
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ... (١٥٣)
* * *
(الواو) واو العطف، فهي عاطفة هذه الآية على ما قبلها من الوصايا، و (أنَّ) مفتوحة، فهي ليست صدر جملة مبتدأة، بل مصدر منسبك مع ما بعدها، وعاملها (اتل)، واتل عليهم، وبين لهم أن هذا صراطي مستقيما لَا عوج فيه، والصراط: الطريق، فطريق الله تعالى مستقيم، والمستقيم أقرب طريق يوصل إلى الحق، كما أن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتين.
والإشارة إلى ما يبينه الله تعالى من ضلال الذين يحرمون ما أحل الله، وبيان ما أحل وما حرم وبيان ضلال من قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وما بينه الله تعالى من نهي عن الشرك، وطلب الإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قتل الأولاد من إملاق، والنهي عن القرب من الفواحش والنهي عن قتل النفس التي حرم الله قتلها، والأمر بالإحسان إلى اليتيم ووفاء الكيل والميزان، والعدل في القول والوفاء بعهد الله.
كل هذه المعاني، أو جماعها هو طريق الله تعالى وهو طريق مستقيم، وقوله تعالى (مُسْتَقِيمًا) حال من اسم الإشارة.
والطريق المستقيم الذي هو صراط الله، والذي هو الخط الذي بينه الله تعالى لعباده يجيء بجواره سبل مختلفة هي مثارات الشيطان يضل بها عباد الله تعالى عن الطريقة المثلى، والمنهاج السوي الهادي.
ولقد روى ابن مسعود قال: خَطَّ رسول الله - ﷺ - خطًّا بيده، ثم قال - ﷺ -: " هذا سبيل مستقيم " وخط عن يمينه، وعن شماله ثم قال: " هذه السبل ليس

منها سبيل إلا على رأسه شيطان يدعو إليه "، ثم تلا قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) " (١).
ومعنى قوله تعالى (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) أن هذه السبل التي هي مثارات الشيطان فيها أمران يخرجان بهما عن سبيل الله.
أولهما - أنها آثام لَا استقامة فيها بل هي معوجات مضلة. وثانيها - أنها مع ما فيها من إثم تبعد عن الحق وتتفرق في باطلها، فهي لَا تلتقي مع الخط المستقيم، وتتفرق بعضها عن بعض.
جاء في سنن ابن ماجه بسنده عن العِرْباض بن سارية قال: " وعظنا رسول الله - ﷺ - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة موح فما تعهد إلينا، فقال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرَى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي. عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا، وإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد " (٢).
اللهم إن اتباع السبل المتفرقة التي هي مثارات الشيطان، والتي على كل رأس منها شيطان هي التي فرقت أمتك وجعلت بأسها بينها شديدا، اللهم فاهدها إلى صراطك المستقيم.
وإن هذا الصراط هو جماع التوصيات، ولذا قال الله تعالى:
(ذَلِكُمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ويصح أن نعد هذه الوصية العاشرة، وتكون الوفاء بالكيل والميزان وصية واحدة، وهو أولى والإشارة إلى الصراط المستقيم
________
(١) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (٤١٣١)، والدارمي: المقدمة - في كراهية الرأي (٢٠٢).
(٢) رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة الخلفاء الراشدين (٤٤)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٦٩٢) من حديث الْعِرباض بن سَاريَةَ رضي الله عنه.

وصى الله تعالى به، أي أمرنا بالوقوف على هدى الله في هذا الصراط أمرا مشددا بألا نحيد عنه، لأن التفرق فيه يجعل أمرنا سددا بددا، لَا تجمعنا فيه جامعة، ولا نسلك طريق هداية، ولذلك قرر بعد هذه التوصية المؤكدة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي رجاء أن تمتلئ قلوبكم بتقوى الله تعالى، وأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، ولعلكم أن ترجو رحمته بعد خوف عقابه، فإن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى.
* * *
الرسالة المحمدية حجة على المشركين
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
* * *

بين الله تعالى صراطه المستقيم، وهو صراط القرآن العظيم، وقد أشرنا من قبل إلى أن هذه وصايا الأديان كلها، ومن بعد ذلك أشار سبحانه وتعالى إلى شريعة موسى مبينة مع شريعة القرآن ليعلم العرب أن ما جاء به النبي - ﷺ - وما نزل عليه من قرآن هو تكملة للرسالة الإلهية، فقال تعالى:
صفحة رقم 2744