
إجلاء يهود بني النضير
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
الإعراب:
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ في الجملة فعل الظن مكرر، وإنما أتى ب أَنْ الخفيفة والثقيلة بعد الظن، لأن الظن يتردد بين الشك واليقين، فتارة يحمل على الشك، فيؤتى بالخفيفة، وتارة يحمل على اليقين، فيؤتى بالثقيلة. وحُصُونُهُمْ: مرفوعة باسم الفاعل: مانِعَتُهُمْ لأن اسم الفاعل جرى خبرا ل أَنْ فوجب أن يرفع ما بعده.
البلاغة:
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ بين ما ظَنَنْتُمْ وظَنُّوا ما يسمى بطباق السلب. صفحة رقم 66

المفردات اللغوية:
سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه وقدسه، ولام لِلَّهِ مزيدة. ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أتى ب ما تغليبا للأكثر. وَهُوَ الْعَزِيزُ القوي الغالب في ملكه. الْحَكِيمُ في صنعه، يضع الأشياء في موضعها المناسب لها.
الَّذِينَ كَفَرُوا يهود بني النّضير، وهم إحدى قبائل اليهود الثلاثة الكبرى في المدينة بجوار بني قريظة وبني قينقاع. مِنْ دِيارِهِمْ مساكنهم في المدينة. لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي عند الحشر الأول أو أول حشرهم، والحشر الأول: الجمع والإخراج والجلاء من المدينة ونفيهم إلى بلاد الشام، والحشر الآخر: إجلاء عمر إياهم في خلافته من خيبر إلى الشام. ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ما ظننتم أيها المؤمنون خروجهم، لشدة بأسهم ومنعتهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي وتأكدوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وعذابه، والحصون: القصور الشاهقة والقلاع المشيدة، جمع حصن.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي جاءهم عذابه وأمره. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا من حيث لم يخطر لهم ببال، لقوة وثوقهم بأنفسهم.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَذَفَ: ألقى بقوة، والمراد هنا: أثبت فيها الخوف الذي يرعبها، أي يملؤها رعبا بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. يُخْرِبُونَ وقرئ: يخرّبون، أي يهدمون، والغاية من الهدم: نقل ما استحسنوا منها من خشب وغيره. فَاعْتَبِرُوا فاتعظوا بحالهم، أو فانظروا في حقائق الأشياء ما تدل عليه من دلالة وعبرة. واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، وحملها عليها في حكم، لما بينها من العلة المشتركة المقتضية التساوي في الحكم.
كَتَبَ قضى. الْجَلاءَ الخروج الجماعي من الوطن مع الأهل والولد، أما الإخراج فيكون لواحد وجماعة، ومع بقاء الأهل والولد. لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ كلام مستأنف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا، لم ينجوا من عذاب الآخرة.
ذلِكَ المذكور الذي حاق بهم. شَاقُّوا خالفوا وعادوا، حتى كأنهم في شق، ومن عادوه في شق آخر. لِينَةٍ نخلة مطلقا أو النخلة الكريمة، وجمعها أليان. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علة لمحذوف، أي وفعلتم، أو: وأذن لكم في القطع ليخزيهم على فسقهم بما غاظهم من العدو. واستدل به على جواز هدم دبار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم.

سبب النزول:
نزول الآية (١) :
سَبَّحَ لِلَّهِ: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: سورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة وهي السلاح، فأنزل الله فيهم:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة، صالح بني النضير على ألا يكونوا له ولا عليه، فلما ظهر على المشركين يوم بدر، قالوا: إنه النبي المبعوث- في التورية بالنصرة- فلما هزم المسلمون يوم أحد، ارتابوا ونكثوا، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، وحالفوا أبا سفيان، فأمر رسول الله ﷺ محمد بن مسلمة أخا كعب من الرضاعة، فقتله غيلة، ثم صبّحهم بالكتائب، وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر والحيرة، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ويوضح ذلك ما قاله المفسرون: نزلت هذه الآية في بني النضير، وذلك أن النّبي ﷺ لما قدم المدينة، صالحه بنو النضير على ألا يقاتلوه ولا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، وقبل رسول الله ﷺ ذلك منهم، فلما غزا رسول الله ﷺ بدرا، وظهر على المشركين، قالت بنو النضير: والله، إنه النّبي الذي وجدنا نعته في التوراة، لا تردّ له راية، فلما غزا أحدا، وهزم المسلمون، نقضوا العهد، وأظهروا العداوة

لرسول الله ﷺ والمؤمنين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة «١». وكان خروج النبي ﷺ إليهم في ربيع الأول السنة الرابعة من الهجرة.
نزول الآية (٥) :
ما قَطَعْتُمْ... :
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ حرّق بني النضير، وقطع وديّ «٢» البويرة، فأنزل الله:
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها الآية.
وأخرج ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: لما نزل رسول الله ﷺ ببني النضير، تحصنوا منه في الحصون، فأمر بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه، فما بال قطع النخل وتحريقها، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن قتادة ومجاهد مثله.
التفسير والبيان:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء ينزّه الله عن كل نقص، ويمجده ويقدسه، ويصلي له، ويوحده، إما تصريحا باللسان، وإما بالقلب، وإما بلسان الحال والمقال، إذعانا لعظمته، وانقيادا وخضوعا لجلاله، وهو المنيع الجناب القوي الغالب القاهر في ملكه، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه، يضع الأشياء في موضعها الصحيح، وإن لم يدرك الإنسان في الحال حكمة الله وتدبيره.
ونظير الآية قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].
(٢) الوديّ بوزن فعيل: صغار الفسيل، والواحدة: ودية.

ومن مظاهر قدرة الله تعالى وحكمته ما قال سبحانه:
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي إنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج يهود بني النضير من ديارهم في المدينة، في الحشر الأول، أي الجمع والإخراج والجلاء، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم من خيبر إلى الشام.
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ما توقعتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم، لعزتهم ومنعتهم، وكانوا أهل حصون مانعة، وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة، وفي هذا بيان عظمة النعمة، وتوقعوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وألا يتعرضوا لسوء.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي جاءهم أمر الله وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال، وهو أنه سبحانه أمر نبيه ﷺ بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون مثل هذا الحدث، بل كانوا يرون أنفسهم أعزّ وأقوى، وألقى الله الخوف الذي يملأ الصدر،
قال ﷺ فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي لما أيقنوا بالجلاء، دمّروا منازلهم من الداخل لكيلا يستفيد منها المسلمون، ودمرها المؤمنون من الخارج، قال الزهري وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي ﷺ على أن لهم ما أقلّت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها.
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا أيها العقلاء بما حدث، واعلموا أن الله يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي ولولا أن قضى الله عليهم بالخروج والجلاء من أوطانهم على هذا النحو المهين، لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة، بعد غزوة الخندق، وكما فعل مع المشركين يوم بدر في السنة الثانية، ومع يهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر، ولهم في القيامة عذاب شديد في جهنم.
أما سبب إجلائهم في التاريخ: فهو أن النّبي ﷺ خرج مع عشرة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر وعلي، إلى بني النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ، وهما من بني عامر حلفائهم، فقد كان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فوعدوا خيرا في الظاهر، وأضمروا الغدر والاغتيال، وكان رسول الله ﷺ قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله على يد عمرو بن جحاش بن كعب اليهودي، بإلقاء صخرة عليه من فوق السطح، مكان جلوسه بجوار الجدار.
فأطلعه الله تعالى بالوحي على مؤامرتهم، فقام ورجع إلى المدينة، وأمر رسول الله ﷺ بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وإجلائهم من المدينة، وعاد إليهم في شهر ربيع الأول سنة أربع للهجرة، فحاصرهم ست ليال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فقبل. ثم خرج بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام.
وفي أثناء الحصار أمر النبي ﷺ بقطع نخلهم وإحراقه، حتى لا يبقى لهم تعلق بأموالهم، ونادوا يا محمد: قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى كما تقدم: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها.. الآية.

وهنا أبان الله تعالى سبب جلائهم قائلا:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي إنما فعل الله بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء، وتسليط المؤمنين عليهم، لأنهم خالفوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين، من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
ومن يعادي الله تعالى ورسوله ﷺ بعدم الطاعة، والميل مع الكفار، ونقض العهد، فإن الله يعاقبه أشد العقاب، ويعذبه في الدنيا والآخرة.
ثم عذر الله تعالى المؤمنين فيما أقدموا عليه مما تقضي به الضرورة الحربية، فقال: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه، أو تركه قائما دون قطع، فهو بأمر الله ومشيئته، وقد أذن بذلك ليعز المؤمنين، وليذل الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم في القطع والترك، فإنهم إذا رأوا المؤمنين يفعلون في أموالهم ما شاؤوا، ازدادوا غيظا وحنقا. واللينة: أنواع التمر سوى العجوة.
والنخيل الذي قطع وأحرق هو البويرة، لأن رسول الله ﷺ لما حاصرهم، أمر بقطع نخيلهم، إهانة لهم، وإرهابا وإرعابا لقلوبهم. وقد تمّ قطع النخل بأمر الله ومشيئته، ولإذلال اليهود الذين كفروا بالله تعالى ورسوله ﷺ وكتبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- إن تسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به هو شأن جميع المخلوقات في السموات والأرض، نباتا وحيوانا وجمادا، وملكا وكوكبا، إما بلسان الحال

أو بلسان المقال، اعترافا بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته.
٢- تعرض اليهود في العصر الإسلامي الأول بأمر الله لحشرين في الدنيا، والحشر: الجمع والإخراج والجلاء، والحشر الأول من المدينة إلى الشام، والحشر الآخر: إجلاء عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى الشام، بكفرهم ونقضهم العهد. ولهم حشر في الآخرة كبقية الناس للحساب والجزاء.
٣- كان إجلاء اليهود من المدينة ومن خيبر أمرا غير متوقع من الناس، لقوتهم ومنعتهم وتحصنهم في حصونهم واجتماع كلمتهم، فأتاهم أمر الله وعذابه من حيث لم يظنوا، وألقى الله الرعب والخوف في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والذي قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر.
وكانوا يخربون بيوتهم لئلا يسكنها المسلمون بعدهم، وأتم المؤمنون تخريبها، لمحو آثارهم وتصفية وجودهم من الجزيرة العربية.
وفي ذلك نصر لرسول الله ﷺ وتشريف له، وإعزاز لمكانة المسلمين، وإذلال لليهود الذين عاثوا الفساد في الأرض.
٤- إن في إجلاء اليهود على هذا النحو عبرة وعظة، يتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول، جاء في الأمثال الصحيحة: «السعيد: من وعظ بغيره».
٥- تمسك علماء أصول الفقه بآية: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ على أن القياس حجة، لأن الله تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.

٦- استدل العلماء بالآية: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ.. إلخ على جواز هدم ديار الكفار الأعداء، وقطع أشجارهم، وإحراق زروعهم في أثناء الحرب، للضرورة الحربية، فلا بأس من الهدم والحرق والتغريق والرمي بالمجانيق، وقطع الأشجار، مثمرة كانت أو غير مثمرة.
ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قطع نخل بني النضير وحرّق.
وهذا هو الرأي الصحيح، ويرى الشافعية أنه إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن ييأسوا فعلوا.
٧- قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. وهذا محل نظر في تقديري.
٨- كان قضاء الله تعالى بجلاء يهود بني النضير من المدينة وخيبر رحمة بهم، ولولا ذلك لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والسّبي، كما فعل ببني قريظة. والجلاء:
مفارقة الوطن، والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما لغة واحدا من وجهين كما ذكر القرطبي:
أحدهما- أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني- أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة.
٩- إن سبب ذلك التخريب والجلاء هو مشاقة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي معاداة الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الله، ثم عمم الله الإنذار، فقال بقصد الزجر: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
١٠- كان خروج النبي ﷺ إلى يهود بني النضير في ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه بالحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودسّ عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه من المنافقين