آيات من القرآن الكريم

وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

ويعرفه به يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ بأن يقذف فيه نورا من أنواره فيعرفه بذلك وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً لا يدخل فيه شيء من أنوار شمس العرفان كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ نبوا وهربا عن قبول ذلك لأنه خلاف استعداده، وقيل: المعنى فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره لقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله سبحانه بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس فينفسح لقبول نور الحق ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلاء النفس عليه وضغطها له كما يصعد في سماء روحه مع تلك الهيئات البدنية المظلمة وذلك أمر محال، وقيل غير ذلك كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي رجس التلوث بنتن الطبيعة عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهم المحجوبون عن الحق وهذا أي طريق التوحيد أو الجعل صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته التي اقتضتها حكمته قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ المعارف والحقائق المركوزة في استعدادهم لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ هي ساحة جلاله وحضائر قدس صفاته ومساقط وقوع أنوار جماله المنزهة عن خطر الحجاب وعلة العتاب وطريان العذاب وهو وليهم بنعت رعايتهم وكشف جماله لهم أو وليهم يحفظهم عن رؤية الغير في البين. ويجوز أن يكون المعنى لهم دار السلامة من كل خوف وآفة حيث يكون العبد فيها في ظل الذات والصفات وريف البقاء بعد الفناء والكثير على أن السلام من أسمائه تعالى فما ظنك بدار تنسب إليه جل شأنه:

إذا نزلت سلمى بواد فماؤه زلال وسلسال وأشجاره ورد
نسأل الله تعالى أن يدخلنا هاتيك الدار بحرمة نبيه المختار صلّى الله عليه وسلّم وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو نقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته، وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم، والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين، وقيل: للكفار. وقرأ حفص عن عاصم. وروح عن يعقوب «يحشر» بالياء والباقون بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر.

صفحة رقم 269

وقوله سبحانه: امَعْشَرَ الْجِنِ
على إضمار القول، والمعشر الجماعة أمرهم واحد، وقال الطبرسي:
الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد، والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين، وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين، أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين، وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة، وقال آخرون: إن الروحانيين ثلاثة:
أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وأيا ما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل للخطاب بقوله سبحانه: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، والزجاج، فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال: استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع.
قيل: وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الانس لما أن الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون، وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي الذين أطاعوهم واتبعوهم مِنَ الْإِنْسِ أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم، فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فأدخلوا عليهم السرور بذلك.
وعن الحسن، وابن جريج، والزجاج، وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال: أعوذ بسيد هذا الوادي. واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم.
وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته له. وقال البلخي: يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن.

صفحة رقم 270

وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا وهو يوم القيامة على ما قاله غير واحد، وعن الحسن، والسدي، وابن جريج أنه الموت والأول أولى، وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهار للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له.
قيل: ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.
وقرىء «آجالنا» بالجمع والَّذِي بالتذكير والإفراد، قال أبو علي: هو جنس أو وقع الذي موقع التي.
قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل قال: النَّارُ مَثْواكُمْ أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر خالِدِينَ فِيها حال من ضمير الجمع والعامل فيها «مثوى» إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبؤون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل.
وقال أبو البقاء: إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الإضافة، وردوه بأن النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من، ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شمول ما نقدم للمستثنى، وقيل: إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر، المراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير،
فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يمييز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم،
ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي، وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت إليه الضرورة، وقيل عليه: إن المعترض لا يسلم الضرورة لإمكان غير هذا التأويل.
مع أن قوله سبحانه: مَثْواكُمْ يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر، وقيل: إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب، وذلك أنه
روي أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم،
وإليه الإشارة بقوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: ٣٤].
وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما تشيب منه النواصي، ولعل الخبر في ذلك غير صحيح، والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث.
وقيل: المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم، ورده أبو حيان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإن معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضربته وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فإنه يسوغ كقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: ٥٦] أي لكن الموتة الأولى فإنهم ذاقوها فلعل القائل بأن المستثنى زمان إمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر، وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال: المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل، قال ابن المنير: ونحن نبينه فنقول:
العذاب والعياذ بالله عز وجل على درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من

صفحة رقم 271

زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:

ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء
فكان هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط، وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده انتهى. ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإذعان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل، وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك، ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه، وفي معناه ما قيل: المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله تعالى وهو مما لا يكون مع إيراده في صورة الخروج وأطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم ومن أفاضل العصريين الأكابر من ادعى ذلك الوجه له وأنه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ.
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في التعذيب والإثابة أو في كل أفعاله عَلِيمٌ بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وَكَذلِكَ أي مثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم أو مثل ما سبق نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الإنس بَعْضاً آخر منهم أن نجعلهم بحيث يتولونهم ويتصرفون فيهم في الدنيا بالإغواء والإضلال وغير ذلك، واستدل به على أن الرعية إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم،
وفي الحديث «كما تكونوا يولىّ عليكم»
أو المعنى نجعل بعضهم قرناء بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي إليه من القبائح كما قيل، وروي مثله عن قتادة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم لَمْ يَأْتِكُمْ
في الدنياسُلٌ
من عند الله عز وجل كائنةنْكُمْ
أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم ولا على أن أولئك الرسل عليهم السلام من جنس الفريقين معا بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الإنس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء، ونظيره في هذا قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن:
٢٢] فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والفراء قدر هنا مضافا لذلك أي من أحدكم، وقال غير واحد: المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله عز وجل: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: ٢٩]. وعن الضحاك. وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلا منهم وصرح بعضهم أن رسولا منهم يسمى يوسف، وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل إليهم من الإنس وهل كان ذلك قبل بعثة

صفحة رقم 272

نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال: كان الرسل يرسلون إلى الانس حتى بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى الانس والجن قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
التي أوحيتها إليهم، والحج ملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين يُنْذِرُونَكُمْ
أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع قاءَ يَوْمِكُمْ هذا
أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينواالُوا
استئناف بياني، والمقصود منه حكاية قولهم: كيف يقولون وكيف يعترفون هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
أي بإيتاء الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب، وقوله سبحانه: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجأهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم السلام واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه شَهِدُوا
في الآخرةلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
في الدنياافِرِينَ
بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه.
ذلِكَ إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ
أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك، وجوز أن يكون أَنْ لَمْ إلخ بدلا من اسم الإشارة، وقوله تعالى: بِظُلْمٍ متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من رَبُّكَ أو من ضميره في مُهْلِكَ، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يأباه قوله تعالى: وَأَهْلُها غافِلُونَ لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره.
واعترض شيخ الإسلام على جعل بِظُلْمٍ حالا من رَبُّكَ أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه، واختار قدس سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال:
والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده.
ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد: إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم

صفحة رقم 273

السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع، وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا. والمعتزلة يقولون: يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة وَلِكُلٍّ من المكلفين جنا كانوا أو إنسا دَرَجاتٌ أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبا مِمَّا عَمِلُوا أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب.
وقرأ ابن عامر «تعملون» بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول يَعْمَلُونَ بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أي لا غنى عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من اللطف الجزيل، والكلام مبتدأ وخبر. وقوله سبحانه: ذُو الرَّحْمَةِ خبر آخر، وجوز أن يكون هو الخبر والْغَنِيُّ صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء، وفي ذلك تنبيه على أن ما تقدم ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالإهلاك، وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي وينشىء من بعد إذهابكم ما يَشاءُ من الخلق، وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم، وما في كَما مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشىء إنشاء كإنشائكم أو يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم، ومِنْ لابتداء الغاية، وقيل: هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة إِنَّ ما تُوعَدُونَ أي إن الذي توعدونه من القيامة، والحساب، والعقاب، والثواب، وتفاوت الدرجات والدركات، وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي، وما اسم أن ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه: لَآتٍ يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء، وهو خبر أن، والمراد أن ذلك لواقع لا محالة، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه، وله نظائر في الكتاب الكريم.
قُلْ يا قَوْمِ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلا أثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار. اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ

صفحة رقم 274

التمكن وجوز أن يكون ظرفا بمعنى المكان كالمقام والمقامة، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» على الجمع في كل القرآن، وزعم الواحدي أن الوجه الإفراد وفيه نظر، والمعنى اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم.
والأمر للتهديد وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد- مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عازما عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه. وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لا بد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي إنكم لتعلمون ذلك لا محالة.
فسوف لتأكيد مضمون الجملة. والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء. والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم.
والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل، وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة.
وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول تَعْلَمُونَ أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار، وفيه مع الإنذار المستفاد من التهديد إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره. وقرأ حمزة، والكسائي «يكون» بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفروا بمطلوبهم، وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم افراد الظلم وَجَعَلُوا أي مشركو العرب لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي خلق قال الراغب: الذرء، إظهار الله تعالى ما أبدعه يقال: ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم، وقال الطبرسي: الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه. ومن متعلقة بجعل وما موصولة وجملة ذَرَأَ صلته والعائد محذوف. وقوله سبحانه: مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ متعلق بذرأ.
وجوز أبو البقاء أن يكون «مما» متعلقا بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: نَصِيباً وأن يكون مِنَ الْحَرْثِ حالا أيضا من ما أو من العائد المحذوف. ونَصِيباً على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد، وجوز أن يكون متعديا لاثنين أولهما مِمَّا ذَرَأَ على أن من تبعيضية وثانيهما نَصِيباً، وقيل: الأمر بالعكس.
واعترض بأنه لا يساعده سداد المعنى، وأيا ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة، أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إنهم كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءا وجزءا للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئا مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوا لله تعالى وإن سبقهم الماء الذي سموا لله تعالى فسقي ما سموا للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي فيجعلونه للأوثان

صفحة رقم 275

ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه. وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها ويذبحون عندها فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له، واختار هذه الرواية الزجاج وغيره.
وأصل النظم الكريم وجعلوا لله إلخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه- على ما قيل- أمر محقق عندهم وأشير إلى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا أي الأوثان، وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم فيها ويحتمل أن الإضافة لأدنى ملابسة حيث إنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى. وقرأ الكسائي، ويحيى بن وثاب، والأعمش «بزعمهم» بضم الزاي وهو لغة فيه، وجاء الكسر أيضا فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه، وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس بجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى، وقيل: للإيذان بأن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به. ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني.
وجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على أن معنى قولهم. هذا لِلَّهِ مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله سبحانه: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم، وساءَ يجري مجرى بئس، فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا، وقيل: إن ساءَ هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فإن فاعل الجارية يجب أن يكون معرفا باللام أو مضافا في الأشهر، واختاره بعض المحققين.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات من الحرث والإنعام بين الله تعالى وبين شركائهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي مشركي العرب قَتْلَ أَوْلادِهِمْ فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنونهن أحياء، وكانوا في ذلك- على ما قيل فريقين. أحدهما يقول: إن الملائكة بنات الله سبحانه فألحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها. والآخر يقتلهن خشية الإنفاق، وقيل:
خشية ذلك والعار وهو المروي عن الحسن، وجماعة، وقيل: السبب في قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم وكانت فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا تولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم، وقيل: إنهم كانوا ينذر أحدهم إذا بلغ بنوه، عشرة نحر واحد منهم كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة، وإليها أشار صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «أنا ابن الذبيحين»
وقَتْلَ مفعول زَيَّنَ مضاف إلى أَوْلادِهِمْ من إضافة المصدر إلى مفعوله.
وقوله سبحانه: شُرَكاؤُهُمْ فاعل له، والمراد بالشركاء إما الجن أو السدنة، ووسموا بذلك لأنهم شركاء في أموالهم كما مر آنفا أو لإطاعتهم له كما يطاع الشريك لله عز اسمه. ومعنى تزيينهم لهم ذلك تحسينه لهم وحثهم عليه.
وقرأ ابن عامر «زيّن» بالبناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما

صفحة رقم 276

بمفعوله. وعقب ذلك الزمخشري بأنه شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج.
ورد زج القلوص أبي مزادة. فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في الكلام المعجز، ثم قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكاؤُهُمْ مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب اه.
وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء، فقد تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا كما ذهب إليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فإن القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل تغليط الله عز وجل نعوذ بالله سبحانه من ذلك. قال أبو حيان: عجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت، وأعجب بسوء هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله تعالى شرقا وغربا، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم اه. وقد شنع عليه أيضا غير واحد من الأئمة، ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول.
وقد يقال: إنه لم يفرق بين المضاف الذي لم يعمل وبين غيره. ومحققو النحاة قد فرقوا بينهما بأن الثاني يفصل فيه بالظرف، والأول إذا كان مصدرا أو نحوه يفصل بمعموله مطلقا لأن إضافته في نية الانفصال ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ ذلك فيه ولم يخص بالشعر كغيره. وممن صرح بذلك ابن مالك، وخطأ الزمخشري بعدم التفرقة وقال في كافيته:

وظرف أو شبيهه قد يفصل جزأي إضافة وقد يستعمل
فصلان في اضطرار بعض الشعرا وفي اختيار قد أضافوا المصدرا
لفاعل من بعد مفعول حجز كقول بعض القائلين للرجز
بفرك حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج
وعمدتي قراءة ابن عامر وكم لها من عاضد وناصر
انتهى. وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية لوجب قبولها أيضا بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير، وما ألطف قول الإمام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي، وكثيرا ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى، ومما ذكرنا يعلم ما في قول السكاكي: لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، ونحو قوله:
بين ذراعي وجبهة الأسد محمول على حذف المضاف إليه من الأول، ونحو قراءة من قرأ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لاستنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني كما في قراءة من قرأ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال: ٦٧] بالجر أي عرض الآخرة، وما ذكر وإن كان فيه نوع بعد إلا أن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد اه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ببناء «زيّن»

صفحة رقم 277

للمفعول ورفع «قتل» وجر «أولادهم» ورفع «شركائهم» بإضمار فعل دل عليه زَيَّنَ كما في قوله:

ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه لما قيل: زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه؟ فقيل: زينه شركاؤهم لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم بالإغواء: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك أو دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: المعنى ليوقعوهم في دين ملتبس، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين لأن مقصودهم من إغوائهم ليس إلا ذلك، وللعاقبة إن كان من السدنة إذ ليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبته وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي عدم فعلهم ذلك ما فَعَلُوهُ أي ما فعل المشركون ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو ما فعل الشركاء من التزيين أو الإرداء واللبس أو ما فعل الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير المفرد مجرى اسم الإشارة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ الفاء فصيحة أي إذا كان ما كان بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو ما يفترونه من الكذب ولا تبال بهم فإن في ما يشاء الله تعالى حكما بالغة وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى وَقالُوا حكاية لنوع آخر من أنواع كفر أولئك الكفار، وقيل: تتمة لما تقدم هذِهِ أي ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر أَنْعامٌ وَحَرْثٌ
أي زرع حِجْرٌ أي ممنوع منها وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث.
وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء، وقرأ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا.
ويحتمل في هذا أن يكون مصدرا كالحلم، وأن يكون جمعا كسقف ورهن. وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم أي ضيق وأصله «حرج» بفتح الحاء وكسر الراء، وقيل:
هو مقلوب من حجر كعميق ومعيق لا يَطْعَمُها أي يأكلها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون كما روي عن ابن زيد- الرجال دون النساء، وقيل: يعنون ذلك وخدم الأوثان، والجملة صفة أخرى لأنعام وحرث، وقوله سبحانه: بِزَعْمِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالُوا أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة وَأَنْعامٌ خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله سبحانه: هذِهِ أَنْعامٌ أي قالوا مشيرين إلى طائفة من أنعامهم وهذه أنعام.
وقيل: إن الإشارة أولا إلى ما جعل لآلهتهم السابق وما بينهما كالاعتراض وهذا عطف على أَنْعامٌ المتقدم إدخاله فيما تقدم لأن المراد به السوائب ونحوها وهي بزعمهم تعتق وتعفى لأجل الآلهة حُرِّمَتْ أي منعت ظُهُورُها فلا تركب ولا يحمل عليها وَأَنْعامٌ أي وهذه أنعام على ما مر.
وقوله سبحانه: لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صفة لأنعام مسوق من قبله تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: ١٥٧] في رأي لا أنه واقع في كلامهم المحكي كنظائره كأنه قيل: وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر اسم الله تعالى عليها وإنما يذكر عليها اسم الأصنام. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وائل أن المعنى لا يحجون عليها ولا يلبون. وعن مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا ولا افْتِراءً عَلَيْهِ أي على الله سبحانه وتعالى، ونصب افْتِراءً على المصدر إما على أن قولهم المحكي بمعنى الافتراء، وإما على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء أو على الحال من فاعل قالُوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء وهو بعيد معنى، وعَلَيْهِ قيل: متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر على الاحتمالين الأولين وبافتراء على الاحتمالين الأخيرين. ولا يخفى بعد تعلقه بقالوا، والذي دعاهم إليه ومنعهم من تعلقه بالمصدر- على ما قيل- أن

صفحة رقم 278

المصدر إذا وقع مفعولا مطلقا لا يعمل لعدم تقديره بأن والفعل، وفيه نظر لأن تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجار به فإنه مما يكفيه رائحة الفعل.
وجوز أبو البقاء أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لافتراء أي افتراء كائنا عليه سَيَجْزِيهِمْ ولا بد بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي بسببه أو بدله، وأبهم الجزاء للتهويل وَقالُوا حكاية لفن آخر من فنون كفرهم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون به أجنة البحائر والسوائب كما روي عن مجاهد والسدي، وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يعنون به الألبان، وما مبتدأ خبره قوله سبحانه: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا أي حلال لهم خاصة لا يشركهم فيه أحد من الإناث، والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة كرواية الشعر أي كثير الرواية له أو لأن الخالصة مصدر- كما قال الفراء- كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في كلام العرب تقول: فلان خالصتي أي ذو خلوصي، قال الشاعر:

كنت أميني وكنت خالصتي وليس كل امرئ بمؤتمن
نعم قيل: مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعلة قليل، وقيل: إن التاء للتأنيث بناء على أن «ما» عبارة عن الأجنة.
والتذكير في قوله تعالى: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي على جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ، واستبعد ذلك بأن فيه رعاية المعنى أولا واللفظ ثانيا وهو خلاف المعهود في الكتاب الكريم من العكس، وادعى بعض أن له نظائر فيه، منها قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء: ٣٨] إذ أنث فيه ضمير كُلُّ أولا مراعاة للمعنى ثم ذكر حملا على اللفظ، وقيل: إن ما هنا جار على المعهود من رعاية اللفظ أولا لأن صلة «ما» جار ومجرور تقدير متعلقه استقر لا استقر لا استقرت ولا وجه لذلك لأن المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين. والذي يقتضيه الإنصاف أن الحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل، وذكر بعضهم أن ارتكاب خلاف المعهود هاهنا لا يخلو عن لطف معنوي ولفظي، أما الأول فموافقة القول الفعل حيث إن المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب الإناث لضعفهن. ولذا يندب للرجل إذا أعطي شيئا لولده أن يبدأ بأنثاهم، وأما الثاني فمراعاة ما يشبه الطباق بوجه بين خالِصَةٌ ولِذُكُورِنا وبين مُحَرَّمٌ وأَزْواجِنا وهو كما ترى.
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً عطف على ما يفهم من الكلام أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيا وإن ولدت ميتة فَهُمْ أي الذكور والإناث فِيهِ أي فيما في بطون الأنعام، وقيل: الضمير للميتة إلا أنه لما كان المراد بها ما يعم الذكر والأنثى غلب الذكر فذكر الضمير كما فعل ذلك فيما قبله شُرَكاءُ يأكلون منه جميعا، وهذا الذي ذكر في هذه الشرطية إنما يظهر على القول الأول في تفسير الموصول، وأما على القول الثاني فيه فلا. ولعل الذي يقول به يقرأ الآية بإحدى الأوجه الآتية أو يتأول الضمير، وقرأ الأعرج. وقتادة «خالصة» بالنصب وخرج ذلك على أنه مصدر مؤكد وخبر المبتدأ لِذُكُورِنا، وقال القطب الرازي: يجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف الواقع صلة أي في حال خلوصه من البطون أي خروجه حيا، والتزم جعلها حالا مقدرة ولعله ليس باللازم، ومنع غير واحد جعله حالا من الضمير فيما بعده أو من ذكورنا نفسه لأن الحال لا تتقدم على العامل المعنوي كالجار والمجرور واسم الإشارة وهاء التنبيه العاملة بما تضمنته من معنى الفعل ولا على صاحبها المجرور كما تقرر في محله، وقرأ ابن جبير «خالصا» بدون تاء مع النصب أيضا والكلام فيه نظير ما مر، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود، والأعمش «خالصة» بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «وإن

صفحة رقم 279

تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع، وابن كثير «يكن» بالياء وميتة بالرفع. وأبو بكر عن عاصم «تكن» بالتاء كابن عامر «ميتة» بالنصب.
قال الإمام: وجه قراءة ابن عامر أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثا في اللفظ، ووجه قراءة ابن كثير أن «ميتة» اسم «يكن» وخبره مضمر أي إن يكن لهم أو هناك ميتة، وذكر لأن الميتة في معنى الميت.
وقال أبو علي: لم يلحق الفعل علامة التأنيث لأن تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ولا تحتاج كان إلى خبر لأنها بمعنى وقع وحدث، ووجه القراءة الأخيرة أن المعنى وإن تكن الأجنة أو الأنعام ميتة سَيَجْزِيهِمْ ولا بد وَصْفَهُمْ الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل:
٦٢] وهو- كما قال بعض المحققين- من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون: وصف كلامه الكذب إذا كذب، وعينه تصف السحر أي ساحر، وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له، قال المعري:

سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا
ونصب وَصْفَهُمْ على ما ذهب إليه الزجاج لوقوعه موقع مصدر «يجزيهم» فالكلام على تقدير المضاف أي جزاء وصفهم، وقيل: التقدير سيجزيهم العقاب بوصفهم أي بسببه فلما سقط الباء نصب وَصْفَهُمْ.
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تعليل للوعد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة. واستدل بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف لأن ذلك من فعل الجاهلية، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة، وأخرج البخاري في التاريخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا إلا كما قال الله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وهم العرب الذين كانوا يقتلون أولادهم على ما مر، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من ربيعة ومضر أي هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك العقاب أو ذهب دينهم ودنياهم.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتّلوا» بالتشديد لمعنى التكثير أي فعلوا ذلك كثيرا سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ أي لخفة عقلهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه، ونصب سَفَهاً على أنه علة لقتلوا أو على أنه حال من فاعله، ويؤيده أنه قرىء «سفهاء» أو على المصدرية لفعل محذوف دل عليه الكلام، والجار والمجرور إما صفة أو حال.
وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب. ونحوهما افْتِراءً عَلَى اللَّهِ نصب على أحد الأوجه المذكورة، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم قَدْ ضَلُّوا عن الطريق السوي وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو ما كانوا مهتدين من الأصل، والمراد المبالغة في نفي الهداية عنهم لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن فأردف ذلك بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال وأن ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض، وصرح بعض المحققين بأن الجملة عطف على ضَلُّوا على الأول واعتراض على الثاني، وقرأ ابن رزين «قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين».
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. وقال الإمام: إنه عود إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد أي وهو الذي خلق وأظهر تلك الجنات من غير شركة

صفحة رقم 280

لأحد في ذلك بوجه من الوجوه، والمعروشات من الكرم ما يحمل على العريش وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وهي الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا، وهذا قول من قال: إن المعروشات وغيرها كلاهما للكرم، وعن أبي مسلم أن المعروش ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه من الكرم وما يجري مجراه، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعروش ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس وغير المعروش ما نبت في البراري والجبال، وقيل: المعروش العنب الذي يجعل له عريش وغير المعروش كل ما نبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ، وقال عصام الدين: ولا يبعد أن يراد بالمعروش المعروش بالطبع كالأشجار التي ترتفع وبغير المعروش ما ينبسط على وجه الأرض كالكرم ويكون قوله سبحانه: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ تخصيصا بعد التعميم وهو عطف على جَنَّاتٍ أي أنشأهما مُخْتَلِفاً في الهيئة والكيفية أُكُلُهُ أي ثمره الذي يؤكل منه، وقرأ ابن كثير ونافع «أكله» بسكون الكاف وهو لغة فيه على ما يشير إليه كلام الراغب، والضمير إما أن يرجع إلى أحد المتعاطفين على التعيين ويعلم حكم الآخر بالمقايسة إليه أو إلى كل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الإشارة، وعن أبي حيان أن الضمير لا يجوز إفراده مع العطف بالواو فالظاهر عوده على أقرب مذكور وهو الزَّرْعَ ويكون قد حذف حال النخل لدلالة هذه الحال عليها، والتقدير والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله، وجوز وجها آخر وهو أن في الكلام مضافا مقدرا والضمير راجع إليه أي ثمر جنات، والحال المشار إليها على كل حال مقدرة إذ لا اختلاف وقت الإنشاء.
وزعم أبو البقاء أنها كذلك إن لم يقدر مضاف أي ثمر النخل وحب الزرع وحال مقارنة إن قدر.
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي أنشأهما مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي يتشابه بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة ولا يتشابه في بعضها، وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن ابن جريح أنه قال: متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم، والنصب على الحالية كُلُوا أمر إباحة كما نص عليه غير واحد مِنْ ثَمَرِهِ الكلام في مرجع الضمير على طرز ما تقدم آنفا إِذا أَثْمَرَ وإن لم ينضج وينيع بعد ففائدة التقييد إباحة الأكل قبل الإدراك، وقيل: فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو اختيار الجبائي وغيره.
وَآتُوا حَقَّهُ الذي أوجبه الله تعالى فيه يَوْمَ حَصادِهِ وهو على ما في رواية عطاء عن ابن عباس العشر ونصف العشر، وإليه ذهب الحسن، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وطاوس، وغيرهم، والظرف قيد لما دل عليه الأمر بهيئته من الوجوب لا لما دل عليه بمادته من الحدث إذ ليس الأداء وقت الحصاد والحب في سنبله كما يفهم من الظاهر بل بعد التنقية والتصفية. وادعى علي بن عيسى أن الظرف متعلق بالحق فلا يحتاج إلى ما ذكر من التأويل.
وفي رواية أخرى عن الحبر أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ثم نسخ بالزكاة، وإلى ذلك ذهب سعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وغيرهما. قيل: ولا يمكن أن يراد به الزكاة المفروضة لأنها فرضت بالمدينة والسورة مكية، وأجاب الإمام عن ذلك بأنا لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة وكون آيتها مدنية لا يدل على ذلك، على أنه قد قيل: إن هذه الآية مدنية أيضا، وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة، وأخرج ابن منصور، وابن المنذر، وغيرهما عن مجاهد أنه قال في الآية: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم فإذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي حَصادِهِ بكسر الحاء وهي لغة فيه، وعدل عن حصده وهو المصدر المشهور لحصد

صفحة رقم 281

إليه لدلالته على حصد خاص وهو حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه كما صرح به سيبويه وأشار إليه الراغب وَلا تُسْرِفُوا أي لا تتجاوزا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى ذلك، وروي مثله عن أبي العالية.
وعن أبي مسلم أن المراد ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب أن المعنى لا تمنعوا الصدقة فتعصوا، وقال الزهري: المعنى لا تنفقوا في معصية الله تعالى.
ويروى نحوه عن مجاهد.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. وقال مقاتل: المراد لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام.
والخطاب على جميع هذه الأقوال لأرباب الأموال، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن الخطاب للولاة أي لا تأخذوا ما ليس لكم بحق وتضروا أرباب الأموال. واختار الطبرسي أنه خطاب للجميع من أرباب الأموال والولاة أي لا يسرف رب المال في الإعطاء ولا الإمام في الأخذ والدفع إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذبهم عليه إن شاء جل شأنه وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل، وهو عطف على جَنَّاتٍ والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما.
والجار والمجرور متعلق بأنشأ. والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة.
والمراد به ما يحمل الأثقال من الأنعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره، وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس. وإلى الثاني ذهب الجبائي، وقيل: الحمولة الكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها، وروي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الإبل وصغارها وهو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية أخرى الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال، فمن تبعيضية.
والرزق شامل للحلال والحرام، والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذه الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلا منطقيا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو ظاهر والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فالحرام ليس برزق.
وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا، والآية لا تدل عليه، أما إذا كانت تبعيضية فظاهر، وأما إن كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع، وقيل: معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرقه فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم عليه السلام من الجنة وقال: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٦٢] أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره إنه الرحمن الرحيم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً في عين الجمع المطلق قائلا يا معشر الجن أي

صفحة رقم 282
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية