
الذي ينفق أمواله فى سبيل الله محتسبا أجره عند ربه، فيضاعف له ذلك القرض، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثوبته بالجنة؟.
وعن ابن مسعود قال «لما نزلت هذه الآية: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ؟» قال أبو الدّحداح الأنصاري يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم يا أبا الدحداح، قال: أرنى يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: إنى أقرضت ربى حائطى (بستانى) وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح، قالت لبيك، قال اخرجى فقد أقرضته ربى عز وجل، قالت له: ريح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها فقال رسول الله: كم من عذق رداح فى الجنة لأبى الدحداح»
وهذا الأسلوب يستعمل فى الأمر العزيز النادر فيقال: من ذا الذي يفعل كذا، إذا كان أمرا عظيما، وعلى هذا جاء قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ».
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)

تفسير المفردات
المراد بالنور هنا: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة من علم وعمل، بشراكم:
أي ما تبشرون به، انظرونا: أي انتظرونا، وأصل الاقتباس طلب القبس: أي الجذوة من النار، والسور: الحاجز، من قبله: أي من جهته، بلى: أي كنتم معنا، فتنتم أنفسكم: أي أهلكتموها بالمعاصي والشهوات، وتربصتم: أي انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان، وارتبتم: أي شككتم فى أمر البعث، والأمانى: الأباطيل من طول الآمال والطمع فى انتكاس الإسلام واحدها أمنية، والغرور (بالفتح) الشيطان، والفدية والفداء: ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك، مأواكم: أي منزلكم الذي تأوون إليه، مولاكم: أي أولى بكم، والمصير: المآل والعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بالإيمان والإنفاق فى سبيل الله، وحث على كل منهما بوجود موجباته فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه وهى وجود الرسول بين أظهرهم، وكتابه الذي يتلى بين أيديهم، وحث على الإنفاق فأبان أن المال مال الله وهو عارية بين أيديهم ثم يردّ إليه، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم فى جنات النعيم، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد حين كثر النصير والمعين- ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة، فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة، وأنهم يبشرون بجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ثم أردفه ذكر حال المنافقين إذ ذاك، وأنهم يطلبون من المؤمنين

شيئا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل، فيتهكم بهم المؤمنون ويخيّبون آمالهم ويقولون لهم: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل العلوم والمعارف، فلا نور إلا منها ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلى المؤمنين فيه الرحمة، ومما يلى المنافقين فيه العذاب، لأنه فى النار، ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه، وهو أنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر، فينطفئ نور الإيمان، وشكّوا فى أمر البعث وغرهم الشيطان فأوقعهم فى مهاوى الردى، ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل فى النجاة لهم إذ ذاك، فلا تجدى الفدية كما كانت تنفع فى الدنيا، فلا مأوى لهم إلا النار وبئس القرار.
الإيضاح
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب فى نجاتهم وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم فى الدنيا كالاعتقاد بالتوحيد وخلع الأنداد والأوثان، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم، وبها أخبتوا لربهم وأنابوا إليه مخلصين له الدين، وبأيمانهم تكون كتبهم كما جاء فى آية أخرى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً».
(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وتقول لهم الملائكة: أبشروا بجنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال، وجاهدتم به أنفسكم فى ترك الشرك والآثام، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام، فطوبى لكم وهنيئا بما عملتم.
ونحو الآية قوله: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ».

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الخلود فى الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله.
وبعد أن ذكر حال المؤمنين فى موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين فقال:
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي فى هذا اليوم يقول المنافقون والمنافقات: أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته، انتظروا نلحق بكم ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه، فيجابون بما يخيّب آمالهم ويلحق بهم الحسرة والندامة كما قال:
(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي ارجعوا من حيث أتيتم، واطلبوا لأنفسكم هناك نورا، فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا وادّخرنا لها من عمل صالح، فأيهات أيهات أن تنالوا نورا، إذ لا ينفع المرء حينئذ إلا عمله، ولله در القائل:
صاح هل ريت أو سمعت براع | ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب |
ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة فقال:
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلى مكان المؤمنين وهو الجنة فيه الرحمة، وجانبه الذي يلى المنافقين وهو النار فيه العذاب.
ثم أرشد إلى ما يكون من المنافقين حينئذ فقال:
(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ينادى المنافقون المؤمنين: صفحة رقم 170