
وعن مجاهد: (المقوين) المستمتعين، المسافر والحاضر.
وعن ابن زيد: هم الجائعون. تقول العرب: أقويت منه كذا وكذا، أي: ما أكلت منه. وأقوت الدار: خلت من ساكنيها وانتفاعهم بها، لأنهم يطبخون بها.
ولشدة احتياجهم لها، خصوا بالذكر مع انتفاع غيرهم بها.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي سبح اسمه. قال الزمخشري: بأن تقول: سبحان الله. إما تنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته، ويكفرون نعمته.
وإما تعجبا من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة. وإما شكرا لله على النعم التي عدها ونبه عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٧٩]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي منازل الكواكب ومراكزها البهيجة في السماء.
أو بمساقطها ومغاربها، وهي أوقات غيبتها عن الحواس. أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة. و (لا) في (لا أقسم) إما مزيدة للتأكيد، وتقوية الكلام، وقد عهدت زيادتها في كلامهم، كما أوضحه في (فقه اللغة) وإما (لا أقسم) بتمامها صيغة من صيغ القسم، على ما ارتضاه بعض المحققين. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أي له كرم وشرف وقدر رفيع لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي محفوظ مصون، لا يتغير ولا يتبدل. أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه، كغيره من الكتب، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله، كما قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ اعلم أن في الآية أقوالا عديدة، مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقّى، أو المصحف، وأن (المطهرون) هم الملائكة، أو المتقون، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث. وذلك لاتساع ألفاظها الكريمة، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، وهاك ملخص ذلك ولبابه:
فأما أكثر المفسرين، فعلى أنه عني بالآية الملائكة. فنفي مسّه كناية عن لازمه، وهو نفي الاطلاع عليه، وعلى ما فيه. والمراد ب (المطهرين) حينئذ إما جنس الملائكة، أو من نزل به وهو روح القدس. وطهارتهم نقاء ذواتهم عن كدورات

الأجسام، ودنس الهيولى، أو عن المخالفة والعصيان.
وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ كما قال: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: ٢١٠- ٢١٢].
انتهى. قال ابن كثير: وهذا القول قول جيد.
وقال الفرّاء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. ومثله قول محمد بن الفضل:
لا يقرؤه إلا الموحدون.
فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله، والاهتداء به، والعناية به، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس، وأثر الإقبال عليه، ورائد الانصياع له، والطهارة حينئذ هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق، والملكات الرديئة، والغرائز الفاسدة.
وقال آخرون: عني ب (المطهرين) المتطهرون من الجنابة والحدث. قالوا:
ولفظ الآية خبر، ومعناها النهي، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه، ولازم من لوازمه، لشرفه وعظم شأنه.
قالوا: والمراد ب (الكتاب) المصحف، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم، أن لا يمس القرآن إلا طاهر. وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس ولا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إلا أن فيهما مقالا بيّنه الحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير) وأشار له ابن كثير أيضا. ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية. وقد أوضح ذلك الشوكاني في (نيل الأوطار) وعبارته:
(الطاهر) يطلق بالاشتراك على المؤمن- والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر- ومن ليس على بدنه نجاسة. ويدل لإطلاقه على الأول قوله الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]،
وقوله ﷺ لأبي هريرة «١» : المؤمن لا ينجس.
وعلى الثاني وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: ٦]، وعلى الثالث:
قوله «٢» صلى الله عليه وسلم
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٤٩- باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، حديث رقم ١٤٥، عن المغيرة.

في المسح على الخفين: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين.
وعلى الرابع: الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا. وقد ورد إطلاق ذلك في كثير. فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه، حمله عليها هنا.
والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب. والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها، فلا يعمل به حتى يبين. وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف. وخالف في ذلك داود. استدل المانعون للجنب بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن. والظاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لأنه الأقرب. والْمُطَهَّرُونَ الملائكة.
ولو سلم عدم الظهور، فلا أقل من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية. ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين، لكانت دلالته على المطلوب، وهو منع الجنب من مسه، غير مسلمة. لأن المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائما، لحديث: المؤمن لا ينجس. وهو متفق عليه.
فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل تعين حمله على من ليس بمشرك، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ لهذا الحديث، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ. ولو سلم صدق اسم (الطاهر) على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر. فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه، فلا يعين حتى يبين. وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره
لحديث (المؤمن لا ينجس)
. ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال في جميع معانيه، لما صح، لوجود المانع، وهو
حديث: المؤمن لا ينجس.
واستدلوا أيضا بحديث عمرو بن حزم المتقدم، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج. لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج، لعاد البحث السابق في لفظ (طاهر) وقد عرفته.
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر، لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة. صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه. فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما، فلا يتناوله الحديث، سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا، أو على بدنه نجاسة.

فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل (الطاهر) على من ليس بمشرك، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من
حديث ابن عباس «١»
أنه ﷺ كتب إلى هرقل عظيم الروم: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.
ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ إلى قوله: مُسْلِمُونَ [آل عمران: ٦٤]، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم؟
قلت: أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار، لمصلحة، كدعائه إلى الإسلام. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه، ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث. إذا تقرر لك هذا، عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك.
وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثا أصغر، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن عليّ والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز.
واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه. انتهى كلام الشوكاني.
تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون:
قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) في مباحث أمثال القرآن الكريم، ما مثاله: الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني، أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصّر بها، ويعطي اللفظ حقه، والمعنى وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم. ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني، والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج. ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر، ومقاصد المتكلم. والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه. يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير