آيات من القرآن الكريم

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢﰣ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ

وَلَهُ عطف على لِلَّهِ فهو داخل تحت قُلْ على أنه احتجاج ثان على المشركين وإليه ذهب غير واحد.

صفحة رقم 103

وقال أبو حيان: الظاهر أنه استئناف اخبار وليس مندرجا تحت الأمر أي ولله سبحانه وتعالى خاصة ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي الوقتين المخصوصين. وما موصولة. وسَكَنَ إما من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير تقدير، وتعديتها بفي إلى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان، وجوز أن يكون هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السماوات والأرض ما سكن فيهما واستقر، والمراد وله ما اشتملا عليه، وإما من السكون ضد الحركة كما قيل، وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] والتقدير ما سكن فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون أكثر وجودا وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل:
إذا هبت رياحك فاغتنمها... فإن لكل خافقة سكون
ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة. ورد بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرم في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. وأجيب بأن هذا المحذوف في قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لا يستدعي الذكر وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل والنهار، ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية عن جميع ذلك ناسب المقام.
وقيل: إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركا بناء على ما حقق في موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها، وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة المشهورة كلام طويل يطلب من محله وَهُوَ السَّمِيعُ أي المبالغ في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين الْعَلِيمُ أي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقوالهم وأفعالهم ولذا خص السمع والعلم بالذكر، وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن تكون من مقول الله تعالى: قُلْ للمشركين بعد توبيخهم بما سبق أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة. ونحوه أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤] والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلّى الله عليه وسلّم، فقد قيل: إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام: يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت. واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل: أأتخذ غير الله وليا. وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبودا لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل:
إذا صافى صديقك من تعادي... فقد عاداك وانقطع الكلام
وقيل: الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة، ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصرا أنه لا يتخذه معبودا من باب الأولى، ويحتمل الكلام- على ما قيل- أن يكون من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى إمحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: ٢٢]. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج أبو عبيدة وابن جرير، وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى عنه قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يقول: أنا ابتدأتها، وهو نعت للجلالة مؤكد

صفحة رقم 104

للإنكار، وصح وقوعه نعتا للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاما من الله تعالى ابتداء أو محكيا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري «فطر» ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف، وقيل: بدل من الاسم الجليل، ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل، وقرىء بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو أمدح فاطر، وجوز أن يكون النصب على البدلية من وَلِيًّا لا الوصفية لأنه معرفة، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له.
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٧] وعبر بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة، والجملة في محل نصب على الحالية، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرؤوا «ولا يطعم» بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير حينئذ في الفعلين لغير الله تعالى أي اتخذ من هو مرزوق غير رازق وليا، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى، وقد يقال: الكلام كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى: لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: ٢٠] ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسا، وقرأ الأشهب وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ببنائهما للفاعل، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاما ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [البقرة: ٢٤٥] والضميران لله تعالى، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير قُلْ بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول إِنِّي أُمِرْتُ من جناب ولي جل شأنه أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصا له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولا بما أمر به ليكون أدعى للامتثال، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: ١٤٣].
وقيل: إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي في أمر من أمور الدين، وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي: لا تكونن، فالواو من الحكاية عاطفة للقول المقدر على أُمِرْتُ، وحاصل المعنى إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك، وقيل: إنه معطوف على مقول قُلْ على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي، وقيل: إنه عطف على قُلْ على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا، وتعقب بأن سلاسلة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها، وجوز أن يعطفه على إِنِّي أُمِرْتُ داخلا في حيز قُلْ والخطاب لكل من المشركين، ولا يخفى تكلفه وتعسفه، وعدم صحة عطف على أَكُونَ ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا، وقوله سبحانه وتعالى عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة. وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول

صفحة رقم 105

أَخافُ والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط محذوف وجوبا. وما تقدم على الأداة شبيه به فهو دليل عليه وليس إياه على الأصح خلافا للكوفيين. والمبرد، والتقدير إن عصيت أخف أو أخاف عذاب إلخ، وقيل: صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم. وفي الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير المتكلم ما هو معلوم الانتفاء وقرن بأن التي تفيد الشك وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض. ويؤول المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف على نفسه المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلّى الله عليه وسلّم. وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثا ثم قال، وأجيب عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا فلا تدل إلا على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف، وأنت تعلم أن فيما قدمنا غنى عن ذلك. ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد وأنه لا يجب عليه شيء، وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وجاء في غير ما خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح يصفر وجهه الشريف ويقول: أخاف أن تقوم الساعة
مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي، وعيسى عليهما السلام، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد. وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة والسلام لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها
بقوله «خشيت أن تفرض عليكم»
مع أن ما كان ليلة الإسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على أن لله تعالى أن يفعل ما شاء وقصارى ما يلزم في أمثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء الله تعالى.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب، وضمير عَنْهُ يعود على مَنْ وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب. ومَنْ على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالا من الضمير.
وجوز أن يكون نائب الفاعل. وهل يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذ أم لا فيه خلاف فقيل: لا بد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف ويَوْمَئِذٍ له حكمه. وفي الدر المصون لا حاجة إليه لأن التنوين لكونه عوضا يجعل في قوة المذكور خلافا للأخفش. وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك، والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب وجوز أن تكون صفة عَذابَ. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم «من يصرف» على أن الضمير فيه لله تعالى. وقرأ أبي «من يصرف الله» بإظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو «يومئذ» بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه، ومَنْ في هذه القراءة أيضا مبتدأ.
وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرا للمحذوف، وأن يجعل منصوبا بيصرف ويجعل ضمير عَنْهُ للعذاب أي أي إنسان يصرف الله تعالى عنه العذاب فَقَدْ رَحِمَهُ أي الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعة فقد أحسنت

صفحة رقم 106

إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه، وعلى هذا يكون الكلام من قبيل- من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك-
«ومن كانت هجرته إلى الله تعالى»
الخبر، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل، وقيل: المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب.
ونقض بأصحاب الأعراف. وأجيب بأن قوله تعالى: وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ حال مقيدة لما قبله، والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: ١٨٥] وأنت تعلم أنه إذا قلنا: إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده، والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم.
وقال بعض الكاملين: إن ما في النظم الجليل نظير
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»
يعني بالشراء المذكور، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب، ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الأخبار. وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما معنى، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال. وأما كون الجواب ماضيا لفظا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي اه فليفهم.
والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن يُصْرَفْ وإما إلى الرحمة، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل.
ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو- على ما في القاموس- بمعنى الرحمة. ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير إليه، والفوز الظفر بالبغية، وآل لقصره على المسند إليه.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي ببلية كمرض وحاجة فَلا كاشِفَ أي لا مزيل ولا مفرج لَهُ عنك إِلَّا هُوَ والمراد لا قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من صحة وغنى فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: ١٠٧] ويظهر من هذا ارتباط الجزاء بالشرط.
وقيل: إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى، والمذكور تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر تؤكد أنه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها، وزعم أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار ذلك مكابرة، وأصل المس- كما قال أبو حيان- تلاقي الجسمين، والمراد به هنا الإصابة. وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير للتعدية (١) وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل: وإن يمسسك الله الضر. وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وغيره وبالفتح بضد النفع، وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر- على ما في البحر- لأن الشر أعم فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة، وقال ابن عطية: إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٨]

(١) كان في الأصل تحريف وأصلحناه من تفسير البحر المحيط.

صفحة رقم 107

فجيء بالجوع مع العري وبالظمأ مع الضحو وكان الظاهر خلافه. ومنه قول امرئ القيس:

كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسأل الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر. وكذلك قرن امرئ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر.
وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فإن انتقام العظيم عظيم. ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه، والآية من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إلخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ إلخ. وهي على ما قيل داخلة في حيز قُلْ والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولا نافية للجنس، وكاشِفَ اسمها ولَهُ خبرها والضمير المنفصل بدل من موضع فَلا كاشِفَ أو من الضمير في الظرف، ولا يجوز- على ما قال أبو البقاء- أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته. وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل أحدا سواه.
وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال حوائجه بربه عز وجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عز وجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى؟ وتستند هذه الجملة
إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بينما أنا رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: يا غلام احفظ الله تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا»
فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ويجد العزة برحمة الله عز وجل.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس، وقيل: إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة، وقيل: إن فَوْقَ زائدة. وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو كما ترى، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضا من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي. وغيره واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل،
وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله»
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي استشفع بالله

صفحة رقم 108

تعالى عليه: «ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب».
وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات»
وروى ابن ماجة يرفعه قال: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه». وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي:
شهدت بأن وعد الله حق... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد... ملائكة الإله مسومينا
فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه، وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله:
شهدت بإذن الله أن محمدا... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما... له عمل من ربه متقبل
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم... رسول أتى من عند ذي العرش مرسل
وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم... يقوم بذات الله فيهم ويعدل
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا أشهد.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: ١٧] أنه قال: لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم، والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: ١، الجاثية: ٢، الأحقاف: ٢]. وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: ١٠]. وبَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: ١٥٨]. وتَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: ٤].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم: «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء»
كثيرة جدا، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله تعالى يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] وعرشه فوق سبع سماوات فقال: قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه: هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل اه.
وأيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه

صفحة رقم 109

موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.
وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولا فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة. وقد استقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. وأما ثانيا فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلا لا يسمى قبلة أصلا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلا، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد. ثم سمع عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا.
وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال: الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائد ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضا تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، على أن في ذلك تنقيصا لله تعالى شأنه ففي المثل السائر:

ألم تر ان السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف خير من العصا
نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: ٣٩] وقوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:
٥٩] وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: ٧٣] فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا

صفحة رقم 110

إثباتا لئلا يثبتوا معنى فاسدا أو ينفوا معنى صحيحا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه. وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فإذا قيل: إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاه لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال: إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك، وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه. والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات ما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده وَهُوَ الْحَكِيمُ أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي أو المبالغ في الأحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير الْخَبِيرُ أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم. واللام هنا وفيما تقدم للقصر قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً
روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري ابن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو فأنزل الله تعالى هذه الآية،
والأول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها.
فأي مبتدأ وأَكْبَرُ خبره وشَهادَةً تمييز. والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال: شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن.
ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة الإطلاق محتجا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: ١٨٠] فقال: لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك، وفي المواقف وشرحه الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل: والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا يطلق، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول، ولو قيل: ليس بشيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: ٩] ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى.

صفحة رقم 111

وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظر إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا ثم قال: وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم. وعن الجهمية أنه اسم للحادث، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى. وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه، وقوله: إن أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء.
وإنكار أهل اللغة على من يقول: الموجود ليس بشيء لكونه سلبا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين. وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: ٢٣] وقال سبحانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠]
وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري يقول: لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ بن جبل.
والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف. وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن سيبويه.
ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة.
وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: ٩] إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة بالمعدوم وليس كذلك. فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: ٢٨٢، النساء: ١٧٦، النور: ٣٥، ٦٤، الحجرات: ١٦، التغابن: ١١] جمعا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية. ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا.
وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز وجل كإطلاق المعلوم مثلا، ومعنى أَكْبَرُ شَهادَةً أعظم وأصدق قُلِ اللَّهُ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى الجواب بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبا. والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة، وجوز العكس.
ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة، وقوله سبحانه:
شَهِيدٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فهو ابتداء كلام، وجوز أن يكون خبر اللَّهُ والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه

صفحة رقم 112

وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه: اللَّهُ فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أولا فليفهم وَأُوحِيَ إِلَيَّ من قبله تعالى: هذَا الْقُرْآنُ العظيم الشاهد بصحة رسالتي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ بما فيه من الوعيد. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب للمقام، وقيل: إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر، وفي الدر المصون أن الكلام على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بلغه القرآن فكأنما شافهته»
واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما
أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال «أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا: لا فخلى سبيلهم ثم قرأ وَأُوحِيَ إِلَيَّ الآية»
وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع، والحسن والقبح العقليان قد طوى بساط ردهما، وجوز أن يكون مَنْ عطفا على الفاعل المستتر في لِأُنْذِرَكُمْ للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن.
أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى جملة مستأنفة أو مندرجة في القول والاستفهام للتقرير أو للإنكار، وقيل: لهما، وفيه جمع بين المعاني المجازية وأُخْرى صفة لآلهة. وصفة جمع ما لا يعقل- كما قال أبو حيان- كصفة الواحدة المؤنثة نحو مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] ولله تعالى الأسماء الحسنى. ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا المجرى تحقيرا لها قُلْ لهم لا أَشْهَدُ بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف.
قُلْ تكرير للأمر للتأكيد إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو وما كافة.
وجوز أبو البقاء- وزعم أنه الأليق بما قبله- كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون واحِدٌ خبرا وهو خلاف الظاهر وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأصنام أو من إشراككم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ جواب عما سبق في الرواية الأولى من قولهم: سألنا اليهود والنصارى إلخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلى الجواب عن تحكمهم بقولهم: أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل، وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحليته ونعوته المذكورة فيهما، وفيه التفات، وقيل: الضمير للكتاب، واختاره أبو البقاء. والأول

صفحة رقم 113

هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلا. روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام: إن الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة؟ فقال ابن سلام: نعرف نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وايم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه:
وفقت وصدقت.
وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليته صلّى الله عليه وسلّم إما إن يكون باقيا وقت نزول الآية أولا بل محرفا مغيرا والأول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم.
وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام: ٩١] وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها، وبقولهم: إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤].
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتابين والمشركين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما يجب الإيمان به، وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بادعائه أن له جل شأنه شريكا وبقوله الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه، والاستفهام للاستعظام الادعائي. والمشهور أن المراد إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له، والتركيب وإن لم يدل على إنكار المساواة وضعا كما قال العلامة الثاني في شرح المقاصد وحواشي الكشاف يدل عليه استعمالا فإذا قلت: لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف، والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة.
وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على ما هو عليه فإن الافهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة. فإذا حكم بعض الناس مثلا بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا. كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من يساويه بل من يقاربه أيضا وهو المطلوب، وبالجملة أن إثبات المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل ففي الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل.
وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه. قال ابن الصائغ في مسألة الكحل: إن ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده

صفحة رقم 114

كالدابة انتهى. وأنت تعلم أن هذا مشعر باعتبار العرف أيضا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذب بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن سماها سحرا، وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلّى الله عليه وسلّم التي ذكرها الله تعالى فيه، وإنما ذكر أَوْ وهم جمعوا بين الأمرين إيذانا بأن كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس، وقيل: نبه بكلمة أَوْ على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا. أو يقال: إن من نفى الثابت بالبرهان يكون بنفي ما لم يثبت به أولى، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جمع بين المتناقضين من هذا الوجه.
وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب أن يكون ملكا.
ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء، وهذه التوجيهات لا ترفعه إِنَّهُ أي الشأن، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو لا يُفْلِحُ أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه الظَّالِمُونَ من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخرا وضمير نَحْشُرُهُمْ للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم وجَمِيعاً خال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت. وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل. وقدر ماضيا ليدل على التحقيق ويحسن عطف ثُمَّ لَمْ تَكُنْ إلخ عليه، وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم. واختاره أبو البقاء، وقيل: التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم إلخ ثُمَّ نَقُولُ للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة وأَيْنَ للسؤال عن غير الحاضر، وظاهر قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات: ٢٢] وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فأما أن يقال: إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل:

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلما رأوها أقشعت وتجلت
وإما أن يقال: إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد؟ فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضرا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم؟، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر لسؤال، وقوله تعالى:
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ إلى قوله سبحانه: وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: ٩٤]. وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم.
وقال شيخ الإسلام: إن هذا السؤال المنبئ عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب حسبما يحكيه قوله سبحانه: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس: ٢٨] إلخ ونحوه إما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث هي شركاء كما

صفحة رقم 115

يعرب عنه الوصف بالموصول، ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو لا.
وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيروا مكان حزنهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد. وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ. وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة اه.
وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها. ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه. مع أن كون هذا واقعا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ. وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه.
وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان سبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله: لأن عذاب البرزخ لا يقتضي إلخ ليس في محله، وكذا قوله: فكم من معذب في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد. وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر. وقرأ يعقوب «يحشرهم ثم يقول» بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى. وقوله سبحانه للمشركين: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إما بالواسطة أو بغير واسطة. والتكليم المنفي في قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ إلخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا. فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم. والزعم يستعمل في الحق كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «زعم جبريل عليه السلام» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك»
وقول سيبويه في أشياء يرتضيها: زعم الخليل، ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب. وكثيرا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمونهم شركاء.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة، واختلف في المراد هنا فقيل: الشرك، واختار هذا القول الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقا وأبعد مغزى. والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي.
وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لو لم يكن عاقبة شركهم شيئا إلا تبرئهم منه، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له: ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن

صفحة رقم 116

صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب، وقيل: المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له.
وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وأبي عبد الله، وقتادة، ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم، وقيل:
الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقا للمسبب على السبب، ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة قيل: والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها، وتَكُنْ بالتاء الفوقانية، وفِتْنَتُهُمْ بالرفع قراءة ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وقرأ حمزة، والكسائي «يكن» بالياء التحتانية و «فتنتهم» بالنصب، وكذا قرأ «ربنا» بالنصب على النداء أو المدح.
وقرىء في الشواذ «ربنا» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو توطئة لنفي إشراكهم. وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى. وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب «فتنتهم» أيضا، وخرجوا قراءة الأولين على أن «فتنتهم» اسم «تكن» وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث وأَنْ قالُوا خبره.
وقرأ حمزة والكسائي على أن «قالوا» هو الاسم ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر وفِتْنَتُهُمْ هو الخبر.
وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله:
وقد خاب من كانت سريرته العذر ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة، وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة، وقيل: إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي. ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي: إن ذلك من قبيل من كانت أمك؟ ونوقش بما لا طائل فيه، وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسما لأن أَنْ قالُوا يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما. وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع الأحكام، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في يوم نحشرهم إلخ على ما مرت الإشارة إليه. وجعلها غير واحد عطفا على الجملة قبلها وثُمَّ إما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم.
فيمكن أن يقال: إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما تنبىء عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان. ومما ينبىء على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم.
وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي، والقاضي، ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا. وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك. واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا أي في قولهم ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وأجابوا بأنه ليس المراد أنهم

صفحة رقم 117

كذبوا في الآخرة بل المراد انظر كيف كذبوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في الدنيا. ورد بأن الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدا. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضا قوله تعالى:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة:
١٨] بعد قوله سبحانه: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة: ١٤] حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا، ويشير إلى هذا التشبيه أيضا الأمر بالنظر كما لا يخفى على من نظر.
وذكر ابن المنير أن في الآية دليلا بينا على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل أخبارهم وتبرؤهم كذبا مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم، وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر. والمروي عن الحسن أن ما موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨] أو نحو ذلك. وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئا، وقيل: إن ما مصدرية أي ضل افتراءهم كقوله سبحانه: ضَلَّ سَعْيُهُمْ [الكهف: ١٠٤] أي لم ينفعهم ذلك. والجملة قيل: مستأنفة، وقيل: واختاره شيخ الإسلام أنها عطف على كَذَبُوا داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لا نظر لذلك. وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرؤوا بالمرة.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ كلام مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه. وضمير مِنْهُمْ للذين أشركوا. والاستماع بمعنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة، وقيل: إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر ابن الحارث، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبي بن خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.
وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأفرد ضمير مَنْ في يستمع وجمعه في قوله سبحانه وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً نظرا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل: هنا يَسْتَمِعُ وفي يَسْتَمِعُونَ [يونس: ٤٢] لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: ٤٣] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن.
والجعل بمعنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى لأن فعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة

صفحة رقم 118

كأكنة وأخبية إلا نادرا. وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال: كنه وأكنه كما قال الطبرسي وغيره، وفرق بينهما الراغب فقال:
أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره. والتنوين للتفخيم والواو للعطف. والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية، وقيل: الواو للحال أي وقد جعلنا. وعَلى قُلُوبِهِمْ متعلق بالفعل قبله.
وزعم أبو حيان أنه إن كان بمعنى ألقي فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني. والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه. وكذلك يفعلون في أمثاله، وجوز أن يكون مفعولا به لما دل عليه قوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه أَكِنَّةً وحده من ذلك وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما وثقلا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه. والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره.
وقرأ طلحة «وقرأ» بالكسر- وهو- على ما نص عليه الزجاج. حمل البغل ونحوه. ونصبه على القراءتين بالعطف على أَكِنَّةً كما قال أبو البقاء وَإِنْ يَرَوْا أي يشاهدوا ويبصروا كُلَّ آيَةٍ أي معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة. وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم.
والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم، ونقل عن بعضهم أنه لا بد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: ٤]. واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية بما كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم.
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي يخاصمونك وينازعونك. وحَتَّى هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها: حتى الابتدائية. ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافا للزجاج وابن درستويه زعما أنها في محل جر بحتى.
ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى: إِذا جاؤُكَ مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وما بينهما حال من فاعل جاؤوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم. وإِذا منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك، واعترض بأن جعل يُجادِلُونَكَ في موضع الحال ويَقُولُ الَّذِينَ جوابا مفض إلى جعل الكلام لغوا لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها.
ولا يخفى ما فيه فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقي صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد

صفحة رقم 119

عدم الإيمان بل يقولون إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها، وقال قتادة: كذبهم وباطلهم.
وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه. ونظير ذلك- مات الناس حتى الأنبياء- وجوز أن تكون حَتَّى هي الجارة وإِذا جاؤُكَ في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضا فلا جواب لها فيقول حينئذ: تفسير «ليجادلونك» وهو في موضع الحال أيضا. والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير، وقال بعضهم: له مفرد. وفي القاموس إنه جمع أسطار وأسطير بكسرهما وإسطور وبالهاء في الكل، وقيل:
جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع وأصل السطر بمعنى الخط وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ الضمير المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي، ولعل ذلك- كما قال شيخ الإسلام- هو السر في تأخير النأي عن النهي. وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه، وقيل: الضمير المجرور للرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى ينهون الناس عن الإيمان به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه، وهو التفسير الذي أخرجه أبناء جرير، والمنذر، وأبي حاتم، ومردويه من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج أيضا ابن جرير من طريق العوفي. وروي ذلك عن محمد ابن الحنفية، والسدي، والضحاك، وقيل: الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه والمجرور للنبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال: إن الآية نزلت في عمومة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في السر، وقيل: ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاما لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد، وقيل: إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله: قفا عند المازني، ولا يخفى بعده. وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا.
وروي عن مقاتل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال منشدا:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فنزلت هذه الآية.
وفيها على هذا القول والذي قبله التفات، ورد الإمام القول الأخير بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم. ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع. وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه.

صفحة رقم 120

والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية. ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد:

أعاذل إن يصبح صدى بقفرة بعيدة نآني زائري وقريبي
وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في «ينهون وينأون» من التجنيس البديع. وقرىء «وينون» عنه وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي وما يهلكون بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال. وقوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن أو النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق. على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو نظام عقد لآلىء الآيات القرآنية.
وجوز أن يكون الإهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم. ونفي الشعور- على ما في البحر- أبلغ من نفي العلم كأنه قيل. وما يدركون ذلك أصلا وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبا في نفسه. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من له أهلية ذلك قصدا إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص بها راء دون راء. ولَوْ شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل. ونظير ذلك قول امرئ القيس:
وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
وقولهم لو ذات سوار لطمتني. وتَرى بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه. والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال: أوقفته على كذا إذا فهمته وعرفته. واختاره الزجاج أي ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق.
وقيل: إن لو بمعنى إن وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى. وقرىء وُقِفُوا بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالبا الوقوف. ويستعمل وقف متعديا أيضا ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة.
وقيل: إنه بطريق القياس فَقالُوا لعظم أمر ما تحققوه يا لَيْتَنا نُرَدُّ أي إلى الدنيا. ويا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول:
أساطير الأولين. وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات، وقال شيخ الإسلام: يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها.
ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون. ونصب الفعلين- على ما قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج- بإضمار أن على جواب التمني. والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ورده أبو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن

صفحة رقم 121

الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال. وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن إسحاق «فلا نكذب»، واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل: ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين، وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي برفع الفعلين، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه: دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تركتني. ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله:

اليوم يومان مذ غيبت عن نظري نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر
وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على إنشاء. ومن النحاة من جوزه مطلقا، ونقله أبو حيان عن سيبويه، وجوز أن يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على نُرَدُّ أو حال من الضمير فيه، فالمعنى- كما قال الشهاب- على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودا بالذات هنا، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفا، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد.
وقرىء شاذا بعكس هذه القراءة بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشىء عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلا فكأنه قيل: بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه.
وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: ٤٣] وقوله عز من قائل: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: ١٤] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم: «ولا نكذب بآيات ربنا» مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسا لقوة الدليل، وقيل: المراد بما كانا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقيل: المراد به أمر البعث والنشور، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.

صفحة رقم 122

وقيل: الآية في المنافقين، والضمير المرفوع لهم، والمجرور للمؤمنين، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا، وقيل: هي في أهل الكتاب مطلقا أو علمائهم، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلّى الله عليه وسلّم، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام. وتعقب كل ذلك بأنه بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف، ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، ونقل عن المبرد أن الكلام على حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضا فتدبر.
وَلَوْ رُدُّوا من موقفهم ذلك إلى الدنيا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ولا يخفى حسنه، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه، وقيل: إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والإصرار وكون هذا جوابا لما مر من تمنيهم. وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذ كخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضا ما يصدهم.
وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب. وليس الكذب على الاحتمالين متوجها إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب. وقال الربعي: لا بأس بتوجه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه. واحتج على ذلك بقوله:

منى إن تكن حقا أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب، ولا يخفى ما فيه مع أنه لو سلّم فهو مجاز أيضا. وقيل:
الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب. واعترض بأن الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسألة، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الإنشاء، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذكره الراغب وَقالُوا عطف على لَعادُوا كما عليه الجمهور.
واعترضه ابن الكمال بأن حق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حينئذ أن يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه.
وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث. وجوز أن يكون عطفا على إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أو على خبر إن أو على نُهُوا والعائد

صفحة رقم 123

محذوف أي قالوه، وأن يكون استئنافا بذكر ما قالوا في الدنيا إِنْ هِيَ أي ما هي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي:

هو الجد حتى تفضل العين أختها وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مواضع، منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرا له كما هنا. وجعله بعضهم ضمير الشأن. ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة. وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفردا إما مطلقا أو بشرط كون المفرد عاملا عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناء على أنه حينئذ يسد مسد الجملة. وقيل- وفيه بعد-: يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في الذهن وهو الحياة. والمعنى أن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها. وهو المراد بقولهم: الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظاهر لا سيما الأخير.
وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلا وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة، وقيل: الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضا وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم، وقيل: هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل: ما عرفناك حق معرفتك، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه.
قالَ استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك؟ فقيل: قال:
إلخ. وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلا أَلَيْسَ هذا أي البعث وما يتبعه بِالْحَقِّ أي حقا لا باطلا كما زعمتم، وقيل: الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء، ولا دلالة في فَذُوقُوا عند أرباب الذوق على ذلك، والهمزة للتقريع على التكذيب قالُوا استئناف كما سبق بَلى هو حق وَرَبِّنا أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال تيقنهم بحقيقته وإيذانا بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعا بأن ينفعهم وهيهات قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى، ولعل هذا التوبيخ والتقريع- كما قيل- إنما يقع بعد ما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا إلا العذاب، ويحتمل العكس وأمر سهل قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ هم الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله تعالى والاستمرار عليه، والمراد به
لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم،
وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى، وصرح آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ أي الوقت المخصوص وهو يوم القيامة، وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت المعلوم كالنجم للثريا، وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه. وفسرها بعضهم هنا بوقت الموت، والغاية المذكورة للتكذيب.
وجوز أن تكون غاية للخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذ على حد قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي

صفحة رقم 124

إِلى يَوْمِ الدِّينِ
[ص: ج ٧٨] أي أنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فإذا جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل: خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين بَغْتَةً أي فجأة وبغتة بالتحريك مثلها، وبغتة كمنعه فجأة أي هجم عليه من غير شعور، وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل جاءَتْهُمُ أي مباغته أو من مفعوله أي مبغوتين، وجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقرى أو لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره.
وقوله سبحانه وتعالى: قالُوا جواب إذا يا حَسْرَتَنا نداء للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل: يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك، قيل: وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من مات فقد قامت قيامته»
أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة، وقال أبو البقاء: التقدير يا حسرة احضري هذا أوانك، وهو نداء مجازي ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها، ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى حسنه.
عَلى ما فَرَّطْنا أي على تفريطنا، فما مصدرية فالتفريط التقصير فيما قدر على فعله، وقال أبو عبيدة: معناه التضييع، وقال ابن بحر: معناه السبق ومنه الفارط للسابق. ومعنى فرط خلا السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدت البعير أزلت جلده وسلبته فِيها أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن، والمراد من التفريط في الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان والأعمال الصالحة.
وقيل: الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي ولا يخفى بعده، وقول الطبرسي ويدل عليه ما
رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حَسْرَتَنا إلخ
لا يخلو عن نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال، وعن محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفة لدلالة الخسران عليها وهو بعيد أيضا، ومثل ذلك ما قيل: إن ما موصولة بمعنى التي، والمراد بها الأعمال والضمير عائد إليها كأنه قيل يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها، نعم مرجع الضمير على هذا مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فإنه غير مذكور فيه بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول الأول عند بعض فتدبر وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ في موضع الحال من فاعل قالُوا وهي حال مقارنة أو مقدرة. والوزر في الأصل الثقل ويقال للذنب وهو المراد هنا أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وذكر الظهور لأن المعتاد الأغلب الحمل عليها كما في- كسبت أيديكم- فإن الكسب في الأكثر بالأيدي. وفي ذلك أيضا إشارة إلى مزيد ثقل المحمول، وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظهر من باب الاستعارة التمثيلية، والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب، وقيل: حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك؟ قال كذلك كان عملك قبيحا قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتنا قال: ما أدنس ثيابك؟ فيقول: إن عملك كان دنسا قال: من أنت؟ قال: أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار،
وأخرجا عن عمرو بن قيس قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن شيء صوره وأطيبه

صفحة رقم 125

ريحا فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: ٨٥] وإن كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله تعالى قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيّء طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا وَهُمْ يَحْمِلُونَ الآية.
وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلا أيضا. ولا مانع من الحمل على الحقيقة وإجراء الكلام على ظاهره، وقد قال كثير من أهل السنة بتجسيم الأعمال في تلك الدار وهو الذي يقتضيه ظاهر الوزن.
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ تذييل مقرر لما قبله وتكملة له، وساءَ تحتمل- كما قيل- هنا ثلاثة أوجه، أحدها أن تكون المتعدية المتصرفة وزنها فعل بفتح العين، والمعنى ألا ساءهم ما يزرون وما موصولة أو مصدرية أو نكره موصوفة فاعل لها والكلام خبر، وثانيها أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين وأشربت معنى التعجب، والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم. وثالثها أنها حولت أيضا للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى والأحكام.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون بين جل شأنه حال تينك الحياتين في أنفسهما وجعله بعضهم جوابا لقولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وفيه بعد، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات، وبهذا التقدير خرج- كما قال غير واحد- ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة إنما كان لضرورة المعاش، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف، وجعلت الدنيا نفسها لعبا ولهوا مبالغة كما في قوله:
وإنما هي إقبال وإدبار صح، واللهو واللعب- على ما في درة التنزيل- يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراما أو لا وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وإذا أطلق اللهو فهو- على ما قيل- اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله:

ألا زعمت بسياسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
وقال قتادة: اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل: اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به، وقيل: إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، وقيل: العاقل المشتغل بشيء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو، وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقا للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدما على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها

صفحة رقم 126

ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: ٦٤] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه، وأيام السرور فصار كما قيل:
وليلة إحدى الليالي الزهر... لم تك غير شفق وفجر
وينزل على هذا الوجوه في الفرق، وتفصيله في الدرة قاله مولانا شهاب الدين فليفهم وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ التي هي محل الحياة الأخرى خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام أَفَلا تَعْقِلُونَ ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون، وكان الظاهر أن يقال- كما قال الطيبي- وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ إلا أنه وضع خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب، وقال في الكشف: إن في ذلك دليلا على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة.
وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم، وقرأ ابن كثير وغيره «يعقلون» بالياء والضمير للكفار القائلين إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وقيل: للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل. قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة، وكلمة قد للتكثير وهو- كما قال الحلبي رادا به اعتراض أبي حيان- راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى، وقال السفاقسي: قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناء على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي:
قد أترك القرن مصفرا أنامله... كأن أثوابه مجت بفرصاد
وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم. وكلام سيبويه حيث قال: وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصا في ذلك وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به. وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان.
وقول أبي حيان: إن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرا لم يكن قرنا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي.
وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا ويتناقض أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل، وقد يراد به في بعض المواضع ضده. وهو من

صفحة رقم 127

باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذى قومه وتكذيبهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم.
ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى، وضمير إِنَّهُ للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله، وهو ما حكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: ٢٥، الأنفال: ٣١، المؤمنون: ٨٣، النمل: ٦٨] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة إِنَّهُ إلخ سادة مسد مفعولي يعلم.
وقرأ نافع «ليحزنك» من أحزن المنقول من حزن اللازم، وقوله سبحانه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلّى الله عليه وسلّم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلّى الله عليه وسلّم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] إيذانا بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلّى الله عليه وسلّم في شأن الله عز وجل. وفيه أيضا استعظام لجنايتهم منبىء عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه، وقيل: إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة:
٥٤] فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله:

إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
وقيل: إن أل في الظَّالِمِينَ إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد، لا يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاما لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفى ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه. والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب، وقيل: إنه إنما يتعدى بنفسه والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل: إنها تعليل لقوله سبحانه:
قَدْ نَعْلَمُ إلخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل فكأنه قيل: لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى أنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما
رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلّى الله عليه وسلّم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة

صفحة رقم 128

والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وكذا ما
أخرجه الواحدي عند مقاتل قال: كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى الآية،
وقيل: المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي، وأيد بما
أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة.
واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلّى الله عليه وسلّم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه، وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق وقال الطيبي: مرادهم أنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل: معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل:
المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظَّالِمِينَ من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل: غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل.
وقرأ نافع، والكسائي والأعمش عن أبي بكر
«لا يكذبونك» من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه،
ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل وقيل: معنى أكذبته وجدته كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول:
كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية إثر تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية، وتنوين رُسُلٌ للتفخيم والتكثير، ومن متعلقة بكذبت وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان، وفيه منع ظاهر، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا ما مصدرية وقوله: وَأُوذُوا عطف على كُذِّبُوا داخل في حكمه ومصدر كذب التكذيب، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره، وقول صاحب القاموس: ولا تقل إيذاء خطأ، والذي غره ترك الجوهري وغيره له، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبا، وفيه تأكيد للتسلية، وجوز العطف على كُذِّبَتْ أو على فَصَبَرُوا، وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافا ثم رجح الأول.
وقوله سبحانه: حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا غاية للصبر، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين، وجوز أن يكون غاية

صفحة رقم 129

للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.
وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى- كما قال الكلبي- وقتادة- الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] وقوله عز شأنه: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: ١٧٢].
وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلّى الله عليه وسلّم دخولا أوليا، والالتفات إلى الاسم الجليل- كما قيل- للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال، وظاهر الآية أن أحدا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز وجل بمعنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم، والنبأ كالقصص لفظا ومعنى.
وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفا في ذلك لسيبويه فاعل «جاء»، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا منه، وقيل: وإليه يشير كلام الرماني- أنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا، وقال أبو حيان:
الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه.
وقيل- وربما يشعر به كلام الكشاف-: أن من هي الفاعل، والمراد بعض أنبائهم وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي شق وعظم وأتى بكان- على ما قيل- ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا لأن كانَ لقوة دلالته على المضي لا تقلبه إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال، وهو مذهب المبرد، والنحويون يؤولون ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه كبر عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ أي الكفار عن الإيمان بك وبما جئت به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وينبىء عنه فعلهم من النأي والنهي، ولعل التعبير بالإعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبىء عنه قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ كانت عنه لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل كَبُرَ، وتقديم الجار والمجرور لما مر مرارا. والجملة خبر كانَ مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن. ولا حاجة إلى تقدير قد، وقيل: اسم كان إِعْراضُهُمْ، وكَبُرَ مع فاعله المستتر الراجع إلى الاسم خبر لها مقدم على اسمها، والكلام استئناف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلا.
وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في محضر من قريش فقالوا: يا محمد ائتنا بآية من عند الله تعالى كما كانت الأنبياء تفعل وإنا نصدقك فأبى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام لما أنه كان صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعا في إيمانهم فنزلت فَإِنِ اسْتَطَعْتَ
أي إن قدرت وتهيأ لك أَنْ

صفحة رقم 130

تَبْتَغِيَ
أي تطلب نَفَقاً فِي الْأَرْضِ هو السرب فيها له مخلص إلى مكان كما في القاموس، وأصل معناه جحر اليربوع، ومنه النافقاء لأحد منافذه. ويقال لها النفقة كهمزة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى من القاصعاء ضربها برأسه فانتفق ومنه أخذ النفاق، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة «نفقا» والكلام على التجريد في رأي، وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالا من ضميره المستتر أي نفقا كائنا في الأرض أو تبتغي في الأرض أو تبتغي أنت حال كونك في الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ أي مرقاة فيها أخذا من السلامة. قال الزجاج: لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك.
وهو كما قال الفراء: مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور: ٣٨] ثم قال:
وأنشدت في تأنيثه بيتا أنسيته انتهى.
قال الغضائري: البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو:

لنا سلم في المجد لا يرتقونها وليس لهم في سورة المجد سلم
وأنشدوا أيضا في تذكيره:
الشعر صعب وطويل سلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
يريد أن يعربه فيعجمه وفي السَّماءِ نظير ما في الجار قبله من الاحتمالات فَتَأْتِيَهُمْ أي منهما بِآيَةٍ مما اقترحوه من الآيات. والفاء في صدر هذه الشرطية جوابية وجواب الشرط فيه محذوف. ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر أو فافعل فعل أمر والجملة جواب للشرط الأول، والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحا ليؤمنوا فإن استطعت كذا فتأتيهم بآية فافعل، وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إيمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الإيماء إلى توبيخ القوم أو المعنى إن شق عليك إعراضهم فلو قدرت أن تأتي بالمحال أتيت به، والمقصود بيان أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية، وفيه إشعار ببعد إسلامهم عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر، وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه.
وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية، فالفاء في فَتَأْتِيَهُمْ حينئذ تفسيرية وتنوين «آية» للتفخيم، والمعنى عليه فإن استطعت ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت.
ورده أبو حيان بأن هذا لا يظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي آية، وأيضا فأي آية في دخول سرب في الأرض وإن صح أن يكون الرقي إلى السماء آية، وما ذكرناه من أن إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان. ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إن المراد فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب، وأيد بما أخرجه الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أخبرني عن قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ فقال رضي الله تعالى عنه سربا في الأرض فتذهب هربا وفيه بعد، وخبر ابن الأزرق قد قيل فيه ما قيل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي لو شاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزال، وقالت المعتزلة: المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك

صفحة رقم 131

لخروجه عن الحكمة، والحق ما عليه أهل السنة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي إذا عرفت أنه سبحانه لم يشأ هدايتهم وإيمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على إسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق شؤونه تعالى، وجوز أن يراد بالجاهلين- على ما نقل عن المعتزلة- المقترحون، ويراد بالنهي منعه صلى الله تعالى عليه وسلّم من المساعدة على اقتراحهم، وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق مناط النهي.
وقال الجبائي: المراد لا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم والأول أولى، وفي خطابه سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح عليه السلام من قوله سبحانه له: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: ٤٦] إشارة إلى مزيد شفقته صلّى الله عليه وسلّم واشتداد حرصه عليه الصلاة والسلام فافهم هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: ١٣] يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل: وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي ناصرا ومعينا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ فهو الغنى المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ نفسه لربه عز شأنه. والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي: كن أول من أسلم فكنت، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من
قوله صلّى الله عليه وسلّم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلّى الله عليه وسلّم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام فهو صلّى الله عليه وسلّم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي وقيل لي: لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء وَهُوَ الْحَكِيمُ أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة الْخَبِيرُ الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بإظهار المعجزات، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلّى الله عليه وسلّم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: ١٤٦] وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإثبات وجود غيره تعالى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فأظهر صفات نفسه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بإثبات الغير أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء ولهم وجود ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ لامتناع وجود شيء نشركه

صفحة رقم 132

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها وَضَلَّ أي ضاع عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فلم يجدوه وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ من حيث أنت وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً حسبما اقتضاه استعدادهم أَنْ يَفْقَهُوهُ وهي ظلمات النفس الأمارة وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وهو وقر الضلالة وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وهي نار الحرمان فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا من تجليات صفاته وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي الموحدين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ لرسوخ ذلك فيهم وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكه فيهم وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ الآية قال بعض أهل التأويل: هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق. والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول لا يكون إلا كرها والثاني يكون طوعا ورغبة، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الكهف: ٢٨] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت، ومن وقف مع الصفات. وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران. وليس هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف. والمشرك موقوف أولا على الرب فيحجب بالرد والطرد اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة: ١٧٤، آل عمران: ٧٧] ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [الزمر: ٧٢] ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على النار متأخرا عن وقفه على الرب تعالى معلولا له كما قال تعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: ٧٠] وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على
الملكوت ثم على النار. وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى. فتأمل فيه قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وهي القيامة الصغرى أعني الموت. حكي عن بعض الكبار أنه قيل له: إن فلانا مات فجأة فقال: لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تصوير لحالهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي عالم الروحانيات خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ لمقتضى البشرية الَّذِي يَقُولُونَ ما يقولون فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ التي تجلى بها يَجْحَدُونَ فهو سبحانه ينتقم منهم وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نصرنا فتأس بهم وانتظر الغاية وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

صفحة رقم 133
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية