
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٩٦]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)تَفْرِيعٌ عَلَى تَحْقِيقِ أَنَّ مَا ذُكِرَ هُوَ الْيَقِينُ حَقًّا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَظِيمِ صِفَاتِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَيُبَشِّرُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ بِمَرَاتِبَ مِنَ الشَّرَفِ وَالسَّلَامَةِ عَلَى مَقَادِيرِ دَرَجَاتِهِمْ وَبِنِعْمَةِ النَّجَاةِ مِمَّا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُؤْمَرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَسْبِيحًا اسْتَحَقَّهُ لِعَظَمَتِهِ، وَالتَّسْبِيحُ ثَنَاءٌ، فَهُوَ يَتَضَمَّنُ حَمْدًا لِنِعْمَتِهِ وَمَا هَدَى إِلَيْهِ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. صفحة رقم 351

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٥٧- سُورَةُ الْحَدِيدِهَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ «سُورَةَ الْحَدِيدِ»، فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَزَّارِ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَإِذَا صَحِيفَةٌ فِيهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْحَدِيدِ [٧] فَقُرَأَهُ حَتَّى بَلَغَ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَأَسْلَمَ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ، لِوُقُوعِ لَفْظِ «الْحَدِيدِ» فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الْحَدِيد: ٢٥].
وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩٦] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْحَدِيدِ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَلَمْ تُسَمَّ بِهِ لِأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ الْكَهْفِ لِلِاعْتِنَاءِ بِقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَلِأَنَّ الْحَدِيدَ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا مُرَادٌ بِهِ حَدِيدُ السِّلَاحِ مِنْ سُيُوفٍ وَدُرُوعٍ وَخُوَذٍ، تنويها بِهِ إِذْ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِ مَادَّتِهِ وَإِلْهَامِ النَّاسِ صَنَعَهُ لِتَحْصُلَ بِهِ مَنَافِعُ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ وَدِفَاعِ الْمُعْتَدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الْحَدِيد: ٢٥].
وَفِي كَوْنِ هَذِهِ السُّورَةِ مَدَنِيَّةً أَوْ مَكِّيَّةً اخْتِلَافٌ قَوِيٌّ لَمْ يُخْتَلَفْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَدَنِيَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَاشِ: أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ صَدْرَهَا مَكِّيٌّ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الْحَدِيد: ١٦] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً.
وَهَذَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنِ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيُصَارُ إِلَى صفحة رقم 353

الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ
أَوِ التَّرْجِيحِ، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ سَنَدًا، وَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُرَجَّحُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَأَّنَهُ أَقْدَمَ إِسْلَامًا وَأَعْلَمَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ مَقْرُوءًا قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «يُشْبِهُ صَدْرُهَا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا قُرْآنًا مَدَنِيًّا» اه.
وَرُوِيَ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ يَوْمَ ثُلَاثَاءَ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ صَدْرَهَا مَكِّيٌّ كَمَا تَوَسَّمَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَهِي إِلَى قَوْلِهِ:
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [الْحَدِيد: ٩] وَأَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقْتَضِيهُ مَعَانِيهِ مِثْلَ حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَبَعْضُهُ نَزَلَ بِمَكَّةَ مِثْلُ آيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الْحَدِيد: ١٦] الْآيَةَ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ السُّورَةِ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الْحَدِيد: ٢٥] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أُلْحِقَ بِهَذِهِ السُّورَةِ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَالِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا.
قُلْتُ: وَفِيهَا آيَةُ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [الْحَدِيد: ١٠] الْآيَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَتْحُ مَكَّةَ أَوْ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْفَتْحِ وَبِهِ سُمِّيَتْ «سُورَةُ الْفَتْحِ»، فَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مَدَنِيَّةً فَلَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ مَدَنِيٌّ.
وَرُوِيَ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْخَامِسَةَ وَالتِسْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ جَرْيًا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَقَالُوا: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الزِّلْزَالِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْقِتَالِ، وَإِذَا رُوعِيَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ صَحِيفَةً لِأُخْتِهِ فَاطِمَةَ فِيهَا صَدْرُ سُورَةِ الْحَدِيدِ لَمْ يَسْتَقِمْ هَذَا الْعَدُّ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بمَكَان نزُول صدر السُّورَةِ لَا نُزُولِ آخِرِهَا فَيُشْكِلُ مَوْضِعُهَا فِي عَدِّ نُزُولِ السُّورَةِ.

وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَكُونُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا آخِرَ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ فَتَكُونُ مِنْ أَقْدَمِ السُّوَرِ نُزُولًا فَتَكُونُ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْحِجْرِ وَطه وَبَعْدَ غَافِرٍ، فَالْوَجْهُ أَنَّ مُعْظَمَ آيَاتِهَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الزِّلْزَالِ.
وَعُدَّتْ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ ثَمَانًا وَعِشْرِينَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَعَ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّسْبِيحِ مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَيَقُولُ:
إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ
. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَظَنَّ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْحَدِيد: ٣] لِمَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا.
أغراضها
الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ السُّورَةُ:
التَّذْكِيرُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَسِعَةِ قُدْرَتِهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَعُمُومِ تَصَرُّفِهِ، وَوُجُوبِ وُجُودِهِ، وَسِعَةِ عِلْمِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِيِمَانِ بِوُجُودِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
وَالتَّنْبِيهُ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهَدْيِ وَسَبِيلِ النَّجَاةِ، وَالتَّذْكِيرُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ.
وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ لَا يَبْقَى مِنْهُ لِصَاحِبِهِ إِلَّا ثَوَابُ مَا أَنْفَقَ مِنْهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ.
وَالتَّخَلُّصُ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خَيْرٍ وَضِدُّ ذَلِكَ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ.