آيات من القرآن الكريم

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ
ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحدّ. وبنوع خاص الآية [١١٥] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي ﷺ بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا.
والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [١١٤] مدينة ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كردّ على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [١٠٧ و ١٠٨] وهناك روايات تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل.
وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم.
وفحوى الآية [١١٤] قوي في تثبيته وتدعيمه والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل الأعراف والقصص والإسراء.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ الى ١٢١]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)

صفحة رقم 142

(١) فسق: عصيان الله.
في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسرّه، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم.
تعليق على آية فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ والآيات الثلاث التالية لها
وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة:

صفحة رقم 143

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣).
والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي ﷺ والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة.
ولقد أورد المفسرون «١» في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي ﷺ في تحريمه لأكل الميتة التي قتلها الله وتحليل الذبيحة التي قتلها الإنسان وأن مجوس فارس كانوا يكتبون لكفار قريش ليجادلوا النبي ﷺ في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [١١٤].
ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس «٢» والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح.
ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [١١٤] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن.
(٢) روى هذا الترمذي، انظر التاج ج ٤ ص ١٠١.

صفحة رقم 144

ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه.
وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمر بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك.
وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية.
ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية وردّ التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام «١» وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة قد نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله.
ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي.
الجزء الرابع من التفسير الحديث ١٠

صفحة رقم 145

أن العرب كانوا لا يأكلون مما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم من أسلم منهم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها.
والمتبادر أن ما ورد في الآية متصل بذلك.
وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة وبعضهم قال تكفي النية.
وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي ﷺ في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد.
ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا، أنأكل منها فقال سمّوا الله وكلوا» «١». ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمّي فقال النبيّ اسم الله على كلّ مسلم». وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمّي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل». وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال: «قال رسول الله ﷺ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله».
وتعليقا على ذلك نقول إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله

(١) التاج ج ٣ ص ٩٥. [.....]

صفحة رقم 146

عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وإن القول بجواز ذكر الله سرّا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان.
وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك.
وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [٥] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ
لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنهيات حين الاضطرار.
ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من

صفحة رقم 147

المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦).
وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار. وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلّا وسعها الذي شرعناه في سياق الآية [٤٢] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوقة مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارىء أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة.
وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظرف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة «الضرورات تبيح المحظورات» قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [١٤٥] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد يفتح باب التساهل على مصراعيه فينشأ عنه تجاوزات دينية وغير دينية لأن الذين لا يتقيدون بالضرورة عند الاضطرار يعتبرون خارجين عن نطاق الكلام في صدد التقيد بالمبادىء القرآنية والانتفاع بها بطبيعة الحال.
تعليق على جملة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
هذه الجملة وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار عليه الكلام في الآيات فإن إطلاقها يجعل تنديدها وإنذارها عامين. ولقد قرئت الياء في (ليضلّون)

صفحة رقم 148

بالفتح من الضلال وبالضمّ من الإضلال. ومقامها يحتمل القراءتين وإن كنا نرجح الفتح. وعلى كل حال فإن فيها تنديدا بكل من يرتكس في الضلال متأثرا بهواه وهوى الآخرين بدون علم وبرهان. وبكل من يضل الناس بهواه بدون علم وبرهان كذلك معتديا ومتجاوزا لحدود الحق والصدق إلى الباطل والحلال إلى الحرام واليقين إلى الشبهات. مما يمكن أن يشمل كل شأن من شؤون الدين والدنيا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بوجوب عدم تنطع أحد من المسلمين للكلام والدعوة والوعظ والإيعاز والفتيا مندفعا بالهوى متجاوزا حدود الحق والصدق غير مستند إلى علم وبرهان، وبوجوب تثبت المسلم في كل قول يسمعه ورأي يلقى إليه أو عمل يوعز به إليه أو مذهب يزين له. فلا يأخذ من ذلك إلّا ما برىء من الهوى وقام على صحته وسلامته وحقه وصدقه علم وبرهان.
وفي القرآن آيات كثيرة مكية ومدنية فيها تنديد بمن يتبع الهوى ويأمر به ويتخذه إلهه دون الحق والصدق ويفتري على الله ورسوله فيقول هذا حلال وهذا حرام. وهذا يجوز وهذا لا يجوز وهذا حق وصواب وهذا باطل بدون علم وبرهان. مما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يدل هذا على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من اهتمام وعناية.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» «١». وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» «٢»، وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم

(١) التاج ج ١ ص ٦٣ و ٦٤ و ٦٥.
(٢) المصدر نفسه.

صفحة رقم 149

بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» «١».
تعليق على الآية وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ
هذه الآية قد تكون متصلة بالموضوع الذي جاء في الآيات التي هي جزء من سلسلتها. وبسبيل التنبيه إلى وجوب الوقوف في استباحة المحظور في حالة الاضطرار في نطاق الضرورة. وبمعنى آخر بسبيل الاستدراك لما يمكن أن ينشأ عن إباحة المحظورات عند الاضطرار من سوء تأويل وتوسع فعلى المسلم أن يبتعد عن الإثم في سره وعلنه وظاهره وباطنه دون تأول وتوسع ومحاولة تبرير غير صادقة.
وهذا تلقين جليل كما هو ظاهر ومستمر المدى، كما أنه يزيل ما توهمه الآية من غرابتها على الموضوع والسياق. على أن إطلاق الأمر الرباني في الآية يجعلها جملة قائمة بذاتها أيضا. ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره في مدى ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ عن أهل التأويل في صدر الإسلام. منها أن (الظاهر هو ما حرم الله من الأنكحة والباطن الزنا السري) ومنها (الظاهر هو كل ما عصي به الله وانتهكت به محارمه علنا، والباطن كل ما كان من ذلك سرا). ونرى القول الثاني هو الأوجه المتساوق مع إطلاق العبارة. وعلى كل حال فالجملة تنطوي من ناحية الإطلاق على تلقين من أروع التلقينات وأجلها. فيه إيقاظ لضمير المسلم وتنبيه له إلى وجوب تجنب الإثم والبغي مطلقا وليس في حالة العلن التي قد يترتب عليها ضرر للشخص من الناس والسلطان فيجعله يمتنع من ذلك بل وفي حالة السر أيضا التي قد لا يترتب عليها مثل هذا الضرر المانع. ثم ليس بسبيل الانطباق على ظواهر الأمور وتأويل النصوص وحسب بل بسبيل حقائق الأمور ونيات القلوب أيضا. فإن كثيرا من الناس يحاولون إيجاد المخارج للتحلل من الحرام والآثام ويؤولون النصوص تأويلا متسقا مع أهوائهم أو تأويلا أوسع مما تتحمله النصوص. وقد

(١) التاج ج ١ ص ٦٣، ٦٤، ٦٥.

صفحة رقم 150
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية