آيات من القرآن الكريم

وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً
ﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩ

وَيُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ الْعَظِيمِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْذِبَ لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَحَدًا لَوْ كَذَّبَ وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا قِيَامَةَ وَلَا وَاقِعَةَ لَكَانَ كَاذِبًا عَظِيمًا وَلَا كَاذِبَ لَهِذِهِ الْعَظَمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى هَوْلِ الْيَوْمِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَعُودُ مَا ذَكَرْنَا إِلَى أَنَّهُ لَا كَاذِبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ تَقْدِيرُهُ هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ الْجُمْلِيِّ وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى أَحَدُهَا: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ صِفَتَانِ لِلنَّفْسِ الْكَاذِبَةِ أَيْ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا مَنْ يُكَذِّبُ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ فَتُخْفِضُ أَمْرًا وَتَرْفَعُ آخَرَ فَهِيَ خَافِضَةٌ أَوْ يَكُونُ هُوَ زِيَادَةً لِبَيَانِ صِدْقِ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَدَمِ إِمْكَانِ كَذِبِهِمْ وَالْكَاذِبُ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ يَقُولُ مَا عَرَفْتُ مِمَّا كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا يَقُولُ مَا عَرَفْتُ حَرْفًا وَاحِدًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يَكْذِبُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ في صفة من صِفَاتِهِ وَالصِّفَةُ قَدْ يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا الْتِفَاتًا مُعْتَبَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا أَصْلًا مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا جَاءَ زَيْدٌ وَيَكُونُ قَدْ جَاءَ وَمِثَالُ الثَّانِي: مَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَمِثَالُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَكُونُ قَدْ جَاءَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا جَاءَ أَوَّلَ بُكْرَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعُ دُونَ الْكُلِّ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا أَعْرِفُ كَلِمَةً كَاذِبَةً نَفَى عَنْهُ الْكَذِبَ فِي الْإِخْبَارِ وَفِي صِفَتِهِ وَالَّذِي يَقُولُ: مَا عَرَفْتُ حَرْفًا وَاحِدًا نَفَى أَمْرًا وَرَاءَهُ، وَالَّذِي يَقُولُ: مَا عَرَفْتُ أَعْرَافَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فَوْقَ ذلك فقوله: يْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ
أَيْ مَنْ يُغَيِّرُ تغييرا ولو كان يسيرا. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤ الى ٦]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)
أَيْ كَانَتِ الْأَرْضُ كَثِيبًا مُرْتَفِعًا وَالْجِبَالُ مَهِيلًا مُنْبَسِطًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْجِبَالِ: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: ٥] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ وَهِيَ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ قَوْلًا مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا مُعْتَبَرًا لَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِيهِ: لَيْسَ بِضَرْبٍ مُحْتَقِرًا لَهُ كَمَا يُقَالُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْعَامِلُ فِي: إِذا رُجَّتِ/ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِذَا رُجَّتِ بَدَلًا عَنْ إِذَا وَقَعَتْ فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ثَانِيهَا: أن يكون العامل في:
إِذا وَقَعَتِ [الواقعة: ١] هو قوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها [الواقعة: ٢] وَالْعَامِلُ فِي: إِذا رُجَّتِ هُوَ قَوْلُهُ:
خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الواقعة: ٣] تَقْدِيرُهُ تُخْفَضُ الْوَاقِعَةُ وَتُرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ وَبَسِّ الْجِبَالِ وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَا لَمْ تَتَحَرَّكْ وَالْجِبَالَ مَا لَمْ تَنْبَسَّ لَا تَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَالْبَسُّ التَّقْلِيبُ، وَالْهَبَاءُ هُوَ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ بِأَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ تَظْهَرُ فِي خَيَالِ الشَّمْسِ إِذَا وَقَعَ شُعَاعُهَا فِي كُوَّةٍ، وَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي مُنَاسَبَةً إِنَّ الْهَوَاءَ إِذَا خَالَطَهُ أَجْزَاءٌ ثَقِيلَةٌ أَرْضِيَّةٌ ثَقُلَ مِنْ لَفْظِهِ حَرْفٌ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الْخَفِيفَةُ بِالْبَاءِ الَّتِي لَا يُنْطَقُ بِهَا إِلَّا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)

صفحة رقم 386

أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْتُمْ أَزْوَاجٌ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ وَفَسَّرَهَا بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَبَيَانُ مَا وَرَدَ عَلَى التَّقْسِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: (أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) إِلَخْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ كُلِّ قَوْمٍ، فَقَالَ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فَتَرَكَ التَّقْسِيمَ أَوَّلًا وَاكْتَفَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مَعَ أَحْوَالِهَا، وَسَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً يُغْنِي عَنْ تَعْدِيدِ الْأَقْسَامِ، ثُمَّ أَعَادَ كُلَّ وَاحِدَةٍ لِبَيَانِ حَالِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَتَسْمِيَتُهُمْ بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَإِمَّا لِكَوْنِ أَيْمَانِهِمْ تَسْتَنِيرُ بِنُورٍ مِنَ اللَّه تعالى، كما قال تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: ١٢] وَإِمَّا لِكَوْنِ الْيَمِينِ يُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِالسَّانِحِ، وَ [هُوَ] الَّذِي يَقْصِدُ جَانِبَ الْيَمِينِ مِنَ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ عِنْدَ الزَّجْرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، حَتَّى أَنَّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ دَلَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَدَلَائِلُ الِاخْتِيَارِ إِثْبَاتُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، أَوْ إِثْبَاتُ مُتَشَابِهَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ حَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَشَدِّ الْأَشْيَاءِ مُشَابَهَةً فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مُتَشَابِهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْإِنْسَانِ قُوَّةً لَيْسَتْ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا لَهُ مُرَجِّحًا غَيْرَ قُدْرَةِ اللَّه وَإِرَادَتِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي كِيَاسَةً وَذَكَاءً يَقُولُ: إِنَّ الْكَبِدَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَبِهَا قُوَّةُ التَّغْذِيَةِ، وَالطِّحَالَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ قُوَّةٌ ظَاهِرَةُ/ النَّفْعِ فَصَارَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ قَوِيًّا لِمَكَانِ الْكَبِدِ عَلَى الْيَمِينِ؟ فَنَقُولُ: هَذَا دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَالشِّمَالِ، وَتَخْصِيصُ اللَّه اليمين يجعله مَكَانَ الْكَبِدِ دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمِينُهُ أَقْوَى مِنْ شِمَالِهِ، فَضَّلُوا الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ، وَجَعَلُوا الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ لِلْأَكَابِرِ، وَقِيلَ: لِمَنْ لَهُ مَكَانَةٌ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَوَضَعُوا لَهُ لَفْظًا عَلَى وَزْنِ الْعَزِيزِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَمَا لَا يَتَغَيَّرُ كَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَقِيلَ لَهُ، الْيَمِينُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، وَوَضَعُوا مُقَابَلَتَهُ الْيَسَارَ عَلَى الْوَزْنِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ الِاسْمُ الْمَذْمُومِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِذَلِكَ الْوَزْنِ، وَهُوَ الْفَعَالِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّتْمِ وَالنِّدَاءِ بِالِاسْمِ الْمَذْمُومِ يؤتى بهذا الْوَزْنُ مَعَ الْبِنَاءِ عَلَى الْكَسْرِ، فَيُقَالُ: يَا فَجَارِ يَا فَسَاقِ يَا خَبَاثِ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ الْيَسَارُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ فِي الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْمَيْمَنَةُ فَهِيَ مَفْعَلَةٌ كَأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْيَمِينُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ بِيَمِينِ الْإِنْسَانِ فِي جَانِبٍ مِنَ الْمَكَانِ، فَذَلِكَ مَوْضِعُ الْيَمِينِ فَهُوَ مَيْمَنَةٌ كَقَوْلِنَا: مَلْعَبَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَعْلُ اللَّه تعالى الْخَلْقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ دَلِيلُ غَلَبَةِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَانِبَ الْإِنْسَانِ أَرْبَعَةٌ، يَمِينُهُ وَشِمَالُهُ، وَخَلْفُهُ وَقُدَّامُهُ، وَالْيَمِينُ فِي مُقَابَلَةِ الشِّمَالِ وَالْخَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقُدَّامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى النَّاجِينَ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَانِبِ الْأَشْرَفِ الْمُكْرَمُونَ، وَبِأَصْحَابِ الشِّمَالِ إِلَى الَّذِينَ حَالُهُمْ عَلَى خِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهْمُ بِشَمَائِلِهِمْ مُهَانُونَ وَذِكْرُ السَّابِقِينَ الَّذِينَ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَيَسْبِقُونَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ بِيَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ، أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه يَتَكَلَّمُونَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَيَشْفَعُونَ لِلْغَيْرِ ويقضون

صفحة رقم 387

أَشْغَالَ النَّاسِ وَهَؤُلَاءِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فِي مُقَابَلَتِهِمْ قَوْمًا يَكُونُونَ مُتَخَلِّفِينَ مُؤَخَّرِينَ عَنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ فِي الْعَادَةِ رُبَاعِيَّةً فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْفَضْلِ ثُلَاثِيَّةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: ٣٢] لم يَقُلْ: مِنْهُمْ مُتَخَلِّفٌ عَنِ الْكُلِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ ثُمَّ إِلَى السَّابِقِينَ مَعَ أَنَّهُ فِي الْبَيَانِ بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ ثُمَّ أَصْحَابِ الشِّمَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ: ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ وَمَا يَكُونُ عِنْدَ وُقُوعِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى مَا يَكْفِهِ مَانِعًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سِرُّهُمْ مَشْغُولٌ بربهم فلا يجزون بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة: ١] وكان فيه من التخويف مالا يَخْفَى وَكَانَ التَّخْوِيفُ بِالَّذِينَ يَرْغَبُونَ وَيَرْهَبُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ لَا نَفْعِ الْخَبَرِ، وَأَمَّا السَّابِقُونَ فَهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ فَقَدَّمَ سُبْحَانَهُ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَيَرْغَبُونَ ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقِينَ لِيَجْتَهِدَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَيَقْرُبُوا مِنْ دَرَجَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِجَذْبٍ مِنَ اللَّه فَإِنَّ السَّابِقَ يَنَالُهُ مَا يَنَالُهُ بِجَذْبٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ: جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّحْمَنِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟ نَقُولُ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُتَكَلِّمُ فِي بَيَانِ أَمْرٍ ثُمَّ يَسْكُتُ عَنِ الْكَلَامِ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ السَّامِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَمَاعِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: أُخْبِرُكَ بِمَا جَرَى عَلَيَّ ثُمَّ يَقُولُ هُنَاكَ هُوَ مُجِيبًا لِنَفْسِهِ لَا أَخَافُ أَنْ يَحْزُنَكَ وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَنْ يَعْرِفُ فُلَانًا فَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يَصِفَهُ، لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ وَصْفَهُ يَقُولُ: هَذَا نِهَايَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ: مَنْ يَعْرِفُ فُلَانًا بِفَرْضِ السَّامِعِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُ: فُلَانٌ عِنْدَ هَذَا الْمُخْبَرِ أَعْظَمُ مِمَّا فَرَضْتُهُ وَأَنْبَهُ مِمَّا عَلِمْتُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا إِعْرَابُهُ وَمِنْهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ؟ نَقُولُ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مُبْتَدَأٌ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَذْكُرَ خَبَرَهُ فَرَجَعَ عَنْ ذِكْرِهِ وَتَرْكِهِ وَقَوْلُهُ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَمَا تَقُولُ:
لِمُدَّعِي الْعِلْمِ مَا مَعْنَى كَذَا مُسْتَفْهِمًا مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْجَوَابَ حَتَّى إِنَّكَ تُحِبُّ وَتَشْتَهِي أَلَّا يُجِيبُ عَنْ سُؤَالِكَ وَلَوْ أَجَابَ لَكَرِهَتَهُ لِأَنَّ كَلَامَكَ مَفْهُومٌ كَأَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَعْرِفُ الْجَوَابَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِي الْأَخْبَارِ تَطْوِيلًا ثُمَّ لَمْ يَسْكُتْ وَقَالَ ذَلِكَ مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ كُنْهَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَشْرَعْ فِي كَلَامٍ وَيَذْكُرُ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ يَسْكَتُ عَنِ الْخَبَرِ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السُّكُوتُ لِحُصُولِ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ عَلِمَ الْخَبَرَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ قَائِلًا: إذا أراد أن يخبره غَيْرَهُ بِأَنَّ زَيْدًا وَصَلَ، وَقَالَ: إِنَّ زَيْدًا ثُمَّ قَبْلَ قَوْلِهِ: جَاءَ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى زَيْدٍ وَرَآهُ جَالِسًا عِنْدَهُ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ جَاءَ لِخُرُوجِ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِ الْخَبَرِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَحْدَهُ يَكْفِي لِمَنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ:
زَيْدٌ يَكُونُ جَوَابًا وَكَثِيرًا مَا نَقُولُ: زَيْدٌ وَلَا نَقُولُ: جَاءَ، وَقَدْ يَكُونُ السُّكُوتُ عَنِ الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْقِصَّةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْغَضْبَانُ مِنْ زَيْدٍ وَيَسْكُتُ ثُمَّ يَقُولُ: مَاذَا أَقُولُ عَنْهُ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ كَانَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَبَرِ فَسَكَتَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ السُّكُوتَ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لِظُهُورِ حَالِ الْخَبَرِ كَمَا يُسْكَتُ عَلَى زَيْدٍ فِي جَوَابِ مَنْ جَاءَ فَقَالَ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ لِيَكُونَ ذَلِكَ

صفحة رقم 388
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية