آيات من القرآن الكريم

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ

العرش الذي استوى عليه استواء يليق به، العالم بما يدخل في الأرض من مطر وغيره، وما يخرج منها من نبات وغيره، وما ينزل من السماء من رزق ومطر وملائكة، وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد، وهو مع خلقه بقدرته وسلطانه وعلمه، لا بذاته، أينما كانوا، ويبصر أعمالهم ويراها، ولا يخفى عليه شيء منها.
٥- ومن موجبات التسبيح أنه سبحانه المالك للدنيا والآخرة، وترجع إليه أمور الخلائق في الآخرة. وهو يقلب الليل والنهار طولا وقصرا، ويأتي بالفصول الأربعة، ولا تخفى عليه الضمائر، فهو إذن المعبود على الحقيقة، فلا يجوز أن يعبد من سواه.
والخلاصة: أن هذه الآيات جامعة بين الدلالة على قدرة الله، وبين إظهار نعمه، والمقصود من إعادة بعض معانيها في رأي القائلين بالتكرار الحث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر على تلك النعم.
بعض التكاليف الدينية الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ وعلى الإنفاق
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١٢]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)

صفحة رقم 295

الإعراب:
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لا تُؤْمِنُونَ في قراءة: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من معنى الفعل في ما لَكُمْ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال، والواو: واو الحال، وتقديره: ما لكم غير مؤمنين بالله تعالى، والرسول ﷺ في هذه الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ.. والمعنى:
وأي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى كُلًّا: منصوب ب وَعَدَ والْحُسْنى: منصوب مفعول ثان ل وَعَدَ وقرئ: وكل على أنه مبتدأ، ووَعَدَ: خبره، وقدر في وَعَدَ هاء، أي وعده الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أي أولئك كل وعد الله، ووَعَدَ:
صفة ل كُلًّا.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ.. يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ويَسْعى نُورُهُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، لأن تَرَى بصرية لا قلبية.
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تقديره: دخول جنات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن البشارة إنما تكون بالأحداث، لا بالجثث.
البلاغة:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ فيه حذف بالإيجاز، تقديره: ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لدلالة الكلام عليه بعدئذ، ولوضوحه.

صفحة رقم 296

لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، حيث استعار الظُّلُماتِ للكفر والضلالة، والنُّورِ للإيمان والهداية.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً استعارة تمثيلية، مثل حال المنفق بإخلاص بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء.
المفردات اللغوية:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صدقوا بوحدانية الله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وداوموا على الإيمان بهما.
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أنفقوا في سبيل الله من الأموال التي جعلكم خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة له، لا لكم، وسيخلفكم بدلا عنها، وفيه حث على الإنفاق وتهوين له على النفس. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ هذا وعد فيه عدة مبالغات هي جعل الجملة اسمية، وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق، وبناء الحكم على الضمير، وتنكير كلمة الأجر، ووصفه بالكبر.
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ خطاب للكفار، أي لا مانع لكم من الإيمان. وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أخذه الله عليكم في عالم الذر حين أشهدكم على أنفسكم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وكذلك بعد وجودكم، إذ أقام الأدلة على وجوده وتوحيده في الأنفس والآفاق، ومكنكم من النظر بالعقل والتفكير. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم مريدين الإيمان به، فبادروا إليه.
آياتٍ بَيِّناتٍ هي آيات القرآن. لِيُخْرِجَكُمْ الله تعالى، أو عبده محمد صلى الله عليه وسلم. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبّهكم بالرسل والآيات، ولم يقتصر على الحج العقلية.
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي وما لكم بعد إيمانكم ألا تنفقوا في سبيل الجهاد وفيما يكون قربة إليه. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان الأمر كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى، وهو الثواب، كان أولى.
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا تساوي بين المنفق قبل فتح مكة وقاتل الأعداء، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوجود السبق في الإيمان، وقوة اليقين، وتحرّي المصالح العامة للمسلمين. وذكر القتال للاستطراد. والمراد بالفتح فتح مكة الذي أعز الله به الإسلام، وكثر أهله، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق والمقاتلة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وكلّا من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بأعمالكم الظاهرة والباطنة، فمجازيكم على حسبها.

صفحة رقم 297

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ... ؟ أي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه. قَرْضاً حَسَناً خالصا لله. فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعطي أجره أضعافا. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ مقترن بالرضا والقبول. يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمامهم. وَبِأَيْمانِهِمْ كتبهم، لأنهم يؤتون صحائف أعمالهم من الأمام واليمين. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي تتلقاهم الملائكة تبشرهم بدخول الجنات، وبشراكم أي ما تبشرون به.
سبب النزول:
نزول الآية (٧) :
آمِنُوا بِاللَّهِ: نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك.
نزول الآية (١٠) :
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ..: ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وذكر أيضا
عن ابن عمر قال: بينا النبي ﷺ جالس، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال، إذ نزل عليه جبريل عليه السلام، فأقرأه من الله السلام، وقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال؟ فقال: يا جبريل، أنفق ماله قبل الفتح عليّ، قال: فأقرئه من الله سبحانه وتعالى السلام، وقل له: يقول لك ربك:
أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي ﷺ إلى أبي بكر فقال:
يا أبا بكر، هذا جبريل يقرئك من الله سبحانه السلام، ويقول لك ربك:
أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر، وقال: على ربي أغضب، أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض «١».

(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٣٠ وما بعدها، تفسير القرطبي: ١٧/ ٢٤٠

صفحة رقم 298

المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أدلة إثبات وحدانيته وعلمه وقدرته، بمشاهد في السموات والأرض والأنفس، أتبعها ببعض التكاليف الدينية، فأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ وباستدامته والإخلاص فيه، ثم طلب من المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، وأخبر بمضاعفة الأجر عليه، وأبان أن آياته تخرج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وفضّل السابقين الأولين إلى الإسلام الذين أسلموا وأنفقوا قبل فتح مكة، ثم أكد الحث على الإنفاق مرة أخرى.
التفسير والبيان:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي صدّقوا بالتوحيد وبصحة رسالة محمد ﷺ على الوجه الأكمل، وداوموا واثبتوا على ذلك، وأنفقوا من مال الله الذي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه.
ثم رغب في الإيمان والإنفاق في الطاعة، مبينا أن الذين جمعوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين الإنفاق في سبيل الله، لهم ثواب كثير الخير والنفع وهو الجنة.
أخرج أحمد عن عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقول: «ألهاكم التّكاثر، يقول ابن آدم، مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت» ورواه مسلم أيضا وزاد: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
ثم وبخهم الله تعالى على ترك الإيمان، فقال:

صفحة رقم 299

وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ أي، وأيّ شيء يمنعكم عن الإيمان، والرسول معكم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، بتلاوة القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة، وقد أخذ الله ميثاقكم بأن تؤمنوا في عالم الذر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، وبما أقام لكم في الكون والآفاق والأنفس من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان، وكذا ما ترشد إليه العقول السليمة، إن كنتم مريدين الإيمان، فبادروا إليه. فهذا توبيخ على ترك الإيمان بشرطين: أحدهما- أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني- أنه أخذ الميثاق عليهم.
أخرج البخاري في صحيحة أن رسول الله ﷺ قال يوما لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم أيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون، وهم عند ربهم؟ قالوا: فالأنبياء، قال: وما لهم لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم، قالوا: فنحن، قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها».
ثم أوضح الله تعالى الغاية من إنزال القرآن لقطع عذرهم، فقال:
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله أراد بإنزال الآيات البينات الواضحات التي هي القرآن وغيره من المعجزات أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة، إلى نور الهدى واليقين والإيمان، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث أنزل الكتب، وبعث الرسل، لهدايتهم، وأزال الموانع والشّبه، وأزاح العلل.
وبعد أن أمرهم بالإيمان والإنفاق، وحثهم عليهما، ووبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، فقال:

صفحة رقم 300

وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي، أيّ عذر لكم وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد من أجله، فأنفقوا ولا تخشوا فقرا، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض، وهو متصرف فيهما وعنده خزائنهما، وكل الأموال صائرة إلى الله سبحانه، إن لم تنفقوها في حياتكم، كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لكم منه شيء، فالمال مال الله، والله يقول: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٩] ويقول: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ، وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل ١٦/ ٩٦]. وهكذا أمر الله أولا بالإيمان والإنفاق، ثم أكد إيجاب الإيمان، ثم أكد في هذه الآية إيجاب الإنفاق.
وبعد أن بيّن الله تعالى أن الإنفاق فضيلة، بيّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة، وأن للمنفقين درجات بحسب أحوالهم، فقال:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أي لا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف، ولا يجدون من المال إلا قليلا، أما بعد الفتح فقد كثر المسلمون، وزاد الخير.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة، مع تفاوت الدرجات، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة، فيجازيكم بذلك، إذ لا يخفى عليه شيء مما أنتم عليه.
أخرج الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام

صفحة رقم 301

سبقتمونا بها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوا لي أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد، أو مثل الجبال ذهبا، ما بلغتم أعمالهم» «١».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم، ولا نصيفه».
ثم بيّن الله تعالى ثمرة الإنفاق، فقال:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله، محتسبا أجره عند ربه، فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا، أي بلا منّ ولا أذى، طيبة به نفسه، فإن الله يضاعف له ذلك القرض، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع وجزاء كريم جميل، وهو الجنة.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي- بستاني- وله حائط فيه ست مائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال:
اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل.
وفي رواية: أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها

(١) ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة.

صفحة رقم 302

وصبيانها، وإن رسول الله ﷺ قال: «كم من عذق «١» رداح في الجنة لأبي الدّحداح».
ثم أخبر الله تعالى عن حال المؤمنين المتصدقين يوم القيامة، فقال:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي وله أجر كريم، أو اذكر تعظيما لذلك اليوم «٢» حين تنظر المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم، وتكون كتبهم بأيمانهم، أي تكون أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم، وهدايتهم إلى الجنة، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق ٨٤/ ٨- ٩]. وإنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن ذلك أمارة النجاة.
والناس كما قال ابن مسعود في هذه الآية على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه، يتّقد مرة، ويطفأ مرة «٣».
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء، فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه».
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ويقال لهم من قبل الملائكة: لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، تكريما وجزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال،

(١) العذق: النخلة بحملها، والرداح: المثمر.
(٢) يوم: ظرف لقوله: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أو منصوب ب «اذكر»، تعظيما لذلك اليوم.
(٣) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. [.....]

صفحة رقم 303

ذلك النور والبشرى هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه. ونظير الآية: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد ١٣/ ٢٤].
والخلاصة: أن الإيمان والإنفاق سبب لثلاثة أمور: النجاة يوم الحساب، وتبشير الملائكة بالجنة، والخلود في جنات النعيم. وقد دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال القيامة، لأنه تعالى بيّن أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- وجوب الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي التصديق بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي الاشتغال بطاعة الله تعالى.
٢- وجوب الإنفاق في سبيل الله، والمراد بذلك الزكاة المفروضة، وقيل:
المراد غيرها من وجوه الطاعات والقربات. وهذا يعني الأمر بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله تعالى.
٣- دل قوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ على أن أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له في ماله إلا التصرف الذي يرضي الله، فيثيبه على ذلك بالجنة.
فمن أنفق من ماله في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منه، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم.
وهذا دليل على أن الأموال ليست بأموال الناس في الحقيقة، وما هم إلا

صفحة رقم 304

بمنزلة النواب والوكلاء، فليغتنم المؤمن الفرصة في الأموال بإقامة الحق قبل أن تزال عنه إلى من بعده.
٤- للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، والذين أنفقوا في سبيل الّه أجر كبير وهو الجنة.
٥- وبّخ الله على ترك الإيمان بالله تعالى، فأي عذر للناس في ألا يؤمنوا وقد أزيلت الموانع وأزيحت العلل؟ مع أن الرسول ﷺ يدعو بالبرهان الصحيح والدليل المقنع إلى الإيمان بالله، والله سبحانه أخذ الميثاق الأول على الناس حينما كانوا في ظهر آدم بأن الله ربهم، لا إله لهم سواه، ومن ميثاقهم أيضا ما أودع الله لهم من العقول والأفكار، وأقام الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كنتم أيها الناس مؤمنين بالحج والدلائل، فبادروا إلى الإيمان.
٦- أيّد الله نبيه بما يدل على صدقه وبما يؤدي إلى إنجاح دعوته بالقرآن والمعجزات، فيلزم الناس بعدئذ الإيمان، لأن آيات القرآن البينات تخرج من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإيمان، وإن الله بالناس لرؤوف رحيم إذ أنزل لهم الكتب وبعث الرسل وأزال الموانع والعلل التي تمنع من الإيمان.
٧- وبخ الله تعالى أيضا على عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، وفيما يقرب من الله سبحانه، فالناس جميعا يموتون، ويخلفون أموالهم، وهي صائرة إلى الله تعالى، كرجوع الميراث إلى المستحق له.
وهكذا أمرت الآيات بالإيمان وبالإنفاق، ثم أكدت وجوب الإيمان وإيجاب الإنفاق، فهو ترتيب حسن بارع، انتقل فيه البيان من الأمر المفيد للوجوب إلى ذكر الرادع أو المؤيد، والتهديد على التقصير أو الإهمال.

صفحة رقم 305

٨- يكون ثواب الإنفاق أعظم إذا كانت الحاجة إليه أشد بسبب الأزمات والظروف الضيقة، لذا نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل الأعداء، وبين من أنفق من بعد الفتح وقاتل، كما قال تعالى:
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر ٥٩/ ٢٠] لأن المال كان أقل، والحاجة إلى النفقة أشد، والمسلمين قلة، أما بعد الفتح فكثر الخير، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق، وكثر المسلمون.
روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدّم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ. وقال الكلبي كما تقدم: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيهما دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. قال ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي ﷺ وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم.
والتقدم والتأخر يكون في أحكام الدنيا والدين، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل الناس منازلهم، وأعظم المنازل مرتبة الصلاة.
وقال ﷺ في مرضه فيما رواه الشيخان والترمذي وأ بن ماجه عن عائشة: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس»
وقال فيما رواه أحمد عن أنس: «يؤمّ القوم أقرؤهم للقرآن»
وقال فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث: «وليؤمّكما أكبركما»
وقال مالك: إن للسن حقا، وراعاه الشافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيّرين قدّم العلم. وأما أحكام الدنيا فهي مرتّبة على أحكام الدّين، فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا.
وفي الحديث الثابت الذي رواه الترمذي عن أنس: «ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه».
وروى الترمذي أيضا عن أنس: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا»
وفي رواية لأحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمرو: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا»

صفحة رقم 306
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية