
في صدفه المصون من أن تلمسه يد لامس أو تقع عليه شمس أو هواء مما يكسف لونه مثل الدرّة حين تخرج من صدفتها، وهذا كله يكون في تلك الجنات التي فيها النعيم الذي لا يقادر قدره إلا الذي خلقه للمقربين «جَزاءً» لهم في الآخرة «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٢٤ في الدنيا من الطاعات والخيرات «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» من فضول الكلام «وَلا تَأْثِيماً» ٢٥ من قول أو فعل فاحش يؤتثم به «إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» ٢٦ على بعضهم من بعضهم ومن الملائكة، ثم شرع يصف ما لأصحاب اليمين عنده فقال «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ٢٧ فِي سِدْرٍ» هو شجر النبق له ثمر صغير يشبه التفاح في الطعم والرائحة إلا أن ورقه مدور، وفيه شوك لم يوجد في التفاح، وهو موجود في البوادي أكثر منه في المدن والقرى، وورقه يقوم مقام الأشنان كالخطمي بالنظافة. هذا هو الذي في الدنيا، أما الذي في الآخرة فهو «مَخْضُودٍ» ٢٨ من الشوك وثمره عظيم وشجره كبير «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ» ٢٩ متراكم بعضه على بعض ويمتاز عن طلح الدنيا بالحجم والرائحة وعدم الغلاف، إذ لا فضول في فواكه الآخرة، كما أن أهلها لا فضول لهم، فهي وأهلها مبرأون من كل دنس ورجس وقذر، والمراد به الموز، وهو والتين أشبه بفاكهة الآخرة إذ لا فضول فيهما، «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» ٣٠ منبسط دائما لا تنسخه شمس، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم وظل ممدود
«وَماءٍ مَسْكُوبٍ» ٣١ مصبوب في الأكواب مهيأ للشرب موضوع بين أيديهم لا يحتاجون إلى كلفة الغرف والصبّ كلما فرغت آنيته ملئت «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» ٣٢ لأنها «لا مَقْطُوعَةٍ» كفاكهة الدنيا حتى تنفذ في موسمها «وَلا مَمْنُوعَةٍ» ٣٣ من قبل أحد يحول دون قطفها ولا هي تابعة للبيع والشراء لأن أثمار الجنة أدي ثمنها في الدنيا وهي لا تحتاج للتناول بل غصنها نفسه يميل لطالبها ليقطف منها ما يريده ومتى ما قطف صار مكانه، لهذا وصفت بأنها غير مقطوعة وغير ممنوعة «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» ٣٤ عالية ويكنى بها عن

النساء الحسان المتعليات عليها بدليل قوله «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ» خلقناهن وأبدعناهنّ «إِنْشاءً» ٣٥ جديدا بخلاف ما كن عليه في الدنيا، وذلك أن العرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على طريق الاستعارة، والقرآن جاء بلغتهم، وعلى هذا يكون المعنى مرفوعة بالفضل والجمال والأدب والصون على نساء الدنيا، والله جل شأنه يشير بذلك إلى نساء المؤمنين، المؤمنات أصحاب اليمين لأنهن لأزواجهن الأخيرين في الدنيا «فَجَعَلْناهُنَّ» بعد أن كنّ ثيبات صيّرناهن «أَبْكاراً» ٣٦ كنساء الجنة عذارى كأنهن لم يطمثن «عُرُباً» حسنات التبعل متحببات لأزواجهن «أَتْراباً» ٣٧ مستويات في السن أمثالا في الخلق عمر الواحدة ثلاث وثلاثون سنة.
مطلب نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب:
جاء عن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال: يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين. وعليه فمن كانت عند موتها دون هذا السن أبلغت إليه، ومن كانت فوقه ردت إليه، لأنه سن الكمال في النساء، كما أن الأربعين سن الكمال في الرجال، ومما يدل على هذا ما رواه البغوي بسنده عن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله أدع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز (وهذا من جملة مزحه ﷺ إنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا) قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ في قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ) إلخ قال عجائز تركن الدنيا عمشا رمضا فجعناهن أبكارا إلخ.
وهذا الخير الكثير المار ذكره كله «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» ٣٨ وعشرة أمثاله نسأل الله أن يجعلنا منهم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ٣٩ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» ٤٠ تقدم تفسير مثله، وقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن دويم قال:
لما أنزل الله عز وجل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر رضي الله

عنه فقال يا نبي الله آمنا برسول الله وصدقناه، ومن ينجو منا قليل؟ فأنزل الله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فدعا رسول الله ﷺ عمر فقال قد أنزل تعالى فيما قلت، فقال رضينا عن ديننا وتصديق نبينا، فقال ﷺ من آدم إلينا ثلّة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط تصغير رهط وهو دون العشرة وتستعمل للأربعين كما مر في الآية الأولى من سورة الجن المارة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج رسول الله عليهم فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون (أي لا يقرأون على الناس ولا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم من تعاويذ وغيرها لأنهم متوكلون على الله تاركون الأسباب لمسببها) ولا يتطيرون (يتشاءمون من شيء) وعلى ربهم يتوكلون في كل أمورهم.
فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل آخر فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال سبقك بها عكاشة.
وليعلم أن الآية الأخيرة غير ناسخة للأولى، لأن الأولى في السابقين الأولين، وهم قليل بالنسبة للأمم قبلهم، ولذلك قال تعالى وقليل من الآخرين، والآية الثانية في أصحاب اليمين وهم كثير، ولذلك قال وثلة من الآخرين، وما جاء في بكاء عمر وحزنه في الحديث السابق المروي عن عروة والحديث الذي رواه أبو هريرة في معناه وزاد فيه فنسخت، وقليل من الآخرين أي منهم، فيكثرهم الفائزون