آيات من القرآن الكريم

عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ
ﮮﮯ ﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤ

«وَكُنْتُمْ» أيها الناس حينذاك «أَزْواجاً ثَلاثَةً» ٧ صنفين في الجنة وواحدا في النار، وكل ما كان بعضه من بعض أو يذكر بعضه مع بعض يسمى زوجا، وإلا فأصناف وأنواع وأحزاب، ثم بينها بقوله عزّ قوله «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» جانب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم فيؤخذ بهم إلى ذات اليمين وهي الجنة، وهذا الزوج الأول الذي يتعجب المتعجب من سعادتهم لكثرة ما يفيض الله عليهم من كرمه وإحسانه، ينبئك عن ذلك قوله تعالى «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» ٨ أي شيء عظيم هم عليه من السعادة الدائمة بما لا يتصوره المتصورون، وهذا التعجب تعظيم لشأنهم وتفخيم لقدرهم لأنهم كانوا في الدنيا ميامين مباركين، فجوزوا بالآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يتعجب مما أعطاهم ربهم المتعجبون، ويتنافس فيما أفاض عليهم من كرمه المتنافسون «وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» جانب الشمال الذين يأخذون كتبهم بشمالهم ويساقون لذات الشمال وهي النار أجارنا الله منها، وهذا الزوج الثاني الذي يتعجب المتعجب من شقائهم لعظيم الغضب الذي يحل بهم من عقاب الله وانتقامه ويخبرك عن عظم هوله قوله جل قوله «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» ٩ شيء فظيع هم عليه وخطب كبير ألمّ بهم، بلغ منتهى الفظاعة، وهذا التعجب بليغ من سوء حالهم في الشقاء الذي لم يتصوره العقل وتحقير وتوبيخ لهم، لأنهم كانوا في الدنيا مشائيم أدنياء، ثم نوه بالزوج الثالث الذي هو الأول في المرتبة وقد أخره في الذكر لأنه تعالى ذكر أوائل هذه السورة القيامة وأهوالها ترهيبا للمسيء ليرجع عن إساءته وترغيبا للمحسن ليزداد في إحسانه، فقدم أصحاب اليمين ليرغب السامعون، وثنى بأصحاب الشمال ليرهبوا، وثلث بهذا الصنف الذي تتطاول إليه الأعناق، وتصيخ لما خصصوا به الأسماع، ليتشوقوا إليه منوها بفضلهم بقوله «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» ١٠ الأول مبتدأ والثاني خبره، أي إلى الجنة، لأنهم كانوا يتسابقون بأعمال الخير في الدنيا
«أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ١١ لجوار الله وكرامته الكائنون غدا «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» ١٢ بلا حساب ولا عتاب

صفحة رقم 238

يدخلونها رأسا، وهؤلاء هم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر، ليجتهد (اللام هنا لام كي) أصحاب اليمين في التقرب لدرجتهم وليحزن أصحاب الشمال لبعدهم عنهم، وهؤلاء السابقون منهم «ثُلَّةٌ» جماعة كثيرة لأن التنوين يدل على التكثير كقوله:

وجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيّار من السيل مزبد
«مِنَ الْأَوَّلِينَ» ١٣ من لدن آدم إلى زمن محمد صلوات الله وسلامه عليهما «وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» ١٤ من بعثة محمد ﷺ إلى يوم القيامة، لأن أمته بالنسبة لمن تقدمها من الأمم قليلون جدا، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ في قبة نحوا من أربعين، فقال:
أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم. قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة، وما أنتم من أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، ثم طفق يبين ما أعده في تلك الجنان لهم فقال «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ» ١٥ منسوجة بالذهب موشاة بالجواهر المنيرة «مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» ١٦ على السرر مع أحبابهم، ينظر بعضهم لوجوه بعض عند التخاطب والقعود، وهذا من أحسن أوصاف حسني العشرة صافي الوداد، مهذّبي الأخلاق، والعكس بالعكس، لأن من لا ينظر إليك عند ما تخاطبه لم يبال بك، ومن لا تنظر إليه عند مخاطبته لم تحترمه ولا تعبا به ففيها سوء خلق وقلة أدب وعدم محبّة من الطرفين، هذا ومما أعدّ لهم فيها أيضا خدم كثيرون بدليل قوله عز قوله «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» ١٧ في سن الشبوبة لا يهرمون ولا يموتون خلقهم الله في الجنة لخدمة أهلها لا يتجاوزون حد الوصافة.

صفحة رقم 239

مطلب معنى المخلدين ومصير أولاد المشركين وآداب الأكل:
واعلم أن لفظة (خلد) كما تدل على البقاء والدوام حقيقة تدل على التسوّر، أي لبس السوار باليد والقرط بالأذان، وعليه يكون المعنى مسورون مقرطون، ولو أراد الله تعالى معنى البقاء والدوام لقال خالدين كما قال في أهل الجنة ولا تجد في القرآن كله مخلّدين غير هذه، ولهذا أقول والله أعلم إن المراد بمخلدين المعنى الأخير، لأن الخادم إذا كان مزينا بالحلي يكون أنضر بعين المخدوم، ولهذا تجد أهل الدنيا يزينون عبيدهم بأحسن اللباس والسلاح المذهب، ولم يصف الحور العين بالتخليد لأن حسنهن أغناهن عنه، والغانية من اكتفت بحسنها عن التزين بالحلي، أي أنهم ليسوا كالحور العين من هذه الحيثية، وما قيل إن الولدان أطفال المؤمنين لا يتجه لأن الله تعالى قال: (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية ٢١ من سورة الطور الآتية في ج ٢، فذراري المؤمنين مع آبائهم في الجنة يخدمون، وهذا حكم الله فيهم ولا راد لحكمه، وما قيل إنهم أولاد الكفار الذين ماتوا قبل سن التكليف لا يصح أيضا، وقد اختلفت أقوال العلماء فيهم، فمنهم من قال إنهم في الجنة وهو الأقرب، لأن الله تعالى لا يعذب قبل التكليف، وإذ لم يعذبوا فهم ناجون، والناجون من أهل الجنة، لأن الأمر يدور بين الجنة والنار، فمن زحزح عن النار فقد دخل الجنة، راجع الآية ٤٥ من سورة الأعراف المارة، ولهذا البحث صلة في الآية ١٨٤ من آل عمران في ج ٣، ما لم يكونوا من الذين سبق ذكرهم في تفسير الآية الأخيرة من سورة طه المارة، ومنهم من قال إنهم من أهل النار تبعا لآبائهم وهو بعيد، لأن الله أكبر من أن يعذب من لم يكلفه، وهم لم يبلغوا حد التكليف كيف وقد قال: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ٢٧ من سورة والنجم المارة وقوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية ١٥ من سورة الإسراء الآتية، وإذا كان من لم تبلغه الدعوة والمجنون الكبير يسقط عنهم التكليف فيدخلون الجنة على ما هم عليه، فكيف بالطفل الذي لا يعقل شيئا، ومنهم من توقف فيهم

صفحة رقم 240
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية