
يقول تعالى :﴿ ذلكم الله رَبُّكُمْ ﴾ أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة، ﴿ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه ﴾ أي فاعبدوه وحده لا شريك له، وأقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له، ولا نظير ولا عديل ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار. وقوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ فيه أقوال للأئمة من السلف ( أحدها ) : لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترات به الأخبار عن رسول الله ﷺ من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب على الله، فإن الله تعالى قال :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾، وخالفها ابن عباس، فعنه : إطلاق الرؤية، وعنه : أنه رآه بفؤاده مرتين، والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله، وقال يحيى بن معين سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ قال هذا في الدنيا، وقال آخرون :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة، وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، فخالفوا أهل السنّة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنّة رسوله، أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢-٢٣ ]، وقال تعالى عن الكافرين :﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٥ ]، قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمينن لا يحجبون عنه تبارك وتعالى، أما السنّة فقد تواترت الأخبار عن النبي ﷺ : أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وروضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم، ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلاّ هو وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى، وقال آخرون : الإدراك هو الإحاطة، قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ]، وفي صحيح مسلم :« لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك »

، ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. قال ابن عباس ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ قال : لا يحيط بصر أحد بالملك، وعن عكرمة أنه قيل له :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار ﴾ قال : ألست ترى السماء؟ قال : بلى، قال : فكلها ترى؟ وقال قتادة : هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن جرير عن عطية العوفي في قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢-٢٣ ] قال : هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم، فذلك قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾.
وقال آخرون في الآية عن عكرمة قال، سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى فقلت : أليس الله يقول :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ الآية فقال لي : لا أمَّ لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. وفي رواية : لا يقوم له شيء، وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً :« إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه »، وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى إنه لا يراني حي إلاّ مات، ولا يابس إلاّ تدهده : أي تدعثر، وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ]، ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة. يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه، فلا تدركه الأبصار. ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة، وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾، فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء. وقوله :﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها، كما قال تعالى :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾ [ الملك : ١٤ ]، وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين كما قال السدي في قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ لا يراه شيء وهو يرى الخلائق، وقال أبو العالية ﴿ وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾ اللطيف لاستخراجها، الخبير بمكانها، والله أعلم.