
الفارسي، قال: لأن السؤال لم يقع على الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَنْ فَاعِلِ الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُضَاعَفَةُ هُنَا هِيَ كَوْنُ الْحَسَنَةِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية حتى إذا كان بِعُسْفَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
أَقَرِيشٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، فَقُلْنَا: أَهُمْ خَيْرٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فَصْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الْآيَةَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحُدَيْبِيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا؟ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «دعوا لي أصحابي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ».
وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: «لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»، وَفِي لَفْظٍ: «مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عمره.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
قَوْلُهُ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مُضْمَرٌ وَهُوَ اذْكُرْ، أَوْ «كَرِيمٌ»، أَوْ «فَيُضَاعِفَهُ»، أَوِ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: يَسْعى نُورُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ تَرَى، وَالنُّورُ: هُوَ الضِّيَاءُ الَّذِي يُرَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ دَلِيلُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُضِيءُ لَهُ نُورٌ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى صَنْعَاءَ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمُ الَّتِي

أُعْطُوهَا، فَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَنُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي أَيْمَانِهِمْ، أَوْ بِمَعْنَى عَنْ.
قَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: نُورُهُمْ هُدَاهُمْ، وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَيْ: يَسْعَى إِيمَانُهُمْ وَعَمَلُهُمُ الصَّالِحُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَفِي أَيْمَانِهِمْ كُتُبُ أَعْمَالِهِمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «بأيمانهم» جمع يمين. وقرأ سهل ابن سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ «بِإِيمَانِهِمْ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ نُورِهِمْ، أَيْ: كَائِنًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها «بُشْرَاكُمْ» مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «جَنَّاتٌ» عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: دُخُولِ جَنَّاتٍ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ نَصْبَ جَنَّاتٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ «الْيَوْمَ» خَبَرَ «بُشْرَاكُمْ»، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. «خَالِدِينَ فِيهَا» حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى النُّورِ وَالْبُشْرَى، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيِ:
لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا فَوْزَ غَيْرُهُ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا سِوَاهُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ «يَوْمَ» بَدَلٌ مِنْ «يَوْمَ» الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العامل فيه هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ كَنَظَائِرِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: انْظُرُونا أَمْرًا بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْظَاءِ مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، أَيْ: انْتَظِرُونَا، يَقُولُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ يُسْرَعُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ مِنَ الإنظار، أي: أمهلونا وأخّرونا، يُقَالُ: أَنَظَرْتُهُ وَاسْتَنْظَرْتُهُ، أَيْ: أَمْهَلْتُهُ وَاسْتَمْهَلْتُهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَنْظِرْنِي، أَيِ: انْتَظِرْنِي، وَأَنْشَدَ قول عمرو ابن كُلْثُومٍ:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا | وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا |
الْمَعْنَى: ارْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَالْتَمِسُوا النُّورَ بِمَا الْتَمَسْنَاهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالنُّورِ مَا وَرَاءَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ تَهَكُّمًا بِهِمْ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ السُّورُ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاجِزُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالْبَاءُ فِي بِسُورٍ زَائِدَةٌ: ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ السُّورَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أَيْ: بَاطِنُ ذَلِكَ السُّورِ. وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي يَلِي أَهْلَ الْجَنَّةِ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَظاهِرُهُ وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي يَلِي أَهْلَ النَّارِ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يجعلون فِي الْعَذَابِ وَبَيْنَهُمُ السُّورُ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي فِي بَاطِنِهِ نُورُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَذَابُ الَّذِي فِي ظَاهِرِهِ ظُلْمَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَلِمَا ضُرِبَ بِالسُّورِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ إِذْ ذَاكَ، فَقَالَ: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ صفحة رقم 204

أَيْ: مُوَافِقِينَ لَكُمْ فِي الظَّاهِرِ، نُصَلِّي بِصَلَاتِكُمْ فِي مَسَاجِدِكُمْ، وَنَعْمَلُ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ مِثْلَكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: يُنادُونَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ: قالُوا بَلى أَيْ: كُنْتُمْ مَعَنَا فِي الظَّاهِرِ وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالنِّفَاقِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَتَرَبَّصْتُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَارْتَبْتُمْ أَيْ: شَكَكْتُمْ فِي أمر الدّين، ولم تصدقوا بما نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الْبَاطِلَةُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّرَبُّصِ، وَقِيلَ: هُوَ طُولُ الْأَمَلِ، وَقِيلَ: مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمَانِيُّ هُنَا غُرُورُ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ طَمَعُهُمْ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْأَمَانِيِّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: نَصْرُهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْغَرُورِ» بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى فَعُولٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، أَيْ: خَدَعَكُمْ بِحِلْمِ اللَّهِ وَإِمْهَالِهِ الشَّيْطَانُ. وَقَرَأَ أَبُو حيوة ومحمد ابن السّميقع وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ تَفْدُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَأْواكُمُ النَّارُ أَيْ: مَنْزِلُكُمُ الَّذِي تَأْوُونَ إِلَيْهِ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أَيْ: هِيَ أَوْلَى بِكُمْ، وَالْمَوْلَى فِي الْأَصْلِ من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يُلَازِمُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى مَوْلَاكُمْ: مَكَانُكُمْ عَنْ قُرْبٍ، من الولي وهو القرب. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُرَكِّبُ فِي النَّارِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ، فَهِيَ تَتَمَيَّزُ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: هِيَ نَاصِرُكُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الَّذِي تصيرون إليه هو النَّارِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَالَ: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يُطْفَأُ مَرَّةً وَيُوقَدُ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي ظُلْمَةٍ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ نُورًا، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ النُّورَ تَوَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَكَانَ النُّورُ دَلِيلَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ انْطَلَقُوا إِلَى النُّورِ تَبِعُوهُمْ، فَأَظْلَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا حِينَئِذٍ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ فَالْتَمِسُوا هُنَالِكَ النُّورَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ سَتْرًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي كُلَّ مُؤْمِنٍ نُورًا وَكُلَّ مُنَافِقٍ نُورًا، فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: