرهم الكاغد، وقال الشهاب: هو مخصوص بالمكتوب أو أعم منه ومن غيره.
فَلَمَسُوهُ أي الكتاب أو القرطاس، واللمس كما قال الجوهري المس باليد فقوله تعالى: بِأَيْدِيهِمْ لزيادة التعيين ودفع احتمال التجوز الواقع في قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: ٨] أي تفحصنا، وقيل: إنه أعم من المس باليد، فعن الراغب المس إدراك بظاهر البشرة كاللمس، وبالتقييد به يندفع احتمال التجوز أيضا.
وقيل: إنما قيد بذلك لأن الإحساس باللصوق يكون بجميع الأعضاء ولليد خصوصية في الإحساس ليست لسائرها. وأما التجوز باللمس عن الفحص فلا يندفع به إذ لا بعد في أن يكون ذلك لمباشرتهم للفحص بأنفسهم بل يندفع لكون المعنى الحقيقي أنسب بالمقام وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن ذكر الأيدي ليفيد أن اللمس كان بكلتا اليدين ولا يظهر وجه الإفادة. وتخصيص اللمس لأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع ولأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إذا ترك العناد والتعنت: إنما سكرت أبصارنا.
واعترض بأن اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئي مخيلا وأما نزوله من السماء فلا يثبت به.
وأجيب بأنه إذا تأيد الإدراك البصري في النزول بالإدراك اللمسي في المنزل يجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزما لا يحتمل النقيض فلا يبقى بعده إلا مجرد العناد مع أن حدوثه هناك من غير مباشرة أحد يكفي في الإعجاز كما لا يخفى، وقال ابن المنير الظاهر أن فائدة زيادة لمسهم بأيديهم تحقيق القراءة على قرب أي فقرؤوه وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا. وقوله تعالى: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب لَوْ على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام. والمراد لقالوا تعنتا وعنادا للحق. وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يكفر- كما قيل- حسن موقعه باعتبار معناه اللغوي أيضا، وجوز أن يكون المراد بهم قوم معهودون من الكفرة فحديث الوضع حينئذ موضوع وإِنْ في قوله سبحانه إِنْ هذا أي الكتاب نافية أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ الظاهر أنه استئناف لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة والسلام بما هو أصرح من الأول، وقيل: إنه معطوف على جواب لو ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، واعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم
المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل، وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بماذا يقابله وأي شيء يتشبث به. وكلمة لَوْلا هنا للتحضيض، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ إلخ
أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه إليهم، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: ٧]. ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين. إنزال الملك على صورته وجعله معه صلّى الله عليه وسلّم يحدث الناس عنه وينذرهم أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثا ونذيرا وجعله محدثا ونذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته، وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا عليه مَلَكاً على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة.
وقد قيل: إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بحياد ومرة في السماء، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة، والذي
صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام مرتين
كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدا من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك، ولم يرد هذا- كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شيء- من كتب الآثار، وأما رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب، وظاهر الأخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفيا ولا إثباتا، وعدم وقوع رؤية جبريل عليه السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم، ولوط وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار، وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسندا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة، وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة ثُمَّ في قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلا عن أن يحفظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الانظار فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة، وقيل: إنها للإشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتأملوا.
واعترض بأن قوله سبحانه: ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ عطف على قوله عز وجل: لَقُضِيَ ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر.
وقيل في سبب إهلاكهم على تقدير إنزال الملك حسبما اقترحوه: إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صورته الأصلية وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فإن سنة الله تعالى قد جرت بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح. وروي هذا عن قتادة، وقيل: إنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: ٨٥] فيجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء، وفيه أنه مخالف لقواعد أهل السنة ولا يتسنى إلا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الاشكال كما لا يخفى على المتتبع، وذكر بعض الفضلاء أن هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة ما قبل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك قد نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وأن الإيمان إيمان يأس.
وقال ابن المنير: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلك وضوح الآية في نزول الملك فإنه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الأمر كذلك، فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا لا المعجز الخاص فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة، ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الأولى، وقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والاعتراض عليه بأن لا يُنْظَرُونَ يدل على إهلاكهم لا على هلاكهم برؤية الملك يندفع بما أشرنا إليه كما لا يخفى، وليس بتكلف يترك له كلام ترجمان القرآن، وقد أشير إلى الثاني بقوله سبحانه:
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا على أن الضمير الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة والسلام المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم إنزاله ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم استطاعتكم معاينة الملك على هيكله الأصلي، وفي إيثار رَجُلًا على بشرا إيذان على ما قيل بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل، وفيه إشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها.
والعدول عن ولو أنزلناه ملكا إلى ما في النظم الجليل يعلم سره مما تقدم في بيان المراد، وقيل: العدول لرعاية المشاكلة لما بعد ووجه شيخ الإسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال: ولو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك، وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر، ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت «لو» امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبرازا لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم ولا يخلو عن حسن.
وجوز غير واحد كون قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ إلخ جواب اقتراح ثان، وذلك أن للكفرة اقتراحين، أحدهما أن ينزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه القوم والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم مكان الرسول البشر ملك فإنهم كما كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم ملك فيكون معه نذيرا كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ
[المؤمنون: ٢٤] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: ٢٤] فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً إلخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير جَعَلْناهُ للرسول المنزل إلى القوم، ولا يخفى أن جعله جوابا عن اقتراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلا.
وبعضهم جعله جوابا آخر وجعل الضمير للمطلوب واعترض بأن المطلوب أيضا ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكا إلا أن يقال: المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكا، وتعقب بأن المطلوب هو النازل المقارن للرسول صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ لا غبار في الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلا لجعله ملكا كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل. فحينئذ يجب أن تكون الآية جوابا عن اقتراح آخر لا جوابا آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم المنافاة.
وأجيب بأنه على تقدير كونه جوابا آخر يكون جوابا على طريق التنزل، والمعنى ولو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلا بد من تمثله بشرا لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته الحقيقية فيكون الإرسال لغوا لا فائدة فيه، وأنت تعلم أن ما عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه الاعتراضات. نعم ذكر بعض الفضلاء إشكالا وهو أن المقرر عند أهل الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فهاهنا عكس القضية الصادقة وهي لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا غير صادق إذ هو لو جعلناه رجلا لجعلناه ملكا ولا خفاء في عدم تحققه فإن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا «والجواب» بأن ما ذكره أهل الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان غير مرضي فإنه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه.
وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين لغويا وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما في لو جئتني أكرمتك ومفهوم القضية عليه الاخبار بأن شيئا لم يتحقق بسبب عدم تحقق شيء آخر، وعرفيا تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم جعلوها من أدوات الاتصال لزوميا واتفاقيا وصدق القضية التي هي فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها اللغويون أيضا في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما يقال: لو كان زيد في البلد لرآه أحد.
وفي بعض الآثار لو كان الخضر حيا لزارني،
ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول، وجعلوا من هذا الاستعمال لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢].
وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن قول المستشكل: إن عكس القضية الصادقة إلخ إن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه ما ذكر فإن عكس لو جئتني أكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا: المراد من الآية ولو جعلناه ملكا لجعلناه على صورة رجل وأن المقصود بيان انتقاض غرضهم من قولهم:
لولا أنزل عليه ملك يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها إلا أن يجعله متمثلا على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن يبحث فيها عن أن عكسها. ماذا أو كيف حالها في الصدق والكذب فإنها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى الآية
كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي فمسلم أنه لا بد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم كذب العكس هنا على ذلك التقدير فإنه إذا فرض لزوم الجعل رجلا للجعل الأول كليا على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكا للجعل رجلا على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال: إذا قلنا إن زيد صاهلا كان حيوانا لا يصدق عكسه، وهو قد يكون إذا كان زيد حيوانا كان صاهلا لأنه ليس بصاهل في الواقع، ومنشأ هذا هو ظن أن عدم تحقق أحد الطرفين، أو كليهما ينافي اللزوم.
وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق المقدم اه. وبحث فيه المولى العلائي أما أولا فبأن كون القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك.
وأما ثانيا فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته، فالصواب أن يقال: أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين. الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول. والثاني الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلم. وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في نعم العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه. وقد صرح المحققون أن الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول المرسل إليهم ملكا لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكا. وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنسانا وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر. فالبحث بعد محتاج إلى بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين.
وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ جعله بعضهم جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا إلخ، وكأن الداعي إليه إعادة لام الجواب فإنه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك، واللبس عليهم فإنه ليس سببا له بل لعكسه، ويجوز أن يكون عطفا على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه، ونكتة إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلباب، واللبس في الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو كالستر له يقال: لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهت عليهم وجعلته مشكلا. قال ابن السكيت: يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له: إنما أنت بشر ولست بملك، ولو استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلا.
ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ونسبة آياته البينات إلى السحر، وما على ما اختاره في الكشف على الأول موصولة. وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير، وأن تكون موصولة أي مثل الذي يلبسونه.
ومتعلق يَلْبِسُونَ على الوجهين على أنفسهم. ويفهم من كلام الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال: كانوا يلبسون على ضعفائهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فأخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكا
لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه.
وقرأ ابن محيصن «ولبسنا» بلام واحدة. والزهري «وللبسنا عليهم ما يلبسون» بالتشديد، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أمورا. الأول أن الجنس إلى الجنس أميل. الثاني أن البشر لا يطيق رؤية الملك. الثالث أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي. الرابع أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا أو بشرا.
ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري لا حقيقي، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر.
وقول العلائي: لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبيا لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلا على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وأبي جهل، وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول: إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلّى الله عليه وسلّم بعقوبة من استهزأ به عليه السلام إن أصر على ذلك.
وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل: حل واختاره الطبرسي، وقيل: نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل إلا في السر كما قال:
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم | وحاق بهم من بأس ضربة حائق |
وقال الأزهري: جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها. وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة، وفيه أيضا حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله. وظاهره إن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي. ومِنْهُمْ متعلق بسخروا والضمير المرسل. ويقال: سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا. وقيل: السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن. وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين صفحة رقم 96
ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار. فعن الراغب الاستهزاء ارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة.
وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي ورده أبو حيان بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور.
وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور. وبِالَّذِينَ متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو ما للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم. وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل. وإما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزئون به. وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير مضاف، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة.
وقيل: إن المراد من الذي كانوا يستهزئون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف. وقد اختار ذلك الإمام الواحدي. والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على أن المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاؤوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وإن مثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة.
ومن الناس من زعم أن حاقَ بِهِمْ كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازا. وأنت تعلم أن الحيق الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي، ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه. نعم إذا قلنا: إن الإحاطة إنما تكون للأجسام دون المعاني فلا بد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزاعم كما لا يخفى. وفي جمع كانُوا ويَسْتَهْزِؤُنَ ما مر غير مرة في أمثاله.
وبِهِ متعلق بما بعده. وتقديمه لرعاية الفواصل.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم لسوء أفعالهم تحذيرا لهم عما هم عليه مما يحاكي تلك الأفعال. وفي ذلك أيضا تكملة لتسليته عليه الصلاة والسلام بما في ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين، وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازا أظهر من الشمس يوم بدر، والمراد من النظر التفكر، وقيل: النظر بالإبصار، وجمع بينهما الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك. وكَيْفَ خبر مقدم لكان أو حال وهي تامة.
والعاقبة مآل الشيء وهي مصدر كالعافية، والتعبير بالمكذبين دون المستهزئين قيل: للإشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء. وأورد عليه أن تعريف المكذبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع أن الاستهزاء بما جاؤوا به يستلزم تكذيبه. ولا يخفى أن مقصود القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الإشارة إليهم بهذا العنوان هنا ما لا يخفى من الإشارة إلى فظاعة ما نالهم، وقيل:
إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك، وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للإيذان
بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجبا لأن الأول إنما يطلب للثاني كما في قولك: توضأ ثم صل، وقيل:
للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع. والثاني لإيجاب النظر في آثار الهالكين، ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح. وأورد عليه- كما قال الشهاب- أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالا ظاهرا.
وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى: وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت: ٦٦]. وهذا حاصل ما قيل: إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له: إذ قد أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك: افعل ما شئت. ولا يخفى أن انفهام ذلك من الآية في غاية البعد. وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة النمل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة آنفا، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر. ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية. ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه أيضا.
وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: ثُمَّ انْظُرُوا وفي غير ما موضع فَانْظُروا [آل عمران: ١٣٧، النحل: ٣٦، النمل: ٦٩، العنكبوت: ٢٠، الروم: ٤٢] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع. وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: ٦] مع قوله سبحانه وتعالى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام: ٦] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الأخر اه، ولا يخلو عن دغدغة.
واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره، وتارة أخرى نظرا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد قُلْ على سبيل التقريع لهم والتوبيخ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا.
وقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّهِ تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن- كما قال الإمام- في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِمَنْ إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين.
وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار
والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق إثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل: هو ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي»،
وفي رواية الترمذي عنه مرفوعا «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابا عنده بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي»،
وفي رواية ابن مردويه عنه «أن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السماوات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي»
إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
وفي شرح مسلم للإمام النووي قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا. وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا. وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور. الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا، وعليه يخرج ما
أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو وقال: «إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة»،
والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام. وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة. واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر، وقوله سبحانه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم محذوف وقع- على ما قال أبو البقاء- كتب موقعه. والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، وقيل: بياني كأنه قيل: وما تلك الرحمة فقيل: إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط. وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس.
وقال بعض المحققين أيضا: إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة، وقيل: صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل: إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من الرَّحْمَةَ بدل البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك.
والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين، واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها وقيل: هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وقيل: إنه متعلق بالفعل وإلى بمعنى في كما في قوله:
لا تتركني بالوعيد كأنني | إلى الناس مطلي به القار أجرب |
والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه، وجوز أن تكون تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: ٢].
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل: نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالًا [الهمزة: ١، ٢] كيف قطع فيه الَّذِي مع عدم صحة اتباعه نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت، وقيل:
هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضا ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع. واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك، وقيل: هو مبتدأ خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف فإن قلت:
كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون.
وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه، صفحة رقم 100
وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر.
وقيل: الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على لا رَيْبَ فِيهِ فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل: فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي سماوات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم، ويقال: الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك، ويقال: الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام. وقال بعضهم: الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب. ثم بعد ظهور ذلك الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وهو طين المادة الهيولانية ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو البقاء بعد الفناء، وقيل: الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية. ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس. والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ما علمتم ذلك تَمْتَرُونَ وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي يَعْلَمُ سِرَّكُمْ في عالم الأرواح وهو عالم الغيب وَجَهْرَكُمْ في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها، وقيل: المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الأنفسية والآفاقية إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود وَقالُوا لضعف يقينهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فنراه لتزول شبهتنا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليمكنهم مشاهدته قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما في العالمين قُلْ لِلَّهِ إيجادا وإفناء كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره: إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق. وهي المرادة في قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: ١٥٩] وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة. وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: ١٥٦] وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة.
وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة
«شفعت الملائكة
وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه» كما في الخبر
فهي امام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد الحمد لله رب العالمين. فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما، ويقول الشرع في حمد السراء: الحمد لله المنعم المتفضل، ويقول في حمد الضراء:
الحمد لله على كل حال فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله تعالى عقيب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] الرحمن الرحيم فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى.
وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه، نعم تنقسم الرحمة من بعض الحيثيات إلى قسمين، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلّى الله عليه وسلّم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: ١٢٨]، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال.
وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق من الجمال.
فقد ورد في الحديث: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي»
ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال: ولا يناقض هذا قوله جل شأنه: «سبقت رحمتي غضبي» فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر.
وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار.
وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة. نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الصغرى أو الكبرى لا رَيْبَ فِيهِ في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لذلك، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.