آيات من القرآن الكريم

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ

ونفاذ إرادته، وأن إهلاكه لتلك الأمم بسبب ذنوبها لم ينقص من ملكه شيئا، لأنه- سبحانه- كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى.
قال- تعالى- وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «١».
ثم بين القرآن توغلهم في الجحود والعناد، وانصرافهم عن الحق مهما قويت أدلته، وساق جانبا من أقوالهم الباطلة ثم رد عليهم بما يدحضها فقال- تعالى-:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ١١]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
الكتاب في الأصل مصدر كالكتابة، ويستعمل غالبا بمعنى المكتوب، فيطلق على الصحيفة المكتوبة وعلى مجموعة الصحف.
والقرطاس- بكسر القاف وقد تفتح وتضم في بعض اللغات- ما يكتب فيه سواء كان من رق أو من ورق أو من غيرهما: ولا يطلق على ما يكتب فيه قرطاس إلا إذا كان مكتوبا.
والمعنى: إن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدقك يا محمد. ولكن الذي ينقصهم

(١) سورة محمد الآية ٣٨.

صفحة رقم 40

هو التفتح للحق، والانقياد للهداية، فإننا لو نزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس- كما اقترحوا- فشاهدوه بأعينهم وهو نازل عليك ولمسوه بأيديهم منذ وصوله إلى الأرض وباشروه بعد ذلك بجميع حواسهم بحيث يرتفع عنهم كل ارتياب، ويزول كل إشكال. لو أننا فعلنا ذلك. استجابة لمقترحاتهم المتعنتة، لقالوا بلغة العناد والجحود ما هذا الذي أبصرناه ولمسناه إلا سحر مبين.
فالآية الكريمة تصور مكابرتهم المتبجحة، وعنادهم الصفيق، وإدبارهم عن الحق مهما تكن قوة أدلته، ونصاعة حجته.
قال الإمام الرازي «بين الله- تعالى- في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر. والمراد من قوله فِي قِرْطاسٍ أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر» ».
ولَوْ في الآية الكريمة حرف امتناع، أى: أنه- سبحانه- قد امتنع عن إجابة مقترحاتهم لأنه يعلم أن إجابتها لا ثمرة لها، ولا فائدة من ورائها، لأن هؤلاء الجاحدين لا ينقصهم الدليل على صدق النبي ﷺ في دعوته، وإنما الذي ينقصهم هو الاستجابة للحق والاتجاه السليم لطلبه، والاستماع إليه بعناية وتفكير.
وعبر- سبحانه- بقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. مع أن اللمس هو باليد غالبا- للتأكيد وزيادة التعيين، ودفع احتمال المجاز. فالجملة الكريمة المقصود بها تصوير فرط جحودهم ومكابرتهم، وإعراضهم عن الحق مهما تكن قوة الدليل وحسيته.
وفي قوله- تعالى- لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إشارة إلى أن الكافرين وحدهم هم الذين بسبب كفرهم- ينتحلون الأعذار لضلالهم، ويصفون الحق الواضح بأنه سحر مبين. أما المؤمنون فإنهم يقابلون الحق بالتصديق والإذعان.
وقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، فأكدوا حكمهم الباطل بطريق النفي والإثبات- أى: أنه مقصور على أنه سحر- وبالإشارة إليه، وبأنه بين واضح في كونه سحرا، وذلك يدل على أن تبجحهم قد بلغ النهاية، وأن مكابرتهم قد كذبت ما شهدت بصدقه حواسهم، وإن قوما بهذه الدرجة من العناد لا تجدى فيهم معجزة، ولا ينفع معهم دليل.
وفي معنى هذه الآية قد وردت آيات أخرى في القرآن الكريم منها قوله- تعالى-

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ١٢.

صفحة رقم 41

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «١».
ومنها قوله- تعالى- وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «٢».
ثم حكى القرآن بعض مقترحاتهم المتعنتة ورد عليها بما يدحضها فقال:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
أى: قال الكافرون للنبي ﷺ هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه، ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
قال محمد بن إسحاق «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلده، وعبد بن يغوث وأبى بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويروى معك».
فهم لا يريدون ملكا لا يرونه، وإنما يريدون ملكا يمشى معه ويشاهدونه بأعينهم.
وأسند- سبحانه- القول إليهم مع أن القائل بعضهم، لأنهم جميعا متعنتون جاحدون، وما يصدر عن بعضهم إنما هو صادر في المعنى عن جميعهم لأن الباعث واحد، ولولا هنا للتحضيض فلا تحتاج إلى جواب.
أى: وقال الكافرون للنبي ﷺ هلا كان معك ملك يا محمد لكي يشهد بصدقك ونسمع كلامه، ونرى هيئته، وحينئذ نؤمن بك ونصدقك.
وقد رد الله تعالى- على قولهم هذا بردين حكيمين:
أما الرد الأول: فقال فيه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ.
أى: لو أنزلنا ملكا كما اقترح هؤلاء الكافرون وهم على ما هم عليه من الكفر والجحود، لقضى الأمر بإهلاكهم، ثم لا ينظرون، أى: لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا، فقد مضت سنة الله فيمن قبلهم، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم

(١) سورة الأنعام الآية: ١١١.
(٢) سورة الحجر الآيتان: ١٤، ١٥.

صفحة رقم 42

يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك، والله- تعالى- لا يريد أن يهلك هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة ﷺ بسبب إجابة مقترحات أولئك المعاندين المستكبرين.
وأما الرد الثاني فقال فيه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
أى: لو جعلنا الرسول من الملائكة- كما اقترحوا- لكانت الحكمة تقتضي أن نجعله في صورة بشر ليتمكنوا من رؤيته ومن سماع كلامه الذي يبلغه عن الله- تعالى- وفي هذه الحالة سيقولون لهذا الملك المرسل إليهم في صورة بشر-: لست ملكا، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا.
ومعنى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ لخلطنا عليهم مثل ما يخلطون على أنفسهم بسبب استبعادهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم.
قال الإمام القرطبي: قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى- الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، وعادوا إلى مثل حالهم» «١».
وبهذين الجوابين الحكيمين يكون القرآن الكريم قد دحض شبهات أولئك الجاحدين، وبين أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم، قال تعالى: - وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.
ثم أخذ القرآن في تسلية النبي ﷺ عما أصابه من قومه فقال:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
والمعنى: لا تحزن يا محمد لما أصابك من قومك، فإن من شأن الدعاة إلى الحق المجاهدين في سبيله أن ينالهم الأذى من أعدائهم، ولقد أوذى من سبقك من الرسل الكرام، وسخر الساخرون منهم، فصبروا على ذلك، وجاءهم في النهاية نصرنا الذي وعدناهم به. أما أعداؤهم الذين استهزءوا بهم، فقد أخذناهم أخذ عزيز مقتدر فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «٢».

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٩٤.
(٢) سورة العنكبوت الآية: ٤٠.

صفحة رقم 43

فالآية الكريمة تهدف إلى تسلية الرسول ﷺ والترويح عن نفسه، وتبشيره بحسن العاقبة وتثبيت قلبه حتى لا يتأثر أو يضعف أمام سفه المشركين وتطاولهم عليه.
والاستهزاء بالشيء: الاستهانة به، والاستهزاء بالشخص احتقاره وعدم الاهتمام بأمره.
وتنكير الرسل للتكثير والتعظيم، والفاء في قوله فَحاقَ للسببية، أى: بسبب هذا الاستهزاء برسل الله الكرام، أحاط العذاب بأولئك المستهزئين فأهلكهم.
وقال- سبحانه- فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا ولم يقل بالساخرين، للإشارة إلى أن ما أصابهم من عذاب لم يكن تجنبا عليهم، وإنما كان بسبب سخريتهم برسل الله والاستخفاف بهم لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم.
وفي قوله- تعالى-: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مجاز علاقته السببية، لأن الذي حاق بهم هو العذاب المسبب عن الاستهزاء، ففيه إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه السخرية لا ينفك عنها، فحيثما وجد التطاول على أولياء الله والدعاة إلى دينه، وجد معه عذاب الله وسخطه على المتطاولين والمستهزئين.
ثم أمر القرآن النبي ﷺ أن يذكرهم بحال من سبقوهم عن طريق التطلع إلى آثارهم، والتدبر فيما أصابهم. والاتعاظ بما حل بهم فقال- تعالى-:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
أى: قل- يا محمد- لأولئك المكذبين لك، المستهزئين بدعوتك، لا تغتروا بما أنتم فيه من قوة وجاه، فإن ذلك لا دوام له، وسيروا في فجاج الأرض متدبرين متأملين، فسترون بأعينكم آثار أقوام كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا، ولكن ذلك لم يمنع وقوع العذاب بهم حين بدلوا نعمة الله كفرا، وحاربوا رسل الله والدعاة إلى دينه.
وقد ذكر القرآن الكريم في سور متعددة أن آثار أولئك الأقوام المهلكين، ما زال بعضها باقيا، وإنها لتدعو العقلاء إلى الاتعاظ والاعتبار فقال- تعالى-: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ «١».
وقال- تعالى- في شأن قوم لوط: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ
«٢».

(١) سورة هود الآية: ١٠٠.
(٢) سورة الصافات الآيتان ١٣٧، ١٣٨.

صفحة رقم 44
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية