آيات من القرآن الكريم

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا
ﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁ

وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ [الْمُطَفِّفِينَ: ٧] فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: ٢١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِجُلَسَاءِ الْمَلِكِ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عِنْدَ الْمَلِكِ لِمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يَحْسُدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ إِنْ كَانَ قُرْبُهُ مِنَ الْمَلِكِ بِسَبَبِ الْخِدْمَةِ لَا يَخْتَارُ قُرْبَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ، بَلْ قُرْبَ النَّدِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَيْنَ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْقُرْبِ وَبَيْنَ الْقُرْبِ الَّذِي بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ، وَفِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ قَوْلُهُ: لَمَحْجُوبُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى اللَّهِ قَوْلُنَا: جُلَسَاءُ الْمَلِكِ فِي ظَاهِرِ النَّظَرِ الَّذِي يَقْتَضِي فِي نَظَرِ الْقَوْمِ الْجِهَةَ وَإِلَى الْقُرْبِ الَّذِي يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ مِنْهُ الْمَكَانَ إِلَّا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُهُمْ وَحَاصِلٌ بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وُضِعَ لِلْفِعْلِ وَالْمَجْنُونَ لِلَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَالْعَاقِلَ لِلَّذِي بَلَغَ الْكَمَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِمَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَرَى/ الْحَرَكَةَ مِنَ الْجِسْمَيْنِ فَيَقُولُ: تَحَرَّكَ وَسَكَنَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، كَمَا يَقُولُ: تَدُورُ الرَّحَا وَيَصْعَدُ الْحَجَرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ فِي الْمَحَلِّ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِهِ عَنِ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ؟ نَقُولُ فِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى:
أَنَّ هَذَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، فَجَعَلَهَا مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ الَّتِي مِنْهَا الرُّؤْيَةُ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، لِأَنَّهَا نِعْمَةُ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَلاماً هُوَ مَا قَالَ فِي سُورَةِ يس: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] فَلَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا جَعَلَهُ جَزَاءً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا:
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: ١١] لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وَهِيَ الرُّؤْيَةُ بِالنَّظَرِ كَمَا مَرَّ وَخَتَمَ بِمِثْلِهَا، وَهِيَ نِعْمَةُ الْمُخَاطَبَةِ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّعَمَ الْفِعْلِيَّةَ وَقَابَلَهَا بِأَعْمَالِهِمْ حَيْثُ قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: ٢٤] ذَكَرَ النِّعَمَ الْقَوْلِيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ أَذْكَارِهِمُ الْحَسَنَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْقَلْبِيَّ لَمْ يُرَ وَلَمْ يُسْمَعْ، فَمَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعْمَةِ تَكُونُ نِعْمَةً لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْهَا أُذُنٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها: «مالا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَلَا خَطَرَ»
إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى النِّعْمَةِ الْقَوْلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمُ الطَّيِّبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا إِلَى قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلَتْ: ٣٠- ٣٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً نَفْيٌ لِلْمَكْرُوهِ لِمَا أَنَّ اللَّغْوَ كَلَامٌ غَيْرُ

صفحة رقم 400

مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُعْتَبَرَينَ مِنَ الرِّجَالِ مَكْرُوهٌ، وَنَفْيُ الْمَكْرُوهِ لَا يُعَدُّ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، كَيْفَ وَقَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ تَأْخِيرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِكَوْنِهَا أَتَمَّ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا فِي بَلْدَةِ كَذَا مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ لَا يُضْرَبُ وَلَا يُشْتَمُ فَهُوَ غَيْرُ مُكَرَّمٍ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَالْوَاغِلُ مَذْمُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ يَشْرَبُونَ وَيَأْكُلُونَ فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَلَا إِذْنٍ فَكَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ كَلَامٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ اللَّغْوُ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْهُ مِثْلُ الْوُلُوغِ لَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَالِغُ كَلْبًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِنَ السِّبَاعِ، وَأَمَّا التَّأْثِيمُ فَهُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْإِثْمِ وَمَعْنَاهُ لَا يَذْكُرُ إِلَّا بَاطِلًا وَلَا يَنْسُبُهُ أَحَدٌ إِلَّا إِلَى الْبَاطِلِ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ فَلِأَنَّ اللَّغْوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْثِيمِ أَيْ يَجْعَلُهُ آثِمًا كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ فَاسِقٌ أَوْ سَارِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُتَكَلِّمُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْ يَلْغُوَ وَإِلَى أَنْ لَا يَلْغُوَ وَالَّذِي لَا يَلْغُو يَقْصِدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَأْخُذُ النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ/ تَعَالَى: لَا يَلْغُو أَحَدٌ وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَغْوٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ اللَّغْوَ فَيَقُولُ لَهُ: الصَّادِقُ لَا يَلْغُو وَلَا يَأْثَمُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبَاطِلَ أَقْبَحُ مَا يُشْبِهُهُ فَقَالَ:
لَا يَأْثَمُ أَحَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّبَأِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: ٣٥] فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ الْكِذَّابُ كَثِيرُ التَّكْذِيبِ وَمَعْنَاهُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَذِبًا وَلَا أَحَدًا يَقُولُ لِآخَرَ: كَذَبْتَ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَذِبًا مِنْ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِتَفَاوُتِ حَالِهِمْ وَحَالِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بِأَعْيَانِهِمْ كَذَّابُونَ فَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ نَقْطَعْ بِأَنَّ فِي النَّاسِ كَذَّابًا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: كَذَبْتَ فَإِنْ صَدَقَ فَصَاحِبُهُ كَذَّابٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ فَهُوَ كَاذِبٌ فَيَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا كَذَّابًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا كَذِبَ فِيهَا، وقال هاهنا: وَلا تَأْثِيماً وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: إِنَّهُ زَانٍ أَوْ شَارِبٌ الْخَمْرَ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا، فَالَّذِي لَيْسَ عَنْ عِلْمٍ إِثْمٌ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ: قُلْتَ ما لا علم لك به فالكلام هاهنا أَبْلَغُ لِأَنَّهُ قَصَرَ السُّورَةَ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَقْسَامِ لِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ هُنَا هُمُ السَّابِقُونَ وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّابِقَ فَوْقَ الْمُتَّقِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلَّا قِيلًا استثناء متصل أو مُنْقَطِعٌ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَوَجْهُهُ أَنْ نَقُولَ:
الْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّكَ تقول: مالي ذنب إلا أُحِبُّكَ، فَلِهَذَا تُؤْذِينِي فَتَسْتَثْنِي مَحَبَّتَهُ مِنَ الذَّنْبِ وَلَا تُرِيدُ الْمُنْقَطِعَ لِأَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيَانَ أَنَّكَ تُحِبُّهُ إِنَّمَا تُرِيدُ فِي تَبْرِئَتِكَ عَنِ الذُّنُوبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْخِلَافِ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَوَسِّطَةٌ مِثَالُهُ: الْحَارُّ وَالْبَارِدُ وَبَيْنَهُمَا الْفَاتِرُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَارِّ مِنَ الْبَارِدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْبَارِدِ مِنَ الْحَارِّ، وَالْمُتَوَسِّطُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَارِدِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إِلَى الْحَارِّ فَيُقَالُ: هَذَا بَارِدٌ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِدِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَارٌّ، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل: مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، مَعْنَاهُ لَا تَجِدُ مَا يُقَرِّبُ مِنَ الذَّنْبِ إِلَّا الْمَحَبَّةَ فَإِنَّ عِنْدِي أُمُورًا فَوْقَهَا إِذَا نَسَبْتَهَا إِلَى الذَّنْبِ تَجِدُ بَيْنَهَا غَايَةَ الْخِلَافِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: دَرَجَاتُ الْحُبِّ عِنْدِي طَاعَتُكَ وَفَوْقَهَا إِنَّ أَفْضَلَ جَانِبٍ أَقَلُّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ عَلَى جَانِبِ الْحِفْظِ لِرُوحِي، إِشَارَةً إِلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ مُسْتَحْقَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أَيْ يَسْمَعُونَ فِيهَا كَلَامًا فَائِقًا عَظِيمَ الْفَائِدَةِ كَامِلَ اللَّذَّةِ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى اللَّغْوِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ:
سَلَامٌ عَلَيْكَ فَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَقْرُبُ مِنَ اللَّغْوِ إِلَّا سَلَامًا، فَمَا ظَنُّكَ بالذين يَبْعُدُ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ الْمَاءُ الْبَارِدُ الصَّادِقُ

صفحة رقم 401

وَالْمَاءُ الَّذِي كَسَرَتِ الشَّمْسُ بُرُودَتَهُ وَطُلِبَ مِنْهُ ماء حار ليس عندي ماء جار إِلَّا هَذَا أَيْ لَيْسَ عِنْدِي مَا يَبْعُدُ مِنَ الْبَارِدِ الصَّادِقِ الْبُرُودَةِ وَيَقْرُبُ مِنَ الْحَارِّ إِلَّا هَذَا وَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ الْفَائِقَةُ وَالْبَلَاغَةُ الرَّائِقَةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّغْوُ مَجَازًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَجَازٍ وَحُمِلَ اللَّغْوُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلْيُحْمَلْ إِلَّا عَلَى لَكِنْ لِأَنَّهُمَا/ مُشْتَرِكَانِ فِي إِثْبَاتِ خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، نَقُولُ: الْمَجَازُ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ فِي الْحُرُوفِ لِأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ فِي الدَّلَالَةِ وَتَتَغَيَّرُ فِي الْأَحْوَالِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُوفُ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تَصِيرُ مَجَازًا إِلَّا بِالِاقْتِرَانِ بِاسْمٍ وَالِاسْمُ يَصِيرُ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ الِاقْتِرَانِ بِحَرْفٍ فَإِنَّكَ تَقُولُ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي وَيَكُونُ مَجَازًا وَلَا اقْتِرَانَ لَهُ بِحَرْفٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ لِرَجُلٍ: هَذَا أَسَدٌ وَتُرِيدُ بِأَسَدٍ كَامِلَ الشَّجَاعَةِ، وَلِأَنَّ عَرْضَ المتكلم في قوله مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، لَا يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَجَازِ، وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ لَهُ فَائِدَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْبَلَاغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْقَوْلِ فَيَكُونُ قِيلًا مَصْدَرًا، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ مَصْدَرٌ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لَهُ فِي بَابِ فَعَلَ يَفْعُلُ إِلَّا حَرْفٌ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ اسْمٌ وَالْقَوْلُ مَصْدَرٌ فَهُوَ كَالسِّدْلِ وَالسِّتْرِ بِكَسْرِ السِّينِ اسْمٌ وَبِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلٍ هُوَ: قَالَ وَقِيلَ، لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، وَمَا قِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ، يَكُونُ مَعْنَاهُ نَهَى عَنِ الْمُشَاجَرَةِ، وَحِكَايَةِ أُمُورٍ جَرَتْ بَيْنَ أَقْوَامٍ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ مِنْ غَيْرِ وَعْظٍ وَلَا حِكْمَةٍ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّه عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ»
وَعَلَى هَذَا فَالْقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ، وَالْقَالُ اسْمٌ لِلْقَوْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، تَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: كَذَا، فَقَالَ: كَذَا، فَيَكُونُ حَاصِلُ كَلَامِهِ قِيلَ وَقَالَ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ، وَالْقَالُ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ هُوَ قَالَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا بَاطِلٌ لقوله تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزُّخْرُفِ: ٨٨] فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَعْلَمُ اللَّه قِيلَ مُحَمَّدٍ: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ [نُوحٍ: ٢٧]، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: ٨٩] إِرْشَادٌ لَهُ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَى قَوْمِهِ عِنْدَ يَأْسِهِ مِنْهُمْ كَمَا دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ مُضَافًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ الْقِيلُ اسْمًا لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَنَا: إِنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ الْمَوْضُوعِ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ فِي الْأَصْلِ لَا يُنَافِي جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي قَوْلِ مَنْ عُلِمَ بِغَيْرِ الْمَوْضُوعِ وَثَانِيهِمَا:
وَهُوَ الْجَوَابُ الدَّقِيقُ أَنْ نَقُولَ: الْهَاءُ فِي: وَقِيلِهِ ضَمِيرٌ كَمَا فِي رَبِّهِ وَكَالضَّمِيرِ الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: ٤٦] وَالْهَاءُ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى مَذْكُورٍ، غَيْرَ أَنَّ الْكُوفِيِّينَ جَعَلُوهُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ وَالْبَصْرِيِّينَ جَعَلُوهُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى عِبَارَتِهِمْ بَلَغَ غَايَةَ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى قِيلُ الْقَائِلِ مِنْهُمْ: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ فِي كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهَذَا وَأَنَّهُمْ عَالِمُونَ، وَأَهْلُ السَّمَاءِ عَلِمُوا بِأَنَّ عِنْدَ اللَّه عِلْمَ السَّاعَةِ يَعْلَمُهَا فَيَعْلَمُ قول من يقول: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: ٨٨] مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ قَوْلٍ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مَذْكُورٍ قَبْلَهُ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا/ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الخطاب بقوله: فَاصْفَحِ [الحجر: ٨٥] كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ، وَقِيلِكَ يَا رَبِّ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا بِكَلَامِ اللَّه، وَقَدْ قَالَ

صفحة رقم 402
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية