
(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
* * *
إن الولاء يُصْلح، وَيُفسد، فإذا كان الولي صالحا صلح به من والاه، وإذا كان فاسدًا أفسد من والاه، وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) التشبيه فيه هو تشبيه حال الناس في تأثير بعضهم في بعض بالفساد، بحال تولي

شياطين الجن أو شياطين الإنس يغرونهم بالفساد، ويحسب أولئك أنهم يستمتعون، أو يستمتع بعضهم ببعض، وكلمة (نولي) ما المراد منها أهي الولاية بمعنى السلطان، ويكون المعنى، وكذلك نجعل بعض الظالمين ولاة على ظالمين مثلهم، فيفسد الأمر ويضطرب الحال، ويكون الفساد في الأرض، بدل الصلاح فيها، وهذا يفيد أن ظلم الولاة يكون بسبب ظلم الرعية فيما بينها، كما روى " كيفما تكونوا يولى عليكم " (١) وأن فساد الرعية يؤدي إلى ألا يحكمها إلا راع ظالم، فإنهم يتعاونون على الظلم والعدوان، ولا يتعاونون على البر والتقوى، وإن الوالي الظالم يجد العون على ظلمه من الرعية نفسها، وهذا منهي عنه بقوله): " من أعان ظالما سلط الله تعالى عليه ظالما " (٢) وقد رأينا ذلك، وإنه إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منع ظلم الرعية، ولقد قال النبي - ﷺ -: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (٣).
ووجه الشبه في الظلم بين الراعي والرعية بالتولي بين الجن والإنس، بإغراء الأولين وتلقى الآخرين وأن كليهما ظالم.
هذا إذا فسرنا التولية بمعنى السلطان، سلطان الظالم من الحكام على الرعية الظالمة الفاسدة، ويرشح لهذا المعنى قوله تحمالي: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما كانت الرعية تكسب من ظلم في نفسها، وظلم في معاملاتها وفساد فيما بينهم يفسدون ولا يصلحون، فيجيء حكام على شاكلتهم فيتشاكلون فيما بينهم، يحكمون بمثل أخلاقهم.
________
(١) جاء في كشف الخفا: ج ٢، ص ١٨٤ بلفظ: " كما تكونوا يولى عليكم، وقال في الأصل رواه الحاكم، ومن طريق الديلمي عن أبي بكرة مرفوعا، وأخرجه البيهقي بلفظ: " يؤمر عليكم!، وذكر أيضا أنه رواه الطبراني.
(٢) رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه، وفيه ابن زكريا العدوي. متهم بالوضع. كما في المقاصد. وراجع أيضا: كشف الخفاج ٢، ص ٣١٥.
(٣) رواه أبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (٤٣٣٦)، كما رواه الترمذي أحمد وابن ماجه بنحوه.

وقد يكون معنى تولية الظالمين بعضهم بعضا، بمعنى الولاء النفسي، والتشاكل الخلقي، فكما أن الإغراء يكون من الجن للإنسان، فكذلك يكون الإغراء بالشر بوسوسة الولي لوليه، كالصديق للصديق، وإن الأولياء الظالمين يسري بينهم الظلم سريان المرض بين المرضى، فإن السلامة لَا تنتقل بالعدوى، ولكن العدوى تنتقل من المرضى، ومثل الظالمين كمثل المرضى يسرى الظلم فيهم، فيتظالمون، ويتبادلون الظلم، ويسري من بعضهم إلى بعض.
وعندي أن الآية الكريمة تحتمل التخريجين، ولا مانع من الجمع بينهما، والتشابه قائم في الحالين.
* * *
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
* * *
بعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى يكشف يوم الحشر استغواء الجن لأوليائهم من الإنس، واستكثارهم من ذلك، وشعور الإنس بأنهم انتفعوا انتفاع متعة لَا انتفاع مصلحة، بعد ذلك بين تقصيرهم جميعا، وأنهم مخاطبون جميعا بهذا التقصير، وأنهم خوطبوا جميعا بالرسل، فما استجابوا للحق فقال تعالى: