
(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وخلقنا الحديد لتكون منه السيوف والرماح والدروع والسفن البحرية وما أشبه ذلك، وفيها القوة التي ترغم أنف الظالم، وتحمى المظلوم، وفيه منافع للناس فى حاجاتهم فى معايشهم كأدوات الصناعات، وحاجات البيوت، وقطر السكك الجديدية ونحوها.
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وإنما فعل ذلك ليراكم ناصرى دينه باستعمال السلاح والكراع لمجاهدة أعدائه، وناصرى رسله وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم.
روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته، وهو غالب على أمره، لا يقدر أحد على دفع العقوبة متى أحلها بأحد من خلقه.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
تفسير المفردات
قفاه: اتبعه بعد أن مضى، والإنجيل: الكتاب الذي أنزل على عيسى وفيه شريعته، والمراد من الرأفة: دفع الشر، ومن الرحمة: جلب الخير، وبذا يكون

بينهم مودة، والرهبانية: ترهبهم فى الجبال فارّين بدينهم من الفتنة، مخلصين أنفسهم للعبادة، محتملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد فى الغيران والكهوف، وقوله ابتدعوها: استحدثوها ولم تكن فى دينهم، ابتغاء رضوان الله: أي طلبا لرضاه ومحبته، فما رعوها: أي ما حافظوا عليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله- أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرّف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل فى ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ولقد بعثنا نوحا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده لقوم آخرين، ولم نرسل بعدهما رسلا بشرائع إلا من ذريتهما.
ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين فقال:
(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فمن ذريتهما مهتد إلى الحق مستبصر، وكثير منهم ضلّال خارجون عن طاعة الله ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدسّون أنفسهم باجتراح الآثام.
وفى الآية إيماء إلى أنهم خرجوا عن الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ فى الذم وأشد فى الاستهجان لعملهم.
(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسولا بعد رسول على توالى العصور ولأيام.

ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته فى عصر التنزيل ولوجود أتباعه فى جزيرة العرب وغيرها فقال:
(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي ثم أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملا لما فى التوراة ومخففا بعض أحكامها التي شرعت تغليظا على بنى إسرائيل، لنقضهم العهد والميثاق كما جاء فى قوله: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ».
ثم بين صفات أتباع عيسى فقال:
(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي إن أتباعه الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتى:
(١) الرأفة بين بعضهم وبعض، فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ويصلحون ما فسد من أمورهم.
(٢) الرحمة فيجلب بعضهم الخير لبعض كما قال فى حق أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».
(٣) الرهبانية المبتدعة، فقد انقطعوا عن الناس فى الفلوات والصوامع معتزلين الخلق وحرّموا على أنفسهم النساء ولبسوا الملابس الخشنة، تبتلا إلى الله وإخباتا له.
(ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) أي ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم استحدثوها طلبا لمرضاة الله والزلفى إليه.
ثم ذكر أنهم ما حافظوا عليها كما قال:
(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا

مما التزموه حق القيام، بل ضيّعوها، وكفروا بدين عيسى بن مريم، فضموا إليه التثليث ودخلوا فى دين الملوك الذين غيروا وبدلوا.
وفى هذا ذم لهم من وجهين:
(١) أنهم ابتدعوا فى دين الله ما لم يأمر به.
(٢) أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى ربهم، وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به.
روى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال: «قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا ابن مسعود، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم، فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى بن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهرانى قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهرانى قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى صلوات الله عليه، فلحقوا بالبراري والجبال فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» الآية، فمن آمن بي واتبعنى وصدقنى فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون».
(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا طبعت آثاره فى أعمالهم، فزكّوا أنفسهم، وأخبتوا لربهم، وأدّوا فرائضه- أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا، وكثير منهم فسقوا عن أمر الله، واجترحوا الشرور والآثام، وظهر فسادهم فى البر والبحر بما كسبت أيديهم، فكبكبوا فى النار، وباءوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم