جِهَتِهِمْ، فَالْعَيْنَانِ الْأُولَيَانِ فِي مَكَانِهِمْ فَتَكُونُ حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جريا. وأما قوله تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩)
فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: ٥٢] وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه الْبِطِّيخِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَرْضِيَّاتِ الْمَزْرُوعَاتِ وَشَجَرِيَّةٌ نَحْوَ النخل وغيره من الشجريات فقال: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: ٦٤] بِأَنْوَاعِ الْخُضَرِ الَّتِي مِنْهَا الْفَوَاكِهُ الْأَرْضِيَّةُ وَفِيهِمَا أَيْضًا الْفَوَاكِهُ الشَّجَرِيَّةُ وَذَكَرَ مِنْهَا نَوْعَيْنِ وَهُمَا الرَّمَّانُ وَالرُّطَبُ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ فَأَحَدُهُمَا حُلْوٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ حُلْوٍ وَكَذَلِكَ أَحَدُهُمَا حَارٌّ وَالْآخَرُ بَارِدٌ وَأَحَدُهُمَا فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ، وَالْآخَرُ فَاكِهَةٌ، وَأَحَدُهُمَا مِنْ فَوَاكِهِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ فَوَاكِهِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَأَحَدُهُمَا أَشْجَارُهُ فِي غَايَةِ الطُّولِ وَالْآخَرُ أَشْجَارُهُ بِالضِّدِّ وَأَحَدُهُمَا مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ بَارِزٌ ومالا يُؤْكَلُ كَامِنٌ، وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ فَهُمَا كَالضِّدَّيْنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ تَتَنَاوَلُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرَّحْمَنِ: ١٧] وقدمنا ذلك. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
أَيْ فِي بَاطِنِهِنَّ الْخَيْرُ وَفِي ظَاهِرِهِنَّ الْحُسْنُ وَالْخَيْرَاتُ جَمْعُ خَيْرَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ إِلَى أَنْ قَالَ: كَأَنَّهُنَّ [الرحمن: ٥٦- ٥٨] إشارة إلى كونهن حسانا. وقوله تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥)
إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَتِهِنَّ فَإِنَّهُنَ مَا قَصُرْنَ حَجْرًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَرْبِ الْخِيَامِ لَهُنَّ وَإِدْلَاءِ السِّتْرِ عَلَيْهِنَّ، وَالْخَيْمَةُ مَبِيتُ الرَّجُلِ كَالْبَيْتِ مِنَ الْخَشَبِ، حَتَّى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبَيْتَ مِنَ الشَّعْرِ خَيْمَةً لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْإِقَامَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّحَرُّكِ لِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْأَشْيَاءُ تَتَحَرَّكُ إِلَيْهِ فَالْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَهُ فَالْحُورُ يَكُنَّ فِي بُيُوتٍ، وَعِنْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْتِ إِرَادَتِهِمْ تَسِيرُ بِهِنَّ لِلِارْتِحَالِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خِيَامٌ وَلِلْمُؤْمِنِينَ قُصُورٌ تَنْزِلُ الْحُورُ مِنَ الْخِيَامِ إِلَى الْقُصُورِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قد سبق تفسيره. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ اتِّكَائِهِمْ عَنْ ذِكْرِ نِسَائِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ اتِّكَائِهِمْ عَلَى ذِكْرِ نِسَائِهِمْ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرَّحْمَنِ: ٥٤] ثُمَّ قال:
قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن: ٥٦] وقال هاهنا: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: ٧٠] ثُمَّ قَالَ: مُتَّكِئِينَ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ تَعَبٌ وَحَرَكَةٌ فَهُمْ مُنَعَّمُونَ دَائِمًا لَكِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ يَجْتَمِعْ مَعَ أَهْلِهِ اجْتِمَاعَ مُسْتَفِيضٍ وَعِنْدَ قَضَاءِ وَطَرِهِ يَسْتَعْمِلُ الِاغْتِسَالَ وَالِانْتِشَارَ فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا فِي طَلَبِ الْكَسْبِ وَعِنْدَ تَحْصِيلِهِ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنَ التَّعَبِ قَبْلَ قَضَاءِ الْوَطَرِ فَيَكُونُ التَّعَبُ لَازِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْوَطَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: مُتَّكِئِينَ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك، ليعلم أنهم دائم عَلَى السُّكُونِ فَلَا تَعَبَ لَهُمْ لَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَلَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ جَاهُدُوا وَالْمُتَأَخِّرِينَ لِذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِهِمْ، فَهُمْ فِيهِمَا وَأَهْلُهُمْ فِي الْخِيَامِ مُنْتَظِرَاتٌ قُدُومَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ جَنَّتَهُ الَّتِي هِيَ سُكْنَاهُ يَتَّكِئُ عَلَى الْفُرُشِ وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَزْوَاجُهُ الْحِسَانُ، فَكَوْنُهُنَّ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ بَعْدَ اتِّكَائِهِمْ عَلَى الْفُرُشِ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتْأَخِّرَتَيْنِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي يَوْمِنَا، وَاتِّكَاءُ المؤمن غير حاصل في يومنا، فقدم ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك. ومُتَّكِئِينَ حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ/ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ [الرحمن: ٧٤] وَذَلِكَ فِي قُوَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَطْمِثُوهُنَّ مُتَّكِئِينَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرحمن: ٥٤] يُقَالُ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّفْرَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنْ رَفَّ الزَّرْعُ إِذَا بَلَغَ مِنْ نَضَارَتِهِ فَيَكُونُ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
مُدْهامَّتانِ [الرحمن: ٦٤] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى الرِّيَاضِ وَالثِّيَابِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَفْرَفَةِ الطَّائِرِ، وَهِيَ حَوْمُهُ فِي الْهَوَاءِ حَوْلَ مَا يُرِيدُ النُّزُولَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى بُسُطٍ مَرْفُوعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: ٣٤] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن:
٦٢] أَنَّهُمَا دُونَهُمَا فِي الْمَكَانِ حَيْثُ رُفِعَتْ فُرُشُهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خُضْرٍ صِيغَةُ جَمْعٍ فَالرَّفْرَفُ يَكُونُ جَمْعًا لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ وَيَكُونُ وَاحِدُهُ رَفْرَفَةً كحنظلة وحنظل وَالْجَمْعُ فِي مُتَّكِئِينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: مُتَّكِئِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى رَفَارِفَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفُرُشِ وَالرَّفْرَفِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: رَفَارِفَ اكْتِفَاءً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
مُتَّكِئِينَ وَقَالَ: فُرُشٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ نَقُولُ: جَمْعُ الرُّبَاعِيِّ أثقل من جمع الثلاثي، ولهذا لم يجيء لِلْجَمْعِ فِي الرُّبَاعِي إِلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَأَمْثِلَةُ الْجَمْعِ فِي الثُّلَاثِي كَثِيرَةٌ وَقَدْ قُرِئَ: (عَلَى رفارف خضر)، و (رفارف خضار وعباقر).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّفْرَفَ هِيَ الْبُسُطُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْخُضْرِ حَيْثُ وَصَفَ تَعَالَى ثِيَابَ الْجَنَّةِ بِكَوْنِهَا خُضْرًا قَالَ تَعَالَى: ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ؟ [الْإِنْسَانِ: ٢١] نَقُولُ: مَيْلُ النَّاسِ إِلَى اللَّوْنِ الْأَخْضَرِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ، وَسَبَبُ الْمَيْلِ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْأَلْوَانَ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا أُصُولُ الْأَلْوَانِ سَبْعَةٌ وَهِيَ الشَّفَّافُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَصَرِ فِيهِ وَلَا يَحْجُبُ مَا وَرَاءَهُ كَالزُّجَاجِ وَالْمَاءِ الصَّافِي وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ الْأَبْيَضُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْأَصْفَرُ ثُمَّ الْأَحْمَرُ ثم