آيات من القرآن الكريم

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

لما بين حِلَّ كُلِّ ما ذُبِح على اسْم اللَّه - تعالى - ذكر بعده تَحْرِيم ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه، ويَدْخُل فيه المَيْتَة، وما ذُبح على ذِكْر الأصْنَام.
قال عضاء: كُل مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عليه من طعامٍ أو شرابٍ، فهو حرام؛ لعُمُوم الآية:
وقال ابنُ عبَّاسٍ: الآية الكريمة في تَحْرِيم الميتات وما فِي مَعْناها، ونُقِل عن عَطَاء الآية الكريمة، وفي تَحْرِيم الذَّبَائح الَّتي كانُوا يَذْبحونها على اسْم الأصْنَام، واخْتَلف العُلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في ذَبِيحَة المُسْلِم، إذا لَمْ يُذْكَر اسم اللَّه علَيه.
فذهب قَوْمٌ إلى تَحْرِيمها سواءً ترك التَّسْمِيةَ عامداً أوْ نَاسِياً، وهُوَ قَوْل ابن سيرين، والشَّعْبِين وأحمد في رواية، وطائفة من المُتَكَلِّمين لِظَاهر الآية الكريمة.
وذه قَوْم إلى تَحْلِيلها، يُرْوَى ذلك عن ابْن عبَّاس، وهُو قول مَالِك، والشَّافِعي، وأحْمَد في رِوَاية.
وذهب قوم إلى أنه إنْ ترك التَّسْمِية عامداً، لم يحلِّ، وإن تركها سَهْواً، أحلت، وهُو قَوْل الثَّوْري، وأصْحاب الرَّأي، ومَذْهَب أحمد.
ومن أبَاحَهَا، قال: المُرَاد من الآية الكريمة: وما ذُبِح على غَيْر اسْم اللَّه؛ لقوله: «وإن لفسق» والفسق في غَيْر ذِكْر اسْم اللَّه؛ كما قال في آخر السُّورَة العَظِيمة: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥] إلى قوله ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله﴾ وأجمع المُسْلِمُون على أنَّه لا يُفَسَّق آكل ذَبيحَةِ المُسْلِم الذي ترك التَّسْمِية، وأيضاً: وقوله - تعالى: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ وهذه المُنَاظَرَة إنَّما كانت في مَسْألة المَيْتَة على أنَّ المُشْركين قَالُوا للمسلمين: ما يَقْتله الصَّقْر والكَلْبُ تَأكُلُونَن، وما يَقْتُله الله

صفحة رقم 404

فلا تَأكُلُونَهُ، وعن ابن عباسٍ: إنَّهم قالُوا: تأكلون ما تَقْتُلُونَه، ولا تَأكُلُون ما يَقْتُله اللَّه - تعالى -، وهذه المناظرات مَخْصُوصة بأكل المَيْتَة، وقال تبارك وتعالى -: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ وهذا مَخْصُوص بِمَا ذُبِح على اسْم النُّصُب، يعني: لو رَضِيتُم بهذه الذَّبيحة الَّتِي ذُبِحَ على اسْم الهديَّة للأوثان، فقد رَضِيتُم بإلهيَّتِها فذلك يُوجِب الشِّرْك.
قال الشَّافعي: فأوَّل الآية الكريمة، وإن كان عامَّا بحسب الصِّيغة، إلاَّ أن آخِرَها لمَّا حَصَلتْ فيه هذه القُيُود الثلاثة، علمنا أن المُرَاد من العموم: الخصوص، وعن عائشة: رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالوا يا رسول الله إن هُنَا أقْوَاماً حَدِيثٌ عَهْدهم بِشِرْكٍ يأتُونَنَا باللَّحْم، لا يُدْرَى يَذْكُرون اسْم اللَّه عليها أمْ لا، قال: «اذْكُروا أنْتم اسْم اللَّه، وكلوا» ولو كانت التَّسْمِية شَرْطاً للإبَاحَة، كان الشكُّ في وُجودها مَانِعاً كالشكَّ في أصْل الذَّبْح.
قوله: «وإنَّه لَفِسْقٌ» هذه الجُمْلَة فيها أرْبَعَة أوْجُه:
أحدها: أنَّها مُسْتأنَفة، قالوأ: ولا يَجُوز أن تكُون مَنْسُوقة على ما قَبْلَها؛ لأن الأولَى طلبيَّة، وهي خَبَرِيَّة، وتُسَمَّى هذه الواوُ، واو الاسْتِئْنَافِ.
والثاني: أنَّها مَنْسُوقة على ما قَبْلَها، ولا يُبَالَى بِتَخَلُفِهما، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْه، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك، [وقد أوْرَدْتُ من ذَلِك شَواهِد صالِحَة من شِعْر وغيره].
الثالث: أنَّها حاليَّة، أي: «لا تَأكُلوه، الحالُ: أنَّه فِسْق» وقد تبجَّح الإمام الرَّازي بهذا الوَجْه على الحَنَفيَّة، حيث قَلَب دَليلَهُم عليهم بهذا الوَجْه، وذلك أنَّهم يَمْنِعُون من أكْل مَتْروك التَّسْمِيَة، والشَّافعيَّ’ لا يَمْنعَون منه استدل عيهم الحَنَفِيَّة بِظَاهِر هذه الآية.
فقال الرَّازي: هذه الجُملَة حاليَّة، ولا يَجُوز أن تَكُون مَعْطُوفة لِتخَالُفِهَمَا طَلَباً وخبراً، فتعيَّن أن تكون حاليَّة، وإذا كان حاليَّة، كان المعنى: «لا تَكُلُوه حال كَوْنهِ مُفَسَّقاً»، ثم هذا الفِسْق مُجْمَل قد فَسَّره اللَّه تعالى في مَوْضِع آخرَرن فقال: «او فِسْقاً أهِلَّ لِغَير اللَّه به» يعني: أنه إذَا ذُكشر على الذَّبيحة غَيْر اسم اللَّه، فإنَّه لا يَجُوزظ أكْلُها؛ لأنَّه فِسقٌ.
ونحن نقُول به، ولا يَلْزَم من ذَلِك أنَّه إذا لم يُذْكر اسْم اللَّه، ولا اسْم غيره، أن تكون حَرَاماً؛ لأنه لَيْس بالتَّفْسِير الذي ذَكْرنَاه، والنِّزاع فيه مُحَال من وُجُوه:
منها: أنّنا لا نُسَلِّم امْتِناع عَطْفِ الخَبَر على الطَّلَب، والعَكْس، كما قدَّمتُه عن سِيبوَيْه، وإن سُلِّم، فالواو للاسْتِئْنَاف، كما تقدم، وما بَعْدَها مُسْتأنفُ، وإن سُلِّم أيضاً،

صفحة رقم 405

فلا نسلم أن «فِسْقاً» في الآية الأخرى مُبَيَّن للقِسق في هذه الآية، فإن هذا لَيْس من بابِ المُجْمَل والمُبَيَّن؛ لأن له شُرُوطاً لَيْسَت مَوجُودَة هُنَا. وهذا الذي قاله مُشْتَمِلٌ من كلام الزَّمَخْشَرِي: فإنه قال:
فإن قُلْت: قد ذَهَبَ جماعة من المُجْتَهِدين إلى جَوازِ أكْل ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه بِنِسْيَان أوْ عَمْد.
قلت: قد تأوَّله هؤلاء بالمَيْتَة، وبما ذُكِر غَيْر اسْم اللَّه عليه؛ كقوله: «أو قِسْقاً أهلِّ لِغَيْر اللَّه به» فهذا أصْل ما ذكره ابن الخَطِيب وتبجَّ به والضَّمير في «أنَّه» يُحْتَمل أن يعُود على الأكْل المَدْلُول عليه ب «لا تأكُلُوا»، وأن يعُود على الموصُول، وفيه حنئيذٍ تأويلان:
أن تَجْعَل الموصُول نَفْس الفِسْق مبالغة.
أو على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: «وإنَّ أكله لَفِسْق» أو على الذكْر المَفْهُوم من قوله: «ذكر» قال أبوُ حيَّان: «والضَّمِ] ر في» إنَّه «: يعُوج على الأكْل، قاله الزَّمَخْشَري، واقْتَصَر عليه».
قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذَكَر: أنَّه يحُوز أن يَعُوج على المَوصُول، وذكر التَّأويلين المُتقدِّمين، فقال: «الضَّمير راجع على مَصْدر الفِعْل الدَّاخل عليه حَرْف النَّهْي، بمعنى: وإنَّ الأكل منه لَفِسْق، أو على الموصُول على أنَّ أكْلَه لِفِسْق، أو جعل ما لَمْ يُذكَر اسْمُ اللَّه عليه في نفس قِسْقاً».
قوله: «وإنّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليَائِهم» من المُشْركين لِيُخَاصِموا مُحمَّداً وأصحابه في أكْل المَيْتَ.
وقال عِكْرِمة: المراد بالشَّيَاطِين: مَرَدة المجُوس، ليُوحون إلى أوْلِيَائِهم من مُشْرِكي قُرَيْش، وذلك لأنَّه لما نزل تَحْريم المَيْتَة، سَمِعه المجُوسُ من أهْل فَارِس، فكتَبُوا إلى قُرَيش - وكانت بَيْنَهُم مُكَاتبة - أنَّ محمَّداً وأصاحابه يَزْعُمون أنَّهم يَتْبَعُون أمْ اللَّه - تعالى - ثم يَزعُمُون أن ما يَذْبَحُونه حلالاً، وما يَذْبَحُه اللَّه حرامٌ فوقع في نَفْس ناسٍ من المُسْلِمين من ذلك، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الكَرِيمة.

صفحة رقم 406

قوله: «لِيُجَادِلُوكُم» متعلِّق ب «يُوحُون» أي: «يُوحُون لأجْل مُجَادَلَتِكم»، وأصْل «يُوحُون» يُوحِيُون؛ فأعِلّ.
قوله: «وإن أطَعْتُمُوهم» قيل: إنَّ التَّوْطِئة للقسم، فلذلك أجيب القسم المُقَدَّر بقوله: «إنكم لمُشْرِكُون» وحذف جواب الشَّرْط بِلَفْظِ الماضِي، وهو ههنا كذلك، وهو قوله: «وإنْ أطَعْتُمُوهُم».
قال شهاب الدِّين: كأنه زعم: أنَّ جواب الشَّرْط هو الجُمْلَة من قوه: «إنَّكُم لَمُشْرِكُون» والأصل: «فإنكُم» بالفاء؛ لأنَّها جُمْلَة اسميَّة، ثم حُذِفَت الفاء؛ لكون فِعْل الشَّرْط بِلَفْظِ المُضِيِّ، وهذا لَيْس بِشَيء؛ فإن القَسَم مُقدَّر قَبْل الشَّرْط ويدُل على ذلك حَذْف اللاَّم المُوَطِّئَة قبل «إن» الشَّرْطية، ولَيْس فِعْل الشَّرْط مَاضِياً؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ﴾ [الأعراف: ٣] فَهَهُنَا لا يُمْكنه أن يقُول: إن الفاء مَحذُوفة؛ لأن فِعْل الشَّرْط مُضارعٌ، وكأن أبا البقاء - والله أعلم - أخذ هذا من الحُوفيِّ؛ فإني رَأيْتُه فيه كما ذَكَرَهُ أبُو البقاء، ورَدَّه أبُو حيَّان بنحو ما تقدم.

فصل في معنى الآية


والمَعْنَى: وإنْ أطعتُمُوهُم في استِحْلال المَيْتَة، إنكم لَمُشْرِكُ ن، وإنَّما سُمِّي مُشْرِكاً؛ لأنه أثْبَت حَاكِماً سِوَى اللَّه، وهذا هو الشِّرك.
وقال الزَّجَّاج: وفيه دَلِيل على أنَّ كُلَّ مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرَّم اللَّه، وحرَّم ما أحَلَّ اللَّه، فهو مُشْرِك.

صفحة رقم 407
اللباب في علوم الكتاب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
سنة النشر
1419 - 1998
الطبعة
الأولى، 1419 ه -1998م
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية