
سورة الحديد
حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب: أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي، وعدد آياتها تسع وعشرون آية وتشمل هذه السور الحث على التسبيح لله، ثم طلب الإيمان والإنفاق، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات، ثم بيان الدنيا وحقيقتها، وبيان دعائم الحكم، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل الله.
التسبيح لله وحده [سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) صفحة رقم 608

المفردات:
سَبَّحَ لِلَّهِ التسبيح: التنزيه والتقديس لله ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. أَيَّامٍ: جمع يوم وهو الوقت المحدد بطلوع الشمس إلى غروبها.
اسْتَوى: تطلق في اللغة على معان كثيرة: بمعنى استقر. ومنه استوى على الكرسي، وعلى ظهر الدابة، واستوى بمعنى: قصد، وبمعنى: استولى وظهر، ومنه:
«استوى بشر على العراق» والمراد: استولى وتصرف بما يريد. الْعَرْشِ: هو سرير الملك، وعليه قوله تعالى نَكِّرُوا لَها عَرْشَها وقد يطلق على سقف البيت، وعلى هودج المرأة، وعلى الملك والسلطان، وعليه قولهم: ثل عرشه وسقط: إذا ذهب ملكه. يَلِجُ: يدخل. يَعْرُجُ فِيها: يصعد. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ:
يدخل أحدهما في زمن الآخر. بِذاتِ الصُّدُورِ: صاحبات الصدور، والمراد الأسرار العميقة التي لا تفارق الصدر أبدا.
المعنى:
التسبيح: تنزيه الله- تعالى- في القول والاعتقاد والعمل، عما لا يليق به، ووصفه بكل كمال، والسمو به عن كل نقص، والله- جل جلاله- يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض بلسان المقال أو بلسان الحال وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «١» فتسبيح العقلاء تنزيه وتقديس وعبادة. وتسبيح غيرهم دلالة على الصانع وأنه صاحب كل كمال ومنزه عن كل نقص، أو هو الانقياد والخضوع لأمر الله وتصريفه، ولا شك أن الكل بهذا المعنى يسبح له «٢»، سبح لله ما في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يغلب- سبحانه وتعالى- الحكيم في كل ما يفعل- جل شأنه- لله «٣» ملك السموات والأرض، وله التصرف المطلق فيهما وكأن سائلا سأل وقال: ما مظاهر ملكه؟ فأجيب بأنه يحيى من يشاء ويميت من يشاء وهو على كل شيء قدير.
(٢) وقد عبر القرآن عن التسبيح تارة بالمصدر كما في أول سورة الإسراء، وبالماضي كما هنا وفي سورة الحشر والصف، وعبر في سورة الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي سورة الأعلى بالأمر عبر بذلك استيفاء لأنواع الكلمة وليسبح كل إنسان في جميع الأوقات والأحوال الله سبحانه وتعالى.
(٣) هذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها، ولذلك فصل بينهما.

هو الأول فليس قبله شيء، إذ هو السابق على جميع الموجودات لأنه مصدرها، وهو الآخر لأنه الباقي بعد فناء خلقه، وهو الظاهر وجوده لكثرة الدلائل المادية والمعنوية عليه، وهو الباطن فلا تعرف العقول ذاته على حقيقتها، ولا تدركها الأوهام وهو بكل شيء عليم،
روى في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّا الدّين وأغننا من الفقر!»
. هو الذي خلق السموات والأرض «١» في ستة أيام، الله أعلم بمقدارها، وهو القادر على خلقها في لحظة إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٢» لكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور، وليعلمهم أن خلق السموات والأرض أكبر من خلقهم، وليس هو بالهين لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «٣».
ثم استوى على عرشه، واستقام أمره، واستقر على حسب ما يريده مما لا يعلم ذلك إلا هو، وهذا هو رأى السلف، وأما الخلف فيؤولون قائلين: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه بمعنى أنه يدبر الأمر ويفصل الآيات، يعلم ما يلج في الأرض ويدخل فيها من نبات وبذور، وإنسان ومعادن وكنوز، وما يخرج منها من زروع وثمار، ومياه وجثث وغيرها، وهو يعلم ما ينزل من السماء من مطر أو شهب أو ملك أو آيات، وما يعرج فيها ويصعد إليها من عمل أو ملك أو غيره، وهو معكم بعلمه وقدرته أينما كنتم، والله بما تعملون بصير.
له ملك السموات والأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وإلى الله وحده ترجع الأمور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، بمعنى أنه يدخل هذا في زمن ذاك، وبالعكس، ونحن في مصر نرى الليل في الشتاء طويلا بينما يكون النهار في الصيف قصيرا، وفي الصيف يكون العكس، وفي الربيعين يتساوى الليل والنهار، سبحانه من قادر حكيم! وهو العليم بذات الصدور ومكنوناتها التي لا تفارقها يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ «٤» سبحانه وتعالى عما يشركون؟
(٢) - سورة يس آية ٨٢.
(٣) - سورة غافر آية ١٩.
(٤) - سورة غافر آية ٥٧.