فلم يبق إلا الواجب، وقيل: غير ذلك، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبرا طويلا وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
صفحة رقم 199
وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام إِسْحاقَ وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة. وفي نديم الفريد أن معنى إسحاق بالعربية الضحاك وَيَعْقُوبَ وهو ابن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة، والجملة عطف على قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلخ، وعطف الفعلية على الاسمية مما لا نزاع في جوازه، ويجوز على بعد أن تكون عطفا على جملة آتَيْناها بناء على أنها لا محل لها من الإعراب كما هو أحد الاحتمالات.
وقوله تعالى: كُلًّا مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما هَدَيْنا لا أحدهما دون الآخر، وقيل: المراد كلّا من الثلاثة، وعليه الطبرسي. واختار كثير من المحققين الأول أن هداية إبراهيم عليه السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي إليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم عليه السلام فإنهما متعبدان به.
وقال الجبائي: المراد هديناهم بنيل الثواب والكرامات وَنُوحاً قال شيخ الإسلام: منصوب بمضمر يفسره هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ولعله إنما لم يجعله مفعولا مقدما للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلو التقديم عن الفائدة السابقة أعني القصر ولا يخلو ذلك عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه السلام.
ونوح- كما قال الجواليقي- أعجمي معرب زاد الكرماني، ومعناه بالسريانية الساكن، وقال الحاكم في المستدرك: إنما سمي نوحا لكثرة بكائه على نفسه واسمه عبد الغفار، والأول أثبت عندي، وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم- كما قال الحاكم- أنه عليه السلام كان قبل إدريس عليه السلام- وذكر النسابون أنه ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن أخنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو إدريس فيما يقال.
وروى الطبراني عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال: آدم عليه السلام قلت: ثم من؟ قال نوح عليه السلام: وبينهما عشرة قرون»
وهذا ظاهر في أن إدريس عليه السلام لم يكن قبله.
وذكر ابن جرير أن مولده عليه السلام كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما. وذكره سبحانه هنا قيل لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع ثني بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل فإن شرف الوالد سار إلى الولد، إنما ذكره سبحانه لأن قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة، وأما أنه ذكر لما مر فلا إذ لا دلالة على علاقة الأبوة ليقبل. ودلالة مِنْ قَبْلُ على ذلك غير ظاهرة. وقنع بعضهم بالشهرة عن ذلك وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير عند جمع لإبراهيم عليه السلام لأن مساق النظم الجليل لبيان شؤونه وما من الله تعالى به عليه من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته من المشركين واليهود، واختار آخرون كونه لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأنه ذكر في الجملة لوطا عليه السلام وليس من ذرية إبراهيم بل كان ابن أخيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى آمن به وشخص معه مهاجرا إلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، وكذلك يونس عليه السلام لم يكن من ذريته فيما ذكر محيي السنة فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على- نوحا- ولا يجب أن يعتبر في المعطوف ما هو قيد في المعطوف عليه، ولا يضر ذكر إسماعيل هناك وإن كان من ذرية إبراهيم عليهما السلام لأن السكوت عن إدراجه في الذرية لا يقتضي أنه ليس منهم وإنما لم يعد- كما قال بعض المحققين-: في موهبته كإسحاق لأن هبة إسحاق كانت في كبره وكبر زوجته فكانت في غاية الغرابة، وذكر يعقوب لأن إبقاء النبوة بطنا بعد بطن غاية النعمة، ولم يعطف «كلا هدينا» لأنه مؤكد لكونه نعمة.
ومن الناس من ادعى أن يونس عليه السلام من ذرية إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وصرح في جامع الأصول أنه كان من الأسباط في زمن شعيا، وحينئذ يبقى لوط فقط خارجا ولا يترك له إرجاع الضمير على إبراهيم وجعله مختصا بالمعدودين في الآيات الثلاث لأنه لما كان ابن أخيه آمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب كما قال الطيبي.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطا ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: ١٣٣] مع أن إسماعيل عم يعقوب. والجار والمجرور متعلق بفعل مضمر مفهوم مما سبق، وقيل: بمحذوف وقع حالا من المذكورين في الآية واختير الأول أي وهدينا من ذريته داوُدَ هو- كما قال الجلال السيوطي- ابن ايشا بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة التحتية وبالشين المعجمة ابن عوبر بمهملة وموحدة بوزن جعفر بن عابر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يخيثون ابن عمي بن يا رب- بتحتية وآخره باء موحدة- ابن رام بن حضرموت بمهملة ثم معجمة بن فارض بفاء وآخره مهملة بن يهوذا بن يعقوب.
قال كعب: كان أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت والخلق وجمع له بين النبوة والملك ونقل النووي عن المؤرخين أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وله اثنا عشر ابنا.
وَسُلَيْمانَ ولده، قال كعب: كان أبيض جسيما وسيما وضيئا جميلا خاشعا متواضعا وكان أبوه يشاوره في كثير من أموره في صغر سنه لوفور عقله وعلمه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ملك الأرض، وعن المؤرخين أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ بناء بيت المقدس بعد ملكه بأربع سنين وتوفي وله ثلاث وخمسون سنة، وتقديم المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم وَأَيُّوبَ قال ابن جرير: هو ابن موص بن روم بن عيص بن إسحاق. وقيل: ابن موص بن تارخ بن روم إلخ، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فهو قبل موسى عليه السلام وقال ابن جرير: إنه كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان،
وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة
وَيُوسُفَ وهو على الصحيح المشهور ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ويشهد له ما
أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
عاش مائة وعشرين سنة وفيه ست لغات تثليث السين مع الياء والهمز والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له وَمُوسى وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوي بن يعقوب ولا خلاف في نسبه وهو اسم سرياني.
وأخرج أبو الشيخ من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء فالماء بالقبطية مو والشجر شا،
وفي الصحيح وصفه بأنه آدم طوال جعد كأنه من رجال شنوءة وعاش- كما قال الثعلبي- مائة وعشرين سنة
وَهارُونَ أخوه شقيقه، وقيل: لأمه، وقيل: لأبيه فقط حكاهما الكرماني في عجائبه مات قبل موسى عليهما السلام وكان ولد قبله بسنة
وفي بعض أحاديث الإسراء صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته أبيض ونصفها أسود تكاد تضرب سرته من طولها فقلت: يا جبرائيل من هذا؟ قال:
المحبب في قومه هارون بن عمران.
وذكر بعضهم أن معنى هارون بالعبرانية المحبب وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قيل: أي نجزيهم مثل ما جزينا إبراهيم عليه السلام برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوة فيهم، والمراد مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافآت بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأن اختصاص إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم بكثرة النبوة في عقبه أمر مشهور.
واختار بعض المحققين كون التشبيه على حد ما تقدم في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] ونظائره، وال في الْمُحْسِنِينَ للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي، وقد فسره صلّى الله عليه وسلّم
بقوله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
والجملة اعتراض مقرر لما قبلها.
وَزَكَرِيَّا هو ابن ازن بن بركيا كان من ذرية سليمان عليهما السلام وقتل بعد قتل ولده وكان له يوم بشر به اثنتان وتسعون، وقيل: تسع وتسعون، وقيل: مائة وعشرون سنة وهو اسم أعجمي وفيه خمس لغات أشهرها المد والثانية القصر وقرىء بهما في السبع وزكري بتشديد الياء وتخفيفها وزكر كقلم.
وَيَحْيى ابنه وهو اسم أعجمي، وقيل: عربي، وعلى القولين- كما قال الواحدي- لا ينصرف، وسمي بذلك على القول الثاني لأنه حيي به رحم أمه، وقيل: غير ذلك وَعِيسى ابن مريم وهو اسم عبراني أو سرياني
وفي الصحيح أنه ربعة أحمر
كأنما خرج من ديماس وفي ذكره عليه السلام دليل على أن الذرية يتناول أولاد البنات لأن
انتسابه ليس إلا من جهة أمه وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم.
وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية وبها احتج موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه على ما رواه البعض عن الرشيد. وفي التفسير الكبير أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية المباهلة حيث دعا صلّى الله عليه وسلّم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آل عمران: ٦١].
وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة، والذي أميل إليه القول بالدخول وَإِلْياسَ قال ابن إسحاق في المبتدأ: هو ابن يس بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام. وحكى القتبي أنه من سبط يوشع، وقيل: من ولد إسماعيل عليه السلام. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إدريس وهو- على ما قال ابن إسحاق- ابن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وهو جد نوح كما أشرنا إليه وروي ذلك عن وهب بن منبه، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بين نوح وإدريس ألف سنة وعلى القول بأنه قبل نوح يكون البيان مختصا بمن في الآية الأولى، ونص الشهاب أن قوله تعالى: وَزَكَرِيَّا وما بعده حينئذ معطوفا على مجموع الكلام السابق كُلٌّ أي كل واحد من أولئك المذكورين مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي وهو مقول بالتشكيك فيوصف بما هو من أعلى مراتب الأنبياء عليهم السلام والجملة اعتراض جيء بها للثناء عليهم بمضمونها وَإِسْماعِيلَ هو- كما قال النووي- أكبر ولد إبراهيم عليه السلام ويقال- كما نقل عن الجواليقي- بالنون آخره قيل ومعناه: مطيع الله وَالْيَسَعَ قال ابن جرير: هو ابن أخطوب بن العجوز. وقرأ حمزة. والكسائي «الليسع» بوزن ضيغم وهو أعجمي دخلت عليه اللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب كما قاله التبريزي ونص على أن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس فليس كاليزيد في قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا | شديدا بأعباء الخلافة كاهله |
وقرأ أبو طلحة «يونس» بكسر النون قيل: أراد أن يجعله عربيا من أنس وهو شاذ وَلُوطاً قال ابن إسحاق:
هو ابن هاران بن آزر، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ابن أخي إبراهيم ولم يصرح باسم أبيه وَكلًّا أي كل واحد من هؤلاء المذكورين لا بعضهم دون بعض فَضَّلْنا بالنبوة عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي عصرهم، والجملة اعتراض كأختيها، وفيها دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ (١) وَإِخْوانِهِمْ يحتمل- كما قيل- أن يتعلق بما تعلق به من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي
وهدينا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم جماعات كثيرة أو معطوف على كلًّا فَضَّلْنا ومن تبعيضية أي فضلنا بعض آبائهم إلخ.
وجعله بعضهم عطفا على نوحا، ومن واقعة موقع المفعول به مؤولا ببعض. واعتبار البعضية لما أن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا قيل: وهذا في غير الآباء لأن آباء الأنبياء كلهم مهديون موحدون، وأنت تعلم أن هذا مختلف فيه نظرا إلى آباء نبينا صلّى الله عليه وسلّم وكثير من الناس من وراء المنع فما ظنك بآباء غيره من الأنبياء عليهم السلام.
ولا يخفى أن إضافة الآباء والأبناء والإخوان إلى ضمير هم لا يقتضي أن يكون لكل منهم أب أو ابن أو أخ فلا تغفل وَاجْتَبَيْناهُمْ عطف على فَضَّلْناهُمْ أي اصطفيناهم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ومتأخر بالزمان على متقدم به وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي إلخ وثانيا بقوله سبحانه: وكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
ذلِكَ أي الهدى إلى الطريق المستقيم أو ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة أو ما دانوا به، ما في ذلك من معنى البعد لما مر مرارا هُدَى اللَّهِ الإضافة للتشريف يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِهِ وهم المستعدون لذلك، وفي تعليق الهداية بالموصول إشارة إلى علية مضمون الصلة ويفيد ذلك أنه تعالى متفضل بالهداية وَلَوْ أَشْرَكُوا أي أولئك المذكورون لَحَبِطَ أي لبطل وسقط عَنْهُمْ مع فضلهم وعلو شأنهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ثواب أعمالهم الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل. واقتصر الإمام على المذكورين من الأنبياء. وعن ابن بشير قال: سمعت رجلا سأل الحسن عن أولئك فقال له: من في صدر الآية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي جنسه. والمراد بإيتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء وبالإيراث بقاء فإن ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين. وَالْحُكْمَ أي فصل الأمر بين الناس بالحق أو الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء وَالنُّبُوَّةَ فسرها بعضهم بالرسالة. وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في المحاكمات لمولانا أحمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصا. وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه السلام ليس برسول أيضا. ويوسف في قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وإنما هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف ابن يعقوب وهو غريب. وأغرب منه القول بأنه كان من الجن رسولا إليهم. وقال الشهاب: قد يقال إنما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين هؤُلاءِ أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الإشارة والمقام على ما قيل. وقيل: المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلّى الله عليه وسلّم مطلقا، وأيّا ما كان فكفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم مما يصدقه جميعا. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غيره مرة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي أمرنا برعايتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها قَوْماً فخاما لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها، والمراد بهم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار. وقيل: أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مطلقا، وقيل: كل مؤمن من بني آدم عليه السلام. وقيل: الفرس فإن كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا. وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي نور فرقها القرآن، ورجح واختار هذا الزجاج. ورجحه الزمخشري بوجهين، الأول أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم السلام فإن لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي. الثاني أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك، واستبعده بعضهم فإن الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايرا لمن أوتيها.
وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها، واستبعده الإمام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم، وأيّا ما كان فتنوين قَوْماً للتفخيم كما أشرنا إليه.
وهو مفعول وَكَّلْنا وبِها قبله متعلق بما عنده، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولا ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف. والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة فَقَدْ وَكَّلْنا إلخ أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للإيمان قوما مستمرين على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء، ومن هذا يعلم أن الأرجح- كما قال شيخ الإسلام- تفسير القوم بإحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ولا كذلك إيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام أُولئِكَ أي الأنبياء المذكورون كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي، وابن زيد، وقيل: الإشارة إلى المؤمنين الموكلين. وروي ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هديناهم إلى الحق والصراط المستقيم، والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي إليه اعتمادا على غاية ظهوره فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي اجعل هداهم منفردا بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصورا عليه، والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضا مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعا، ومعنى أمره صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث إنه طريق أولئك الفخام بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق لدليل العقل والسمع، وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالا من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقلد غيره فما معنى أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء. وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة والسلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء بذلك. واعترض أيضا بأن الأخذ بأصول الدين حاصل له قبل نزول الآية فلا معنى للأمر بأخذ ما قد أخذ قبل، اللهم إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه. وحقق القطب الرازي في حواشيه على الكشاف أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم، والصبر، والزهد، وكثرة الشكر، والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم أفضل منهم قطعا لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهداهم جميعا امتنع للعصمة أن يقال: إنه لم يمتثل فلا بد أن يقال: إنه عليه
الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقا فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعا كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن.
واستدل بعضهم بها على أنه صلّى الله عليه وسلّم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلّى الله عليه وسلّم عند أرباب الذوق، والهاء في اقْتَدِهْ هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة، وقد تثبت في الدرج ساكنة أيضا إجراء للوصل مجرى الوقف، وبذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم. ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة، والكسائي، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاسا وهي رواية هشام عنه. وروى غيره أشباعها وهو كسرها ووصلها بياء، وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللا ذلك بأن الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال.
وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها. وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي» اقتد الاقتداء» ومثله كما قال أبو البقاء قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه | والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب |
وأحر قلباه مما قلبه شبم بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت. واستحسن صاحب الدر المصون جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها. وزعم الإمام أن إثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالإمام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط هو وهم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أي لا أطلب عَلَيْهِ أي على القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما أَجْراً أي جعلا قل أو أكثر كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم السلام أممهم قيل: وهذا من جملة ما أمرنا بالاقتداء به من هداهم عليهم السلام، وهو ظاهر على ما قاله القطب لأن الكف عن أخذ أجر في مقابلة الإحسان من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، وأما على قول من خص الهدى السابق بالأصول فقد قيل: إن بين القول به والقول بذلك الاختصاص تنافيا. وأجيب بأن استفادة الاقتداء بالأصول من الأمر الأول لا ينافي أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بأمر آخر كالتبليغ. وتقديم المتعلق هناك إنما هو لنفي اتباع طريقة غيرهم في شيء آخر.
واستدل بالآية على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. وفيه كلام للفقهاء على طوله مشهور غني عن البيان.
إِنْ هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرى أي تذكير فهو مصدر، وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأويله بمذكر لِلْعالَمِينَ كافة فلا يختص به قوم دون آخرين واستدل بالآية على عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك، وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير أمر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد، صفحة رقم 206
والنبوة، والمعاد. وبهذا ترتبط الآية بما قبلها- كما قال الإمام- وأولى منه ما قيل: إنه سبحانه (١) شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:
١٠٧] عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه، وقال الواحدي: يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا،
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن غم عليكم فاقدروا له»
أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم قيل: لمن عرف شيئا هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره.
واختلف التفسير هنا. فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى حَقَّ قَدْرِهِ أي حق معرفته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته والكل محتمل.
واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا عظيما إِذْ قالُوا منكرين لبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترءوا على إنكار ذلك بقولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الأشياء فمن للتأكيد ونصب حَقَّ على المصدرية وهو- كما قال أبو البقاء- في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه. وإِذْ ظرف (٢) للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا؟ احتمالان، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين. وقرىء «قدره» بفتح الدال.
واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش. والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلّى الله عليه وسلّم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الإلزام: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون: «ما أنزل الله على بشر من شيء» وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزه، وقيل:
إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته،
فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك ابن الصيف من أحبار اليهود (٣) قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال:
إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية،
واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم. ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود
(٢) قوله للزمان الزمان كذا يخطه ولعله للزمان الماضي. وجل من لا يسبق قلمه.
(٣) قوله قال لرسول إلخ كذا بخطه ولعل الاولى قال له رسول الله إلخ.
لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية، واستشكل أيضا قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم.
ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام: ١٥٧] حسن إلزامهم بما ذكر، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول. ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم: وما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية.
وقال الإمام: تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة فقال: إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وواحد من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئا ينتج أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس لا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ إلخ فوجب القول بأنها كاذبة وفي ذلك تأمل فليتأمل. ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقرير وتشديد التبكيت، وكذا تقييده بقول سبحانه: نُوراً وَهُدىً فإن كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أَنْزَلَ أو من ضمير بِهِ والعامل جاء، والظاهر تعلق الظرف بجاء، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الفاعل، واللام في قوله سبحانه: لِلنَّاسِ إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائنا للناس، والمراد بهم بنو إسرائيل، وقيل: هم ومن عداهم، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم. وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل.
وقال أبو علي الفارسي: المراد تجعلونه ذا قراطيس، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه: تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيرا منها، والمراد من الكثير نعوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن. وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الالتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة، وضمير الجمع لليهود أيضا إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وهذا أحسن- كما قيل- من الالتفات على القول الأول لأن فيه نقلا من الكلام مع جماعة
هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل إتمام الكلام الأول لأن إتمامه بقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ إلخ بخلاف الالتفات على القول الثاني، والجملة- على ما قال أبو البقاء- في موضع الحال من فاعل تَجْعَلُونَهُ بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين، وعليه- كما قال شيخ الإسلام- فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلّى الله عليه وسلّم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: ٧٦] لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافا مقررا لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن، ولا سبيل- كما قال- إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: ١٥] فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما.
وجوز أن تكون الجملة معطوفة على مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين. وروي عنه أنه قرأ «وعلمتم معشر العرب ما لم» إلخ وهو عند قوم اعتراض للامتنان على النبي صلّى الله عليه وسلّم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن.
وقال بعضهم: إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود، وعُلِّمْتُمْ عطف على تَجْعَلُونَهُ والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي عُلِّمْتُمْ لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف.
وقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ أمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم، وإشعارا بتعين الجواب وإيذانا بأنهم أفحموا، ولم يقدروا على التكلم أصلا، والاسم الجليل إما فاعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزله الله أو الله تعالى أنزله، والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور ثُمَّ ذَرْهُمْ أي دعهم فِي خَوْضِهِمْ أي باطلهم فلا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر يَلْعَبُونَ في موضع الحال من- هم- الأول، والظرف صلة ذَرْهُمْ أو يَلْعَبُونَ أو حال من مفعول ذَرْهُمْ أو من فاعل يَلْعَبُونَ.
وجوز أن يكون في موضع الحال من- هم- الثاني. وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه، والظرف متصل بما قبله إما على أنه لغو أو حال من- هم- ولا يجوز حينئذ جعله متصلا بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضا لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى. والآية عند بعض منسوخة بآية السيف، واختار الإمام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعا للمدلول فلم يحصل النسخ فيه وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما يشير به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب، وتنكير كِتابٌ للتفخيم، وجملة أَنْزَلْناهُ في موضع الرفع صفة له.
وقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة. قال الإمام: جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة، ولقد شاهدنا والحمد لله عز وجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم.
وقوله جل وعلا: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ صفة أخرى، والإضافة- على ما نص عليه أبو البقاء- غير محضة، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية. وروي ذلك عن الحسن، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه. فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قيل: عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار. واختار العلامة الثاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار، وادعى أنه لا حاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه، والأولى ما يقال: إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام: ١٩] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية. فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى، ومنه يعلم الداعي اللفظي.
وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرا أو مقدما أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلنا لتنذر، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي، وأن يكون عطفا على مقدر أي لتبشر ولتنذر، وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى، والمراد بها مكة المكرمة، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضا تعظيم الأم، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي، ولأنها أعظم القرى شأنا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل. وقيل: لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. ونقل ذلك عن السدي.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «لينذر» بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به وَمَنْ حَوْلَها من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم الصادع بها القرآن في غير آية، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلّى الله عليه وسلّم مرسل للعرب خاصة، على أنه يمكن أن يقال: خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبما فيها من الثواب والعقاب، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالكتاب، قيل: أو بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازا أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازا كقوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كالذين قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من جهته تعالى: وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ أي والحال أنه لم يوح إليه شَيْءٌ كمسيلمة والأسود العنسي وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١] وتفسير الأول بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا، وتفسير الثاني ذهب إليه الزمخشري وغيره. وتفسير الثالث ذهب إليه الزجاج ومن وافقه. وأخرج عبد بن حميد
وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزلت في مسيلمة الكذاب والأخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف أَوْ قالَ الأول على افْتَرى إلخ من عطف التفسير.
وتعقب بأنه لا يكون بأو، واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وأو للتنويع يعني أنه تارة ادعى أن الله تعالى بعثه نبيا وأخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الإيحاء ويلزم الإيحاء النبوة، ويفهم من صنيع بعضهم أن أو بمعنى الواو، وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحا القدرة ولكن قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات، وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد،
فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فكتب له شيئا فلما نزلت الآية في المؤمنين وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: ١٤] فقال رسول الله: هكذا أنزلت علي فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال،
وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدرة على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا اعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلا كما لا يخفى. واعتبر الإمام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعا من الأشياء التي وصفت بكونها افتراء ثم قال: والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الثاني أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة والسلام فكان جمعا بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود انتهى. وفيه عدول عن الظاهر حيث جعل ضمير إِلَيْهِ راجعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والواو في وَلَمْ يُوحَ للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى، وربما يقال لو قطع النظر عن سبب النزول: إن المراد بمن افترى على الله كذبا من أشرك بالله تعالى أحدا بحمل افتراء الكذب على أعظم أفراده، وهو الشرك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى وبمن قال: أُوحِيَ إِلَيَّ والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذبا وبمن قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: من أظلم ممن أشرك بالله عز وجل أو ادعى النبوة كاذبا أو طعن في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر.
وَلَوْ تَرى أي تبصر، ومفعوله محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى: إِذِ الظَّالِمُونَ عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والأصل لو ترى الظالمين إذ هم، وإِذِ ظرف لترى والظَّالِمُونَ مبتدأ، وقوله تعالى: فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ خبره وإذا ظرف لترى، وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر، وقيل: المفعول إِذِ والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه، وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا، والمراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة من الافتراء والقولين الأخيرين، والغمرة كما قال الشهاب في الأصل: المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة.
ومنه قول المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة | سبوح لها منها عليها شواهد |
أرواحهم وهم أعوان ملك الموت باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي بالعذاب، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب، والأمر للتوبيخ والتعجيز، وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك، وفي الكشف أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك، واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها.
الْيَوْمَ المراد به مطلق الزمان لا المتعارف، وهو إما حين الموت وما يشمله وما بعده تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي المشتمل على الهوان والشدة والإضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الاختصاص الذي تفيده الإضافة أقوى من اختصاص التوصيف، وجوز أن تكون الإضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي. ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فإنها وإن كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة إلا أنها استعملت فيها تقريبا للإفهام، وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار بمقامع من حديد والإخراج بالإخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ من نفي إنزاله على بشر شيئا وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك إليه ودعوى النبوة كذبا ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك. وفي التعبير بغير الحق عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول تَقُولُونَ، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا غير الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
للحساب فُرادى أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا. أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت، والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ [البقرة: ١٧٤]، آل عمران: ٧٧] لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب، وقيل: معطوفة على قول: الملائكة أَخْرِجُوا إلخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى. ونصب فُرادى على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في الصحاح، والألف للتأنيث ككسالى، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب الدر المصون وحكي بصيغة التمريض سكونها، ونقل عن الراغب أنه جمع فريد كأسير وأسارى، وفي القاموس يقال: جاؤوا فرادا وفرادا وفرادى وفرادا وفردى كسكرى أي واحد وفراد بعد واحد والواحد فرد وفرد وفريد وفردان. ولا يجوز فرد في هذا المعنى، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية. وقرى «فرادا» كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة. ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص، نعم هو شائع فيما ذكر. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فُرادى بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور، والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة، التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالا ثانية على رأي من يجوز تعدد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالا من الضمير في فُرادى فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه أيضا في الانفراد، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما، وجوز أن يكون صفة مصدر جِئْتُمُونا أي مجيئا كخلقنا لكم.
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.
وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدمتم منه شيئا لأنفسكم.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى: أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا وتلا هذه الآية،
والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد وَما نَرى أي نبصر وهو- على ما نص عليه أبو البقاء- حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى: مَعَكُمْ وليس حالا من مفعول نَرى أعني قوله سبحانه: شُفَعاءَكُمُ ولا مفعول ثانيا، والرؤية علمية. وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز وجل: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في الدنيا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي شركاء الله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه، ومن ذلك قوله:
تقول هلكنا إن هلكت وإنما | على الله أرزاق العباد كما زعم |
ورد بأنه سمع بدا بداء، وقد قدروا في قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [يوسف:
٣٥] بدا البداء.
وقال السفاقسي: إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال: المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعا معرف بلام الجنس وتَقَطَّعَ منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه.
ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل: إن- بين- هو الفاعل وبقي على حاله منصوبا حملا له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وقيل: إنه بني لإضافته إلى مبني، وقيل غير ذلك.
واختار أبو حيان أن الكلام من باب التنازع سلط على ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقطع وضل عنكم فأعمل الثاني وهو ضَلَّ وأضمر في تَقَطَّعَ ضميره. والمراد بذلك الأصنام، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: ١٦٦] أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم.
وقرأ باقي السبعة «بينكم» بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين بمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية. وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن- بين- يستعمل بين الشيئين صفحة رقم 213
المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة. على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد، فإن أبا عمرو، وأبا عبيدة، وابن جني، والزجاج، وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سندا فيه، فكونه منتزعا من هذه الآية غير مسلم، وعليه فيكون مصدرا لا ظرفا. وقيل: إن- بين- هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع.
وقرأ عبد الله «لقد تقطع ما بينكم» وما فيه موصوفة أو موصولة وَضَلَّ عَنْكُمْ ضاع وبطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد، وفي ذلك تنبيه على أن المقصود من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه. والفالق الموجد والمبدع كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك، والحب معلوم، والنوى جمع نواة التمر كما في القاموس وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها. وفسره الإمام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره، والمشهور أن النوى إذا أطلق فالمراد منه ما في القاموس وإذا أريد غيره قيد فيقال: نوى الخوخ ونوى الإجاص ونحو ذلك. وأصل الفلق الشق. وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه، وعن الحسن، وقتادة، والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى.
وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح أطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم. وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وضعف بأنه لا دلالة على كمال القدرة كما في سابقه.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو من النطفة، والحب، والنوى، والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل: خبر ثان ولم يعطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على عظمة الله تعالى: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ كالنطفة وأخويها مِنَ الْحَيِّ كالحيوان وأخويه، وهذا عند بعض عطف على فالِقُ لا على يُخْرِجُ الْحَيَّ إلخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه.
واختار ابن المنير كونه معطوفا على يُخْرِجُ قال: وقد وردا جميعا بصيغة المضارع كثيرا وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع، فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال: كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصور إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: ٦٣] كيف عدل فيه عن الماضي المطابق لأنزل لذلك، وقوله:
بأني قد لقيت الغول يسعى | بسهب كالصحيفة صحصحان |
وما المال والأهلون إلا وديعة | ولا بد يوما أن ترد الودائع |
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا | فالناس مفجوع به ومفجع |
مستودع أو مستقر مدخلا | فالمستقر يزوره المستودع |
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع. ووجه كون الأول معلوما والثاني مجهولا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ معاني ذلك، قيل: ذكر مع ذكر النجوم يَعْلَمُونَ ومع ذكر إنشاء بني آدم يَفْقَهُونَ لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم، وقيل: هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيها على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم وافتنانا في البلاغة.
وذكر ابن المنير وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته. وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا. ويَفْقَهُونَ هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها. ثم ذكر أنه إذا قيل: صفحة رقم 223
فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا وكان معنى قولك: لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك: لا يعلم شيئا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم. واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢٠، ٢١] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته عز وجل وسعة رحمته، والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء.
وقيل: الكلام على ظاهره والإنزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي، واحتج على فساد قول من يقول: إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه. أحدها أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد. وذلك يبطل ما ذكر. ثانيها أن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء.
ثالثها أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول. ثم قال: والقوام إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها. وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى. ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة. وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى. ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه. وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل القول بامتناع الخرق والالتئام أيضا ووجود كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحابا يمطر مع عدم مشاهدة ماء نازل من السماء إليه إلى غير ذلك. وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه وبعضه مما لم يقم الدليل عليه ولم يشهد بصحته الشرع لكن مشاهدة من على الجبل ما ذكر ونحوها يستدعي صحة قولهم في الجملة ولا أرى فيه بأسا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما من قطرة تنزل إلا ومعها ملك، وهو عند الكثير محمول على ظاهره.
والفلاسفة يحملون هذا الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول، وقيل: هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر للقطر حافظ إياه، ويثبت أفلاطون هذا النور المجرد لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها على ما ذهب إليه صاحب الإشراق وهو أحد الأقوال في المثل الأفلاطونية، ويشير إلى نحو ذلك كلام الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير الفاتحة، ونصب ماءً على المفعولية لأنزل، وتقديم المفعول غير الصريح عليه لما مر مرارا فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء، والفاء للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه. وأُخْرِجْنا عطف على أَنْزَلَ والالتفات إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله، وذكر بعضهم نكتة خاصة لهذا الالتفات غير ما ذكر وهي أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى ما ينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى
يخاطب واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي كل صنف من أصناف النبات المختلفة في الكم، والكيف، والخواص، والآثار.
اختلافا متفاوتا في مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله سبحانه: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد: ٤] والنبات كالنبت وهو- على ما قال الراغب- ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات، ومتى اعتبرت الحقائق فإنه يستعمل في كل نام نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا. والمراد هنا عند بعض المعنى الأول. وجعل قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً شروعا في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم وضمير مِنْهُ للنبات. والخضر بمعنى الأخضر كأعور وعور، وأكثر ما يستعمل الخضر فيما تكون خضرته خلقية، وأصل الخضرة لون بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب ولذا يسمى الأخضر أسود وبالعكس، والمعنى فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وجوز عود الضمير إلى الماء ومن سببية، وجعل أبو البقاء هذا الكلام حينئذ بدلا من فَأَخْرَجْنا الأول، وذكر بعض المحققين أن في الآية على تقدير عود الضمير إلى الماء معنى بديعا حيث تضمنت الإشارة إلى أنه تعالى أخرج من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان وإلى ذلك نظر القائل يصف المطر:
يمد على الآفاق بيض خيوطه | فينسج منها للثرى حلة خضرا |
وقوله سبحانه: قِنْوانٌ مبتدأ وحاصله من طلع النخيل قنوان، وجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه وهو كون خاص وبه يتعلق الجار. والتقدير ومخرجه من طلع النخل قنوان. وعلى القراءة السابقة آنفا يكون قِنْوانٌ معطوفا على حب. وقيل: المعنى وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ومن النخل شيئا من طلعها قنوان، وهو جمع قنو بمعنى العذق وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب. وتثنيته أيضا قنوان ولا يفرق بين المثنى والجمع إلا الإعراب، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء هذا وصنو وصنوان. ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه. وحكى سيبويه شقد، وشقدان، وحش، وحشان للبستان نقله الجلال السيوطي في المزهر. وقرىء بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من زنات التكسير دانِيَةٌ أي قريبة من المتناول كما قال الزجاج. واقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها وقيل: المراد دانية من الأرض بكثرة ثمرها وثقل حملها والدنو القولين حقيقة، ويحتمل أن يراد به سهولة الوصول إلى ثمارها مجازا.
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شيء أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب، وجعله الواحدي عطفا على خَضِراً. وقال الطيبي: الأظهر أن يكون عطفا على «حبا» لأن قوله سبحانه: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ
مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي، والنامي الحب والنوى وشبههما. وقوله سبحانه: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً إلخ تفصيل لذلك النبات، وهو بدل من فَأَخْرَجْنا الأول بدل اشتمال، وقيل: وهذا مبني على أن المراد بالنبات المعنى العام وحينئذ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه وإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه غير داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله سبحانه: وَمِنَ النَّخْلِ فعل آخر كما أشير إليه فتدبر.
وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود، والأعمش، ويحيى بن يعمر، وأبو بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو نحو ذلك، وجوز الزمخشري أن يكون على العطف على قِنْوانٌ قال في التقريب: وفيه نظر لأنه إن عطف- على ذلك فمن أعناب- حينئذ إما صفة جَنَّاتٍ فيفسد المعنى إذ يصير المعنى وحاصلة من النخيل جنات حصلت من أعناب، وإما خبر لجنات فلا يصح لأنه يكون عطفا لها على مفرد ويكون المبتدأ نكرة فلا يصح، وفي الكشف أن الثاني بعيد الفهم من لفظ الزمخشري وإن أمكن الجواب بأن العطف على المخصص مخصص كما قال ابن مالك، واستشهد عليه بقوله:
عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي | فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا |
وقوله سبحانه: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ إما حال من الزَّيْتُونَ لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه والتقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك، وإما حال من الرُّمَّانَ لقربه ويقدر مثله في الأول. وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض أي بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها جل شأنه وإلا كان المعنى جميعه مشتبه وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح. ومن الناس من جوز كونه حالا منهما مع التزام التأويل. وافتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى. وقرىء متشابها وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا نظر اعتبار واستبصار إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر ذلك أي الزيتون والرمان والمراد شجرتهما وأريد بهما فيما سبق الثمرة ففي الكلام استخدام. وعن الفراء أن المراد في الأول شجر الزيتون وشجر الرمان وحينئذ لا استخدام، وأيّا ما كان فالضمير راجع إليهما بتأويله باسم الإشارة. ورجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل بعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير.
وجوز رجوع الضمير إلى جميع ما تقدم بالتأويل المذكور ليشمل النخل وغيره مما يثمر إِذا أَثْمَرَ أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. وقرأ حمزة والكسائي «ثمره» بضم الثاء وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب وَيَنْعِهِ أي وإلى حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة. وهو في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت، وقيل: جمع يانع كتاجر وتجر. وقرىء بالضم وهي لغة فيه.
وقرأ ابن محيصن «ويانعه»، ولا يخفى أن في التقييد بقوله تعالى: إِذا أَثْمَرَ على ما أشرنا إليه إشعارا بأن المثمر حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع. ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. وعن الزمخشري أنه قال فإن قلت هلا قيل: إلى غض ثمره وينعه؟ قلت: في هذا الأسلوب فائدة وهي أن الينع وقع فيه معطوفا على الثمر على سنن صفحة رقم 226
الاختصاص نحو قوله سبحانه: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] للدلالة على أن الينع أولى من الغض وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين.
إِنَّ فِي ذلِكُمْ إشارة إلى ما أمروا بالنظر إليه. وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مر غير مرة لَآياتٍ عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يطلبون الإيمان بالله تعالى- كما قال القاضي- أو مؤمنون بالفعل، وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم- كما قيل- ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لا بد أن يكون بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعم الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه بقوله عز شأنه: وَجَعَلُوا في اعتقادهم لِلَّهِ الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات شُرَكاءَ في الألوهية أو الربوبية الْجِنَّ أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا: إنهم بنات الله سبحانه وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن. وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية.
وروي هذا عن قتادة، والسدي، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة. وقيل: المراد بهم الشياطين وروي عن الحسن ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم. ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى خالق الناس، والدواب، والأنعام، والحيوان، وإبليس خالق السباع، والحيات، والعقارب والشرور. فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس.
وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية، ومفعولا- جعل- قيل: لله، وشركاء، والْجِنَّ إما منصوب بمحذوف وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل: من جعلوه شركاء؟ فقيل: الجن، أو منصوب على البدلية من شُرَكاءَ والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير. وقيل: هما شُرَكاءَ والْجِنَّ، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنا ما كان، ولِلَّهِ متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضا على ما اختاره الزمخشري.
وقرىء «الجن» بالرفع كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين: وَخَلَقَهُمْ حال من فاعل جَعَلُوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة، وقيل: الضمير للجن أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له. ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال المذهب الباطل. وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» على صيغة المصدر عطفا على الْجِنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شُرَكاءَ أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا: الله أمرنا بها وَخَرَقُوا لَهُ أي افتعلوا وافتروا له سبحانه، قال الفراء: يقال: خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى.
ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله. وقال الراغب: أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر.
ومنه قوله تعالى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها [الكهف: ٧١] وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع. وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء للتكثير. وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم «وحرفوا» من التحريف أي وزوروا له بَنِينَ وَبَناتٍ فقالت اليهود. عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالو بِغَيْرِ عِلْمٍ بحقيقته من خطأ أو صواب ولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد.
وأيّا ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل، وقيل: إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلوما ولا يقام عليه دليل، ولا حاجة إليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقا وافتراء ومن قوله عز وجل:
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ من أن له جل شأنه شريكا أو ولدا، وقد تقدم الكلام في سبحانه وما يفيده من المبالغة في التنزيه، وتَعالى عطف على الفعل المضمر الناصب لسبحان.
وفرق الإمام بين التسبيح والتعالي بأن الأول راجع إلى أقوال المسبحين والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره والمراد بالبنين فيما تقدم ما فوق الواحد أو أن من يجوز الواحد يجوز الجمع.
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان قاله الراغب، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول، ومنه قيل: ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما.
وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سماواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثبت الغدر أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتا في قتال أو كلام. والمراد من بديع في السماوات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما.
ومعنى ذلك- على ما قال بعض المحققين- أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقا، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما. واختار غير واحد التفسير الأول، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالكلية، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟.
وقرىء «بديع» بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في سُبْحانَهُ على رأي من يجوزه، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه- كما قال أبو البقاء-، الأول أنه خبر مبتدأ محذوف، الثاني أنه فاعل، تَعالى وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه، والثالث أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه. وقوله تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والده أصلا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو
كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها. وقرأ إبراهيم النخعي «لم يكن» بتذكير الفعل وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله:
لقد ولد الأخيطل أم سوء | على قمع استها صلب وشام |
والخبر هو الظرف وصاحِبَةٌ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم وصاحِبَةٌ مبتدأ والجملة خبر يَكُونُ وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم. وقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أن يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه. ويفهم من التفسير الكبير أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلا رد بأن خلقه للسماوات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدا له تعالى وهو باطل بالاتفاق، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولا بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف. وثانيا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقا لكل الممكنات وكان قادرا على كل المحدثات فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة. وإن أراد مفهوما ثالثا فهو غير متصور وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ من شأنه أن يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبىء عنه ترك الإضمار إلى الإظهار عَلِيمٌ مبالغ في العلم أزلا وأبدا حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الاسمية، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيا عن غيره فامتنع كونه ولدا للغير فتعين كونه حادثا، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فأما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا أو نفعا أو يعلم أنه ليس كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبله وهو يوجب كونه أزليا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الأوقات. وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضا، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد، والجملة إما حالية أو مستأنفة، واقتصر بعضهم على الثاني فقال: إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم. والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلفون، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه: لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه. وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة إقناعية، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر ذلِكُمُ إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا. والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الالتفات.
وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس، وهو مبتدأ وقوله سبحانه: اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شيء مما كان وسيكون، والمعتبر في عنوان الموضوع حسبما اقتضته الإشارة إنما هو خالقيته صفحة رقم 229
سبحانه لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغة الماضي، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلا من اسم الإشارة ورَبُّكُمْ صفته وما بعده خبر، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه، وأن يكون بدلا والبواقي أخبار، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ، وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد، وأن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بدلا من الضمير، وجوز غير ذلك. وقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كما هو المستحق للعبادة خاصة، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها في نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغني عن أن يقال: فلا تعبدوا إلا إياه، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] إياه (١) لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ [الجاثية: ٣٦] ونحوه، وإنما قال سبحانه هنا: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وفي سورة المؤمن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر: ٦٢] فقدم سبحانه هنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وعكس هناك قال بعض المحققين لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ إلخ فلما قال جل شأنه. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أتى بعده بما يدفع الشركة فقال عز قائلا: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم خالق كل شيء وتلك جاءت بعد قوله سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: ٥٧] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى.
وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. واستدل أصحابنا بعموم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد.
والمعتزلة قالوا: عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين. أحدها تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه:
فَاعْبُدُوهُ فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر. ثانيها أن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا.
ثالثها أنه تعالى قال بعد: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وهو تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك وأنه لا مانع له. رابعها أن هذه الآية أتى بها بعد وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ محمولا على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا: إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقا فتدبر لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة. وهي قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة. وقيل: هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والافهام كما
قال أمير
المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه التوحيد أن لا تتوهمه وقال أيضا: كل ما أدركته فهو غيره.
ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في قوله: يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته. واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى.
وتقرير ذلك على ما في المواقف وشرحها أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات. لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكر ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه، وإنما قيل: من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام فإن الأول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى. وحاصله أن المراد بالإدراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الإحاطة، وأن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس سره. والجواب عنه من وجوه، الأول أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره- على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه، ففي الدر المنثور وأخرج ابن جرير عن ابن عباس «لا تدركه الأبصار» لا يحيط بصر أحد بالله تعالى انتهى. وإليه ذهب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة- أخص مطلقا من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فظهر صحة أن يقال: رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه. الثاني أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولا دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غافر: ٣١] فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم أولا ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها فتكون لسلب العموم وكل ما احتمل سلب العموم لم يكن نصا في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الأكثر وكل ما كان كذلك لم يبق فيه حجة على امتناع الرؤية مطلقا وهو ظاهر، وهذا إذا كان أل في الْأَبْصارُ للاستغراق فإن كان للجنس كان لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الأبصار وهو متفق عليه. الثالث أنا لو سلمنا أن الإدراك هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره.
ويدل عليه ما
أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: ١٤٣] فقال: قال الله تعالى: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم»
قولهم:
بل هي دائمة لأن قولك: فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله، قلنا: هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الأبصار ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقليا ولا لغويا ولا شرعيا: أما الأول فلأنا إذا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وأن يقابلها سالبة
دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعا لكن كذب المطلقة هاهنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مرادا بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام البتة بل يختلف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدا، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعا فنحن نقول: إنها صادقة شرعا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة، وكل ما كان كذلك لزم أن لا يكون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه
في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره».
وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما.
فقد روي أنه قال: «رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه فقال له عكرمة: أليس الله تعالى يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فقال:
لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» الحديث.
وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك؟ فقال في أحد جوابيه
«نور أنى أراه»
وفي الجواب
«رأيت نورا»
فيقال: النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار.
وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله تعالى عنهما من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز وجل الفرية، واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال: أرادت من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عز وجل الفرية ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلا.
وقد يقال أيضا: المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب.
ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وقع بعد قوله سبحانه: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في أي وقت شاء كيف شاء، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره.
وذهب بعض المحققين أن الآية لم تسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل. الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة بالشروط التسعة العادية على ما يشير إليه آخر الآية، ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآية نفي الرؤية مطلقا. الخامس ما قيل: إنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول:
إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الأبصار يدركونه، والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بأنه إنما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر.
السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بأبصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضا لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي، فقد نقل عنه أنه كان يقول: إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها سبحانه له يوم القيامة، واحتج عليه بهذه الآية فقال: إنها دلت على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزا في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه اه.
ومن الناس من استدل بالآية على أن الاطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الأبصار جمع بصر بمعنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية. وفيه ما فيه. نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى، ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها، وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان. ولعل النوبة تفضي إلى تسريح يعملات الأقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لإدراك أبصار الافهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي يراها على وجه الإحاطة أو يحيط بها علما أو علما ورؤية كما قيل، وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن إدراك الله تعالى بمعنى الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية، والمراد بالأبصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى. ولعل هذا هو السر في الإظهار في مقام الإضمار، وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار، فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه: وَهُوَ إلخ.
وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فإن اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركا بالكسر. واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة من الشيء الخفي.
ويفهم من ظاهر كلام البهائي- كما قال الشهاب- أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله تعالى الحسنى: اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤، النحل: ١٨] وقيل: اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف.
ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن
يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلا عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلا عن الأفكار ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف إليه بالكثافة انتهى. والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى.
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ استئناف وارد على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقل مقدرة كما قاله بعض المحققين.
والبصائر جمع بصيرة وهي للقلب كالبصر للعين، والمراد بها الآيات الواردة هاهنا أو جميع الآيات ويدخل ما ذكر دخولا أوليا، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة لبصائر، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمال اللطف بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم فَمَنْ أَبْصَرَ أي الحق بتلك البصائر وآمن به فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسه أبصر كما نقل عن الكلبي وتبعه الزمخشري أو فإبصاره لنفسه كما اختاره أبو حيان لما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى.
والمراد على القولين أن نفع ذلك يعود إليه وَمَنْ عَمِيَ أي ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه، وإنما عبر عنه بالعمى تنفيرا عنه فَعَلَيْها عمى أو فعماه عليها أي وبال ذلك عليها، وهما قولان لمن تقدم. وذكر أبو حيان أن تقدير المصدر أولى لوجهين: أحدهما أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة. والثاني أنه لو كان المقدر فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت «من» شرطية أو موصولة لامتناعها في الماضي. وتعقب بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة، وأيضا أن في تقديره تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص، وأيضا ما ذكر في الوجه الثاني غير لازم لأنه لم يقدر الفعل موليا لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدما ولا بد فيه من الفاء فلو قلت: من أكرم زيدا فلنفسه أكرمه لم يكن بد من الفاء. نعم لم يعهد تعدية عَمِيَ بعلى وهو لازم التقدير السابق في الجملة الثانية وكأنه لذلك عدل عنه بعضهم بعد أن وافق في الأول إلى قوله: فعليها وباله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التصريف البديع نُصَرِّفُ الْآياتِ الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه.
وقيل: المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات. وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول. وأصل التصريف- كما قال علي بن عيسى- إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال.
وقال الراغب التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر.
وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السياق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور. وبعضهم قدر الفعل ماضيا والأمر في ذلك سهل، واللام لام العاقبة.
وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء وهداية السعداء قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: ٢٦]. والواو اعتراضية. وقيل: هي عاطفة على علة محذوفة واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا إلخ. وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا إلخ. وقيل:
اللام لام الأمر، وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنهم لا
احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث. ورده في الدر المصون بأن ما بعده يأباه فإن الام فيه نص في أنها لام كي، وتسكين اللام في القراءة الشاذة لا دليل فيه لاحتمال أن يكون للتخفيف.
ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت، وأصله- على ما قال الأصمعي- من قولهم: درس الطعام يدرسه دراسا إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه.
وقال أبو الهيثم: يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم: درست الثوب أدرسه درسا فهو مدروس ودريس أي أخلقته، ومنه قيل للثوب الخلق: دريس لأنه قد لان، والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها. وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى التذليل والتليين. وقال الراغب: يقال درس الدار أي بقي أثره وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس، ومجاهد، أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته، وأرادوا بذلك نحو ما أرادوا بقولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: ١٠٣]. قال الإمام ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان: ٤] وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وسهل «درست» بفتح السين وسكون التاء، ورويت عن عبد الله بن الزبير، وأبيّ، وابن مسعود، والحسن رضي الله تعالى عنهم.
والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: ٢٥، وغيرها]. وقرىء «درست» بضم الراء مبالغة في درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها، و «درّست» على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعديا كمجيئه لازما، و «دارست» بتاء التأنيث أيضا. والضمير إما لليهود لاشتهارهم بالدراسة أي دارست اليهود محمدا صلّى الله عليه وسلّم وإما للآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمدا عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، و «دورست» على مجهول فاعل. و «درست» بالبناء للمفعول والإسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد، ونسبت إلى ابن زيد. و «ادارست» مشددا معلوما ونسبت إلى ابن عباس، وفي رواية أخرى عن أبي «درس» على إسناده إلى ضمير النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ونحوه و «درسن» بنون الإناث مخففا ومشددا. و «دارسات» بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس كعيشة راضية [القارعة: ٧] وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دارسات وَلِنُبَيِّنَهُ عطف على لِيَقُولُوا واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة. ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف. والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالأغراض مشهور وقد أشرنا إليه فيما تقدم. والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو لمصدر نُصَرِّفُ كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر. وهم- على ما روي عن ابن عباس- أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد. ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي دم على ما أنت عليه من التدين بما أوحي إليك من الشرائع والأحكام التي عمدتها التوحيد. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطف به صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بأوحي. وأن يكون حالا من ضمير المفعول المرفوع فيه.
وأن يكون حالا من مرجعه.
وقوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يحتمل أن يكون اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه أكد به إيجاب الاتباع لا سيما في أمر التوحيد. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا مؤكدة مِنْ رَبِّكَ أي منفردا في الألوهية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تعتد بأقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا ولا تبال بها ولا تلتفت إلى أذاهم وعلى هذا فلا نسخ في الآية. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف فيكون الإعراض محمولا على ما يعم الكف عنهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكهم ما أَشْرَكُوا وهذا دليل لأهل السنة على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده. والجملة اعتراض مؤكد للإعراض. وكذا قوله تعالى: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم. وكذا قوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ من جهتهم تقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وقيل: المراد ما جعلناك عليهم حفيظا تصونهم عما يضرهم وما أنت عليهم بوكيل تجلب لهم ما ينفعهم. وعَلَيْهِمْ في الموضعين متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كإن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها. والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم.
والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام. وقيل: إن سب الآلهة سب لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزا عن الحق إلى الباطل، ونصبه على أنه حال مؤكدة. وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له، وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل، وفَيَسُبُّوا منصوب على جواب النهي. وقيل: مجزوم على العطف كقولهم: لا تمددها فتشققها.
ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلّى الله عليه وسلّم ولمن يأمره، وقد فسر بِغَيْرِ عِلْمٍ بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر.
ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثر الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظه ذلك جدا فسب عليا كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم، وقال الراغب: إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحا ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه، وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا وهو سب فعلي، قال الشاعر:
وما كان ذنب بني مالك... بأن سب منهم غلام فسب
بأبيض ذي شطب قاطع... يقد العظام ويبري العصب
ونبه به على ما قال الآخر:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقيل: المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] الآية. وقرأ يعقوب «عدوا» يقال: عدا فلان يعدو عدوا وعدوا وعدوانا.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرأيتكم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم. قال أبو جهل: نعم لنعطينكها وأبيك وعشر أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها فقال صلّى الله عليه وسلّم:
يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم، وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] نزلت وَلا تَسُبُّوا إلخ،
واستشكل ذلك بأن وصف آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا. وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة.
وقال في الكشف: المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سبا لسبهم.
وقيل: ما في الآية لا يعد سبا لأنه ذكر المساوي لمجرد التحقير والإهانة وما فيها إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية وفيه تأمل، وقريب منه ما قيل إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل: لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عز وجل. واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبهان، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلا: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما.
ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر، وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي منصور أنه قال: كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر، وكذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه، وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض. وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات
منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ المتولد منه، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه اه. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها كَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين القوي زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم عَمَلَهُمْ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا، وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفر إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم، والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم، واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الإيمان.
وأنكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مالك أمرهم مَرْجِعُهُمْ أي رجوعهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت فَيُنَبِّئُهُمْ من غير تأخير بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر، وذلك بالثواب على الأول والعقاب على الثاني، فالجملة للوعد والوعيد. وفسر بعضهم ما بالسيئات المزينة لهم وقال: إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وَأَقْسَمُوا أي المشركون بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جاهدين فيها. فجهد مصدر في موضع الحال.
وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشقة، وقيل: بالفتح المشقة وبالضم الوسع، وقيل: ما يجهد الإنسان، والمعنى هنا على ما قال الراغب: إنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم أو من جنس الآيات. ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات القاهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها لَيُؤْمِنُنَّ بِها وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات. والباء صلة الإيمان، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بك بسببها خلاف الظاهر.
قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولا أوليا عِنْدَ اللَّهِ أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح.
وقيل: إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو آتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها. واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر.
روي أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا: نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزلها طمعا في إيمانهم فهم عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت.
وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال: كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر وأن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فائتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟
قالوا: تحول لنا الصفا ذهبا قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: اتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى يَجْهَلُونَ.
وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون- كما قال الفراء وغيره- إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في إسلامهم، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضا كالهم بالدعاء، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وإن أجيبوا إلى ما سألوه.
وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر. ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين: إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم إلخ وهو تكلف لا داعي إليه. وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين. وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات وأَنَّها إلخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وما استفهامية إنكارية- على ما قاله غير واحد- لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل، وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا آية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعا في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول، فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه كأنهم قالوا: ربنا أنزل للمشركين آية فإنه لو نزلت يؤمنون، وحينئذ يقال في الإنكار: ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون.
ويتضح هذا بمثال، وذلك أنه إذا قال لك القائل: أكرم فلانا فإنه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافأة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت: وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فأنكرت عليه إثبات المكافأة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك: لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافأة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت: وما يدريك أنه لا يكافئني فأنكرت عليه عدم المكافأة وأنت تعلم ثبوتها.
والآية كما لا يخفى من قبيل المثال الأول فكان الظاهر حيث ظنوا ايمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال: وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون. وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم، والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان لم ولا فإن كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم إنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك؟
وإن كان بمعنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم، وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه.
وأجاب آخرون بأن لا زائدة كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٩٥] فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا. وعن الخليل أن أن بمعنى لعل كما في قولهم ائت السوق أنك تشتري لحما وقول امرئ القيس:
عرجوا على الطلل المحيل لأننا | نبكي الديار كما بكى ابن خذام |
هل أنتم عائجون بنا لأنا | نرى العرصات أو أثر الخيام |
[عبس: ٣] وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه «وما أدراك لعلها» والكلام على هذا قد تم قبل أَنَّها والمفعول الثاني ليشعركم محذوف. والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم. ومن الناس من زعم أن أَنَّها إلخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفى بعده. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب «إنها» بالكسر على الاستئناف حسبما سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم. قال في الكشف: وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا؟ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون. ولك أن تبنيه على قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزما بالطرف المحالف وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى.
وقرأ ابن عامر، وحمزة «لا تؤمنون» بالفوقانية. والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف. وقرىء «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون» فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن. وقرىء «وما يشعركم» بسكون خالص واختلاس. وضمير بِها على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم. وزعم بعضهم أن عوده للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ عطف على لا يُؤْمِنُونَ داخل معه في حكم وَما يُشْعِرُكُمْ مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق.
فلا يدركونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه. وهذا على ما قال الإمام تقريرا لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون.
وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشىء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما جاء من الآيات بالله تعالى. وقيل: بالقرآن. وقيل: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يجر لذلك ذكر. وقيل: بالتقليب وهو كما ترى.
أَوَّلَ مَرَّةٍ أي عند ورود الآيات السابقة. والكاف في موضع النعت لمصدر منصوب بلا يؤمنون وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة. وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم. وقال أبو البقاء: إن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه. والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره.
وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من وَنُقَلِّبُ إلخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا. والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم
على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهكذا غالب كلام المعتزلة وَنَذَرُهُمْ أي ندعهم: فِي طُغْيانِهِمْ أي تجاوزهم الحد في العصيان يَعْمَهُونَ أي يترددون متحيرين وهذا عطف على «لا يؤمنون» مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة يَعْمَهُونَ في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم. وقرىء «يقلب. ويذر» على الغيبة والضمير لله عز وجل. وقرأ الأعمش «وتقلّب» على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الجنيد قدس سره: أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي وَلَوْ أَشْرَكُوا بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله:
ولو خطرت لي في سواك إرادة | على خاطري سهوا حكمت بردتي |
وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك»
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة اقْتَدِهْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك- على ما قيل- في منازل الوسائط، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الأعراف:
٢٠٣] مع
قوله صلّى الله عليه وسلّم: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي».
وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: ١٢٣] حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون.
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وهي القلب وَمَنْ حَوْلَها من القوى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كمن تفرعن وادعى الألوهية وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الطبيعي وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ تغليظا وتعنيفا عليهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ صفحة رقم 241
والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيئاتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عند أخذ الميثاق.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف وَالنَّوى أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي العالم به من الجاهل وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه فالِقُ الْإِصْباحِ أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الربى وقال الإمام فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها وجاعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت سَكَناً تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم:
زدني بفرط الحب فيك تحيرا | وارحم حشا بلظى هواك تسعرا |
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة | ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم |
يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله بِغَيْرِ عِلْمٍ منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ من تقيده بما قيدوه به جل شأنه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة: يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها،
وورد في الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم»
فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد:
من رأى الحق كفاحا علنا... إنما أبصره خلف حجاب
وهو لا يعرفه وهو به... إن هذا لهو الأمر العجاب
كل راء لا يرى غير الذي... هو فيه من نعيم وعذاب
صورة الرائي تجلت عنده... وهو عين الراء بل عين الحجاب
فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحا فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجميع القوى إلخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد:
قد استوى الميت والحي... في كونهم ما عندهم شيء
مني فلا نور ولا ظلمة... فيهم ولا ظل ولا في
رؤيتهم لي معدومة... فنشرهم في كونهم طي
وفهمهم إن كان معناهم... عنه إذا حققته غي
إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلي الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول: قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول: رأينا من مضي من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم
إنسانا لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأينا وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال. وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب، ومنه يعلم ما في قول بعضهم لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لغاية ظهوره سبحانه وَهُوَ اللَّطِيفُ إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد الْخَبِيرُ أي العليم خبرة أنه بصر العبد وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: ٢٠]. ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١] وعن الجنيد قدس سره للطيف من نور قلبك بالهدى وربب جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى. ويدخلك جنة المأوى.
وقال غيره: اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته أواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافأك. وإن أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين: إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية فَمَنْ أَبْصَرَ واهتدى فَلِنَفْسِهِ ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه وَمَنْ عَمِيَ واحتجب عن الهدى فَعَلَيْها عماه واحتجابه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شؤونكم به موجودون (١) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه، وقال آخر: المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قيل: وهو إشارة إلى وحي خاص به صلّى الله عليه وسلّم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم قال جل شأنه وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ المحجوبين بالكثرة عن الوحدة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي من شأننا أن لا نرد طالبا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ لسبق الشقاء عليهم وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ لاقتضاء استعدادهم ذلك كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: ٣٣] تم طبع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي بحول الله وقوته ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن منه وأول قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا الآية