آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ

أن يكتسب بذلك العز لنفسه؛ حيث أخبر أنه قوي بنفسه عزيز بذاته، ولكن أمرهم بما أمر، واستعملهم فيما استعمل؛ لنصر أنفسهم ولقوتهم، واللَّه أعلم.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) وإنما ذكر نوحا وإبراهيم - واللَّه أعلم - لما أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب؛ وإلا قد ذكر الرسل بجملتهم في قوله تعالى؛ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ)؛ فدخل نوح وإبراهيم - عليهما السلام - في قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ)، ثم ذكر أن منهم من اهتدى -أي: من قومهم- وكثير منهم فاسقون بقوله: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، يخبر رسوله عليه الصلاة والسلام أنه قد كان في قومهم من اتبعهم؛ فصاروا مهتدين، ومنهم من ترك اتباعهم، وخرجوا من أمر اللَّه؛ فصاروا فاسقين، يصبره، ويسكن قلبه على ما كان في قوم من تقدم من الرسل من المجيبين لرسله والتاركين للإجابة كقومك، أي: لست أنت بأول من كذب ورد قوله؛ تعنتا وعنادا، واللَّه الهادي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧) أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، وبعث منهم رسلا.
ذكر في الآية الأولى أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، ولم يذكر الرسالة، وذكر في هذه الآية الرسالة فيهم وفي ذريتهم، أي: أرسلنا رسولا على أثر رسول، وأتبعنا بعضهم بعضا: من قفا يقفو.
ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم؛ لأن عيسى - عليه السلام - من أولاد إسحاق - عليه السلام - وبعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بعد، وهو من ولد إسماعيل، عليه السلام.
وقال بعض أهل التأويل: وقفينا أي أتبعنا، ويقال: قفيت فلانا، أي: عينته وسميته، وقفوته أقفوه قفوا وقفيا، واقتفيت به، أي: لزمته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)، وصف اللَّه تعالى الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بهم بالرحمة والرأفة فيما بينهم، وهو كما ذكر في آية آخرى: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، وقال في آية أخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، ونحو ذلك؛ وذلك لأن السبب الذي جمعهم واحد، وهو التوحيد والإسلام.

صفحة رقم 538

قيل: كيف وقع بينهم من العداوة والبغضاء ما وقع وسبب الجمع قائم، حتى استحل بعضهم قتال بعض من نحو الخوارج والمعتزلة؟
قيل: إنما وقع ذلك فيما بينهم وإن كان سبب الجمع قائما؛ لما كانت تلك الألفة والرأفة بلطف من اللَّه تعالى، وقد زال ذلك اللطف وارتفع، وحدث بينهم ما حدث.
أو نقول: إن الخوارج قد أحدثوا من أنفسهم أشياء حتى سموا المسلمين كفرة بما ارتكبوا الكبائر، حتى نصبوا القتال والحرب معهم، وكذلك المعتزلة سموا أصحاب الكبائر: فسقة وفجرة ومنزلتهم بين الكفر والإيمان ومن سمى آخر: كافرا أو فاسقا، فلا شك أن يحدث بينهما عداوة وتباغض، فما حدث بيننا وبينهم من العداوة بتسميتهم إيانا فسقة وفجرة وكفرة بارتكاب الكبائر، وإن كان السبب الذي جمعهم قائما عندنا، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ...) الآية، ذكر في القصة أن في الفترة التي كانت بين عيسى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - كان من بني إسرائيل ملوك غيروا التوراة والإنجيل، وبقي منهم أناس مؤمنون بعيسى - عليه السلام - ويعملون بما في الكتب، فهم هَؤُلَاءِ الملوك أن يقتلوهم لإبائهم اتباعهم والعود إلى مذهبهم، فخرجوا من بينهم، فترهبوا؛ رجاء أن يتخلصوا منهم، فذلك (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)، أي: فرضنا عليهم تلك الرهبانية، ولم نأمرهم بها، ولكن فرض عليهم وكتب في الجملة أن يطلبوا رضوان اللَّه فابتدعوا تلك الرهبانية؛ رجاء أن يكون فيها رضوان اللَّه، واللَّه أعلم.
قال: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته، ذمهم، لتركهم الرعاية لما ابتدعوه، ففيه دلالة أن من افتتح أمرًا لم يفرض عليه من صلاة أو صوم أو نحو ذلك، ثم لم يقم بوفائه وإتمامه، لحقه ذم كما لحق هَؤُلَاءِ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أخبر أن الذين آمنوا وثبتوا على الإيمان أنه يؤتيهم أجرهم، أي يوجب لهم أجرهم، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، أي: كافرون.
كذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وكثير منهم كافرون).
وذكر أن بعضا بعدما ترهبوا اشتد عليهم الترهب؛ فعادوا، ورجعوا، ودخلوا في دين

صفحة رقم 539
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية