
المنَاسَبَة: لما ذكر سبحانه أن البشر فريقان: مهتد وضال، وذكر أن منهم من شرح الله صدره وأنار قلبه فآمن واهتدى، ومنهم من اتبع الهوى وسار بقيادة الشيطان فضلً وغوى، ذكر هنا أنه سيحشر الخلائق جميعاً يوم القيامة للحساب، لينال كلٌّ جزاءه العادل على ما قدّم في هذه الحياة.
اللغَة: ﴿مَثْوَاكُمْ﴾ مأواكم يقال ثوى بالمكان إِذا أقام فيه ﴿يَقُصُّونَ﴾ يحكون يقال قصًّ الخبر يقصُّه قصاً أي حكاه ﴿ذَرَأَ﴾ خلق ﴿الحرث﴾ الزرع ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ الإِرداء: الإِهلاك يقال أرادهُ يرديه أي أهلكه ﴿حِجْرٌ﴾ الحِجر: الحرام وأصله المنع يقال حجره أي منعه والحِجْر: العقل سمي به لأنه يمنع عن القبائح قال تعالى ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ﴾ [الفجر: ٥] ﴿سَفَهاً﴾ حماقة وجهالة والسَّفه: خفة العقل.
التفِسير: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي اذكر يوم يجمع الله الثقلَين: الإِنس والجن جميعاً للحساب قائلاً ﴿يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس﴾ أي استكثرتم من إِضلالهم وإِغوائهم قال ابن عباس: أضللتم منهم كثيراً، وهذا بطريق التوبيخ والتقريع ﴿وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ أي وقال الذين أطاعوهم من الإِنس ربنا انتفع بعضنا ببعض قال البيضاوي: انتفع الإِنس والجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إِليها، وانتفع الجنُّ بالإِنس بأن أطاعوهم وحصّلوا مرادهم ﴿وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ أي وصلنا إِلى الموت والقبر ووافينا الحساب، وهذا منهم اعتذارٌ واعترافٌ بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتحسر على حالهم ﴿قَالَ النار مَثْوَاكُمْ﴾ أي قال تعالى رداً عليهم النارً موضع مقامكم وهي منزلكم ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي ماكثين في النار في حال خلودٍ دائم إِلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدوا فيها قال الطبري: هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وقال الزمخشري: يخُلدون في عذاب النار الأبد كلَّه إلا ما شاء الله أي إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد رُوي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير فيتعَاوَوْن ويطلبون الرد إِلى الجحيم ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ أي حكيم في أفعاله عليم بأعمال عباده ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي كما متعنا الإِنس والجن بعضهم ببعض نسلّط بعض الظالمين على بعض بسبب كسبهم للمعاصي والذنوب قال القرطبي: وهذا تهديد للظالم إِن لم يمتنع من ظلمه سلّط الله عليه ظالماً آخر قال ابن عباس: إِذا رَضِيَ اللَّهُ عَنْ قوم ولّى أمرهم خيارهم، وإِذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم وعن مالك بن دينار قال: قرأتُ في بعض كتب الحكمة إِن الله تعالى يقول: «إِني أنا الله مالك

الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشْغلوا أنفسكم بسبّ الملوك ولكن توبوا إِليَّ أعطفْهم عليكم»
﴿يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ هذا النداء أيضاً يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم تأتكم الرسل يتْلون عليكم آيات ربكم؟ ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم الشديد؟ ﴿قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا﴾ أي لم يجدوا إِلا الإِعتراف فقالوا: بلى شهدنا على أنفسنا بأن رسلك قد أتتنا وأنذرتنا لقاء يومنا هذا قال ابن عطية: وهذا إقرارٌ منهم بالكفر واعتراف على أنفسهم بالتقصير كقولهم ﴿قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا﴾ [الملك: ٩] ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي خدعتهم الدنيا بنعيمها وَبَهْرجِها الكاذب ﴿وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ أي اعترفوا بكفرهم قال البيضاوي: وهذا ذمٌ لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإِنهم اغتروا الحياة الدنيا ولذاتها الفانية، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا بالشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلّد تحذيراً للسامعين من مثل حالهم ﴿ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ أي إِنما فعلنا هذا بهم من إِرسال الرسل إِليهم لإِنذارهم سوء العاقبة لأن ربك عادل لم يكن ليهلك قوماً حتى يبعث إِليهم رسولاً قال الطبري: أي إِنما أرسلنا الرسل يا محمد يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم من أجل أن ربك لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعير ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ أي ولكل عاملٍ بطاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يلقاها في آخرته إِن كان خيراً فخير، وإِن كان شراً فشر، قال ابن الجوزي: وإِنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي ليس الله بلاهٍ أو ساهٍ عن أعمال عباده، وفي ذلك تهديد ووعيد ﴿وَرَبُّكَ الغني﴾ أي هو جل وعلا المستغني عن الخلق وعبادتهم، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ﴿ذُو الرحمة﴾ أي ذو التفضل التام قال ابن عباس: ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته، وقال غيره: بجميع الخلق ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين قال أبو السعود: وفيه تنبيهٌ على أنَّ ما سلف ذكره من الإِرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أي لو شاء لأهلككم أيها العصاة بعذاب الاستئصال ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ﴾ أي وأتى بخلقٍ آخر أمثل منكم وأطوع ﴿كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أي كما خلقكم وابتدأكم من بعد آخرين كانوا قبلكم قال أبو حيان: وتضمنت الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بالإِهلاك ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ أي ما توعدونه من مجيء الساعة والحشر لواقعٌ لا محالة ﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أي لا تخرجون عن قدرتنا وعقابنا وإِن ركبتم في الهرب متن كل صعبٍ وذَلول ﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد يا قوم اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي واعملوا ما أنتم عاملون، والأمر هنا للتهديد كقوله
﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ﴿إِنَّي عَامِلٌ﴾ أي عاملٌ ما أمرني به ربي من الثبات على دينه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ

الدار} أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم؟ ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا ينجح ولا يفوز بمطلوبه من كان ظالماً قال الزمخشري: في الآية طريقٌ من الإِنذار لطيف المسلك، فيه إِنصاف في المقال وأدبٌ حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأن المُنْذر محِقٌ، والمْنذَر مبطل ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً﴾ أي جعل مشركو قريش لله ممّا خلق من الزرع والأنعام نصيباً ينفقونه على الفقراء ولشركائهم نصيباً يصرفونه إِلى سدنتها قال ابن كثير: هذا ذمٌ وتوبيخٌ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً، وجعلوا لله شركاء وهو خالق كل شيء سبحانه ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ أي خلق وبرأ من الزرع والثمار والأنعام جزءاً وقسماً ﴿فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ﴾ أي قالوا: هذا نصيب الله بزعمهم أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع قال في التسهيل: وأكثرُ ما يقال الزعم في الكذب ﴿وهذا لِشُرَكَآئِنَا﴾ أي وهذا النصيب لآلهتنا وأصنامنا قال ابن عباس: إِنَّ أعداء الله كانوا إِذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما اكن من حرثٍ أو ثمرةٍ أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإِن سقط منه شيء فيما سُمي لله ردّوه إِلى ما جعلوه للوثن وقالوا إِن الله غنيٌّ والأصنام أحوج ولهذا قال: ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله﴾ أي ما كان للأصنام فلا يصل إلى الله منه شيء ﴿وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ﴾ وما كان من نصيب الله فهو يصل إِلى أصنامهم قال مجاهد: كانوا يسمُّون جزءاً من الحرث لله وجزءاً لشركائهم وأوثانهم فما ذهبت به الريح من نصيب الله إلى أوثانهم تركوه وما ذهب من نصيب أوثانهم إلى نصيب الله ردوه، وكانوا إِذا اصابتهم سَنَةٌ «قحط» أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي بئس هذا الحكم الجائر حكمهم ﴿وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ أي مثل ذلك التزيين في قسمة القربان بين الله وبين آلهتهم زيَّن شياطينُهم لهم قتل أولادهم بالوأد أو بنحرهم لآلهتهم قال الزمخشري: كان الرجل في الجاهلية يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ أي ليهلكوهم بالإِغواء ﴿وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ أي وليخلطوا عليهم ما كانوا عليهم من دين إِسماعيل عليه السلام ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله ما فعلوا ذلك القبيح ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أي دعْهم وما يختلقونه من الإِفك على الله، وهو تهديد ووعيد ﴿وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ هذه حكاية عن بعض قبائحهم وجرائمهم أيضاً أي قال المشركون هذه أنعام وزروع أفردناها لآلهتنا حرام ممنوعة على غيرهم ﴿لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ﴾ أي من خَدمة الأوثان وغيرهم ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ أي بزعمهم الباطل من غير حجة ولا برهان ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ أي لا تركب كالبحائر والسوائب والحوامي ﴿وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا﴾ أي عند الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام ﴿افترآء عَلَيْهِ﴾ أي كذباً واختلاقاً على الله ﴿سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي سيجزيهم على ذلك الافتراء، وهو تهديد شديد ووعيد {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ
صفحة رقم 390
لِّذُكُورِنَا} هذا إِشارة إِلى نوع آخر من أنواع قبائحهم أي قالوا ما في بطون هذه البحائر والسوائب حلال لذكورنا خاصة ﴿وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ أي لا تأكل منه الإِناث ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ﴾ أي وإِن كان هذا المولود منها ميتةً اشترك فيه الذكور والإِناث ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أي سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم ﴿إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ﴾ أي والله لقد خسر هؤلاء السفهاء الذين قتلوا أولادهم قال الزمخشري: نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر ﴿سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي جهالة وسفاهة لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله هو الرازق لهم ولأولادهم ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله﴾ أي حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة وشبهها ﴿افترآء عَلَى الله﴾ أي كذباً واختلافاً على الله ﴿قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي لقد ضلوا عن الطريق المستقيم بصنيعهم القبيح وما كانوا من الأصل مهتدين لسوء مسيرتهم، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: إِذا سرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ﴿قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس﴾ أي أفرطتم في إِضلال وإِغواء الإِنس، ففيه إِيجاز بالحذف ومثله ﴿استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ أي استمتع بعض الإِنس ببعض الجن، وبعضُ الجن ببعض الإِنس.
٢ - ﴿النار مَثْوَاكُمْ﴾ تعريف الطرفين لإِفادة الحصر.
٣ - ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
٤ - ﴿وَلِكُلٍّ﴾ أي لكل من العاملين فالتنوين عوضٌ عن محذوف.
٥ - ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ صيغة الاستقبال ﴿تُوعَدُونَ﴾ للدلالة على الاستمرار التجددى، ودخولُ إِنَّ واللام على الجملة للتأكيد لأن المخاطبين منكرون للبعث لذا أكّد الخبر بمؤكدين.
٦ - ﴿مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله﴾ إظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لإِظهار كمال عتوهم وضلالهم أفاده أبو السعود.
الفوَائِد: الأولى: قال السيوطي في الإِكليل: قوله تعالى ﴿وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً﴾ الآية في معنى حديث «كما تكونون يولَّى عليكم» وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيتَ ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجباً.
الثانية: الجمهور على أن الرسل من الإِنس ولم يكن من الجن رسول وقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ﴾ هو من باب التغليب كقوله ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرجان من البحر المالح دون العذب.

الثالثة: ذكر القرطبي في تفسيره «أن رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يزال مغتماً بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له الرسول: مالك تكون محزوناً؟ فقال يا رسول الله: إِني أذنبتُ في الجاهلية ذنباً فأخاف ألاّ يغفره الله لي وإِن أسلمت! فقال له: أخبرني عن ذنبك؟ فقال يا رسول الله: إني كنتُ من الذين يقتلون بناتهم فوُلدت لي بنتٌ فتشفعتْ إليَّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيغ بغير زوج فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب لزيارة أقربائي فابعثيها معي فَسُرَّت بذلك وزينتها بالحليّ والثياب، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرتُ في البئر ففطنت الجارية بأني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي فرحمتها، ثم نظرتُ في البئر فدخلت عليَّ الحمية حتى غلبني الشيطان فألقيتها في البئر منكوسة ومكثتُ هناك حتى انقطع صوتها فرجعتُ فبكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: لو أُمرتْ أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتُك».
صفحة رقم 392