
المعنى:
إذا كانت القيامة، ووقعت الواقعة التي تحقق وقوعها بلا شك فكأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الإخبار بوقوعها، إذا وقعت الواقعة كان الجزاء والثواب والعقاب «١» حالة كونها ليس لوقعتها «٢» نفس كاذبة، والواقعة هي السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم- بمعنى أنه لا يكون حين وقوعها نفس تكذب على الله تعالى- كما في هذه الدنيا- وتكذب في تكذيبه سبحانه في خبره بها، أليس منكر الساعة الآن مكذبا له تعالى في أنها واقعة؟ وهو كاذب في تكذيبه لأنه- أى: المنكر- قد أخبر بخبر على خلاف الواقع، فلا يبقى هناك كاذب بل الكل صادق مصدق.
هي خافضة لأقوام كانوا أعزة بالباطل، رافعة لأقوام كانت عزتهم بالله ورسوله وإن كانوا في الدنيا فقراء المال والجاه، هي خافضة رافعة، إذا رجت الأرض رجا ينهدم ما فوقها من بناء ومساكن، وبست الجبال بسّا فصارت غبارا متفرقا، وذرات متناثرة، وكنتم أيها الناس ساعتها أصنافا ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون المقربون.
هؤلاء هم السابقون، وذلك جزاؤهم [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧ الى ٢٦]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١)
وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
(٢) - اللام هنا للتوقيت.

المفردات:
أَزْواجاً: أصنافا ثلاثة. الْمَيْمَنَةِ: وأصحابها هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. الْمَشْئَمَةِ: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
وَالسَّابِقُونَ والمراد بهم: السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح. ثُلَّةٌ:
جماعة. مَوْضُونَةٍ أى: منسوجة بإحكام، وفي كتب اللغة أن الوضن: النسج المضاعف. وِلْدانٌ: كصبيان في الوزن والمعنى. مُخَلَّدُونَ: باقون على حالتهم لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ: جمع كوب، وهي الآنية التي ليس لها مقبض ولا خرطوم، والأباريق: أوان لها مقابض وخراطيم، وأقرب الأشباه بهما ما نستعملهما الآن في مصر ونطلق عليهما لفظ- كوب وإبريق. وَكَأْسٍ: لفظ الكأس يطلق على الإناء الذي فيه الخمر أو على نفس الخمر، فإذا خلا الإناء من الخمر فهو قدح. مَعِينٍ المعين حقيقة: هو النهر الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون، أو الخارج من العيون «١». يُنْزِفُونَ من نزف الشارب أو من أنزف الشارب: إذا سكر. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أى: لا تنصدع رءوسهم من شربها فلا يصابون بصداع. عِينٌ: كبار الأعين حسانها. الْمَكْنُونِ: المستور لا يصل إليه غبار. لَغْواً: فاحشا من القول. تَأْثِيماً: ما يؤثم.
وهذا تفصيل للأزواج الثلاثة، وبدأ بذكر السابقين.

المعنى:
وكنتم- والخطاب لأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم والأمم السابقة من باب التغليب- أصنافا ثلاثة:
أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة «١» نعم هم في غاية حسن الحال، كما أن أصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال، والسابقون السابقون أولئك- والإشارة لبعد مركزهم وعلو مكانتهم- المقربون «٢» في جنات النعيم بمعنى السابقون هم الذين سبقوا في الإيمان غيرهم وسارعوا إلى عمل الصالحات، وكأن سائلا سأل وقال: وما جزاء هؤلاء؟؟ فأجيب: أولئك المقربون من الحضرة القدسية المتمتعون بالرضا السامي في جنات النعيم.
هم جماعة كثيرة من الأمم السابقة وقليل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ممن جاءوا أخيرا، فالقلة والكثرة راجعة إلى العدد، هم جميعا في الجنة حالة كونهم على سرر منسوجة بالذهب نسجا محكما، حالة كونهم متكئين عليها، متقابلين فوجوههم متقابلة، وهكذا الأدب العالي، وقلوبهم صافية نقية، ولذا تراهم متقابلين يطوف عليهم في الجنة ولدان مخلدون لا يعتريهم هرم ولا ضعف بل هم دائما في طراوة الشباب ورقته ونشاطه، يطوفون عليهم بأكواب من فضة وأباريق من ذهب، ويطوفون بخمر جارية من العيون فلا تنقطع، ظاهرة للعيون، فليست كخمر الدنيا التي تعصر وتحجز، ولا يصيبهم بسببها صداع ولا ألم، ولا يتفرقون عنها بسبب من الأسباب، ولا هم عنها ينزفون، أى: لا تذهب عقولهم، ولا تبيد أموالهم، ولا تهدم صحتهم، ولا تضيع كرامتهم، خمر الجنة، وكفى أنها من صنع الخلاق الحكيم! ويطوفون عليهم بفاكهة كثيرة يأخذون منها ما يختارون، وبلحم من جميع الأشكال والأنواع يأكلون منه ما يشتهون، ولعلك معى في أن تقديم الفاكهة على اللحم مما يدعو إليه الطب.
(٢) - أحسن الأعاريب أن (السابقون) مبتدأ و (السابقون) الثانية خبر- من باب شعري شعري- وفي هذا تفخيم لشأنهم، وجملة (أولئك المقربون) مبتدأ وخبر، واقعة استئنافا بيانيا.