٨- أردف الله تعالى كل نعمة بتوبيخ من ينكرها أو يكذب بها، ومنها نعم تقابل بعمل، ونعم هي مجرد فضل وامتنان دون مقابلة عمل.
٩- هذه النعم في الغالب جزاء أو ثواب العمل الصالح في الدنيا، وهل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة؟ وآية هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ.. فيها دلالات واضحة ثلاث: هي ما يأتي:
الأولى- رفع التكليف عن العوام والخواص في الآخرة، وأما الحمد والشكر فهو لذة زائدة على كل لذة سواها.
الثانية- إن العبد محكّم في أحوال نعيم الآخرة، كما قال تعالى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس ٣٦/ ٥٧].
الثالثة- كل ما يتخيله الإنسان من أنواع الإحسان الإلهي، فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به، لأن عطاء الكريم لا يحد ولا يوصف، فالذي يعطي الله فوق ما يرجو العبد، وذلك على وفق كرمه وإفضاله.
- ٢- وصف آخر للجنات
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٧٨]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
الإعراب:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ولهم من دونهما جنتان، فحذف «لهم» لدلالة الكلام عليه تخفيفا.
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ خَيْراتٌ: أصله: خيرات بالتشديد، وقد قرئ به على الأصل، إلا أنه خفف كتخفيف شيد وهين وميت.
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ حال، ورَفْرَفٍ وهي الوسائد: إما اسم جمع، كقوم ورهط، ولهذا وصف ب خُضْرٍ وهو جمع أخضر، كقولك: قوم كرام، ورهط لئام. أو مع «رفرفة» مثل عبقري جمع عبقرية. وعَبْقَرِيٍّ: منسوب إلى عبقر: وهو اسم موضع ينسج به الوشي الحسن، وجمع عبقر: عباقر، ومن قرأ «عباقريّ» فلا يصح أن ينسب إليه وهو جمع، لأن النسب إلى الجمع يوجب ردّه إلى الواحد، إلا أن يسمع بالجمع، فيجوز أن ينسب إليه على لفظه كمعافريّ وأنماريّ، ولا يعلم أن عباقر: اسم لموضع مخصوص بعينه.
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ يقرأ «ذو الجلال» وصف للاسم، ويقرأ بالجر على أنه وصف ل رَبِّكَ.
المفردات اللغوية:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ومن دون الجنتين المذكورتين الموعودتين للخائفين المقرّبين، أي ورائهما جنتان أقل منهما. مُدْهامَّتانِ شديدتا الخضرة من كثرة الري والعناية، كأنهما سوداوان، والدهمة في اللغة: السواد. ضَّاخَتانِ
فوارتان بالماء. فِيهِما فاكِهَةٌ، وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، وثمرة الرمان فاكهة ودواء، كما قال البيضاوي: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ في الجنتين وما فيهما أو في الجنان نساء خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه، وخيرات مخففة
كقوله صلى الله عليه وسلم: «هينون لينون».
حُورٌ جمع حوراء: بيضاء، شديدة سواد العين وبياضها. مَقْصُوراتٌ مخدّرات مستورات. فِي الْخِيامِ جمع خيمة: وهي التي تنصب على أعواد أربعة وتسقف بنبات الأرض، وأما الخباء: فهو ما يتخذ من شعر أو وبر.
وخيام الجنة شبيهة بالخدور، مصنوعة من الدّر. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يفتضهن أو يجامعهن.
رَفْرَفٍ وسائد، جمع رفرفة. وَعَبْقَرِيٍّ طنافس منقوشة عجيبة الوشي نادرة. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تقدس وتنزه اسم الله الذي يطلق على ذاته. ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي ذي العظمة والكبرياء، أو ذي العظمة والتكريم عن كل ما لا يليق به، أو الإفضال والإنعام على عباده.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة بعض أوصاف الجنة التي هي ثواب المتقين الخائفين ربهم، ثم أردفه بأوصاف أخرى للجنة، مبينا أولا أن ثواب الخائفين جنتان، وثواب آخر مثله وهو جنتان أخريان.
التفسير والبيان:
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُدْهامَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي وهناك جنتان أخريان للخائفين، أو هناك جنتان أخريان، دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة، لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة، تقدم
في الحديث: جنتان من ذهب آنيتهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقرّبين، والأخريان لأصحاب اليمين.
وفي الجنتين السابقتين أشجار وفواكه وغير ذلك، وكذا هاتان الجنتان خضراوان، فهما من شدة خضرتهما سوداوان في رأي العين، من شدة الري المائي. وقد فسر ابن عباس وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما من الصحابة والتابعين قوله تعالى:
مُدْهامَّتانِ بأنهما خضراوان، وذلك مروي في حديث عن أبي أيوب أخرجه الطبراني وابن مردويه.
فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فالجنتان في غاية المتعة والنضرة والخضرة، ولكنهما دون الجنتين المتقدمتين في الرتبة والفضيلة، فهناك جنتان ذواتا أفنان، أي أغصان وأشجار وفواكه، وهنا جنتان خضراوان.
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في الجنتين عينان
فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب، فهناك جنتان تجريان، وهنا جنتان فوّارتان، والجري أقوى من النضخ، قال البراء بن عازب: العينان اللتان تجريان خير من النضاختين. فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن؟
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في هاتين الجنتين فاكهة كثيرة متنوعة، ومنها ثمر النخيل والرمان، وإفرادهما بالذكر من بين سائر الفواكه ليس من عطف الخاص على العام كما ذكر البخاري وغيره، وإنما لمزيد حسنهما، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه، ولشرفهما على غيرهما، لدوامهما وكونهما غذاء ودواء، ولوجودهما في الخريف والشتاء.
وقد قال هناك: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وقال هنا: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع، من قوله: فاكِهَةٌ فهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم.
فبأي نعم الله تكذبان يا إنس ويا جن، فإن هذه النعم تستحق الحمد والشكر.
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي في هاتين الجنتين نساء حسان الخلق والخلق، أو هن ذوات فضل، خيّرات فاضلات الأخلاق، حسان الوجوه، فالخيّرات جمع خيّرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق، الحسنة الوجه، وهو قول الجمهور، بدليل
ما روى الحسن عن أم سلمة قالت: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ؟ قال: خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه»
وفي حديث آخر أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام.
وقال قتادة: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة.
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي إن هؤلاء النساء الخيرات حور شديدات البياض، وفي عيونهن حور، أي واسعات الأعين، مع صفاء البياض، مخدرات محجبات مستورات في خيام الجنة المكونة من الدرّ المجوفة، فلسن مترددات في الشوارع والطرقات. وقد وصفت نساء الجنتين هناك بأنهن قاصِراتُ الطَّرْفِ فهن أعلى منزلة من هؤلاء المذكورات في هذه الآية: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ لأنه لا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، وإن كان الجميع مخدرات. والعرب يمدحون ويؤثرون النساء الملازمات للبيوت، لتوافر الصون، فبأي نعم الله هذه ونحوها تكذبان؟! لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي لم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن، توفيرا للمتقين الخائفين ربّهم، فبأي نعم الله تكذبان؟! وقد زاد في وصف نساء الجنتين السابقتين بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي وهم في الجنة متكئون مستندون على وسائد خضراء، وبسط منقوشة بديعة فاخرة متقنة الصنع، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! وقد وصف الله مرافق الجنتين الأوليين بما هو أرفع وأولى من هذه الصفة، فإنه تعالى قال هناك:
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.
وختمت الصفات المتقدمة بقوله: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى مراتب العبادة.
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي تقدس وتنزه الله صاحب العزة والعظمة والتكريم على ما أنعم به على عباده المخلصين، فهو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.
ويلاحظ أنه قال سابقا بعد ذكر نعم الدنيا: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ للإشارة إلى فناء كل شيء من الممكنات، وقال بعد ذكر نعم الآخرة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ للإشارة إلى بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله متلذذين به.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- هناك أربع جنان ذات منازل مختلفة لمن خاف مقام ربّه، فجنتان للمقربين، ودونهما في المكان والفضل جنتان لأصحاب اليمين، كما قال ابن زيد، وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقرّبين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وعَيْنانِ تَجْرِيانِ وجنتان لأصحاب اليمين فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ويهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
وقد ذكرت ما رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة، أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، أبنيتهما وما فيهما».
٢- لما وصف الله الجنتين لكل فريق أشار إلى الفرق بينهما:
أولا- فقال في الأوليين: ذَواتا أَفْنانٍ أي ذواتا ألوان من الفاكهة، وقال في الأخريين: مُدْهامَّتانِ مخضرتان في غاية الخضرة من الري.
ثانيا- وقال في الأوليين: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ وفي الأخريين:
هِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أي فوّارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري.
ثالثا- وقال في الأوليين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فعمّ ولم يخص، وفي الأخريين: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولم يقل: من كل فاكهة.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف
على نفسه، إنما يعطف على غيره، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة ٢/ ٢٣٨]، وقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة ٢/ ٩٨].
وبناء على الرأي الأول قال أبو حنيفة: من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمّانا أو رطبا، لم يحنث. وخالفه صاحبه والجمهور.
رابعا- وقال في الأوليين: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ... وفي الأخريين:
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ يعني النساء، الواحدة خيرة، على معنى ذوات خير، وقرئ «خيّرات» والتي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، كما تقدم.
ووصفت الأوليان بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ.
ويلاحظ أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور: فِيهِنَّ وفي سائر المواضع: فِيهِما والسرّ في ذلك الإشارة إلى أن لكل حورية مسكنا على حدة، متباعدا عن مسكن الأخرى، متسعا يليق بالحال، وهذا ألذ وأمتع وأهنا للرجل الواحد عند تعدد النساء، فيحصل هناك متنزهات كثيرة، كل منها جنة، وكأن في ضمير الجمع إشارة لذلك. أما العيون والفواكه فلا حاجة فيها لهذا الاستقلال، فاكتفى فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط.
وهل الحور أكثر حسنا وأبهر جمالا من الآدميات؟ قيل: الحور، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة،
ولقوله ﷺ في دعائه على الميت في الجنازة:
«وأبدله زوجا خيرا من زوجه».
وقيل:
الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، لحديث روي مرفوعا «١».
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هنّ مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.
خامسا- وقال في الأوليين: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ..
وفي الأخريين: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ويلاحظ أن الوصف الأول أرفع وأفخم.
٣- كرر الله تعالى في هذه السورة قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إحدى وثلاثين مرة: ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه، وذكر المبدأ والمعاد، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها، استحق كلتا الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.
٤- نزّه الله تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله، وختم السورة به، والاسم (اسم الجلالة) مقحم على المشهور للتبرك والتعظيم كالوجه في قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ، وهذا لتعليم العباد بأن كل ما ذكر من آلاء ونعم من فضله ورحمته، وأن من عدله تعذيب العاصين، وإثابة الطائعين، فإنه افتتح السورة باسم الرَّحْمنُ فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيهم، ثم قال في آخر السورة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلم عباده أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله من اسم الرحمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعةمكيّة، وهي ست وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الواقعة، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا قامت القيامة التي لا بدّ من وقوعها.
مناسبتها لما قبلها:
تتصل هذه السورة بسورة الرحمن، وتتآخى معها من وجوه:
١- في كل من السورتين وصف القيامة والجنة والنار.
٢- ذكر تعالى في سورة الرحمن أحوال المجرمين وأحوال المتقين في الآخرة وبيّن أوصاف عذاب الأولين في النار، وأوصاف نعيم الآخرين في الجنان، وفي هذه السورة أيضا ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف: هم أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، فتلك السورة لإظهار الرحمة، وهذه السورة لإظهار الرهبة، على عكس تلك السورة مع ما قبلها.
٣- ذكر تعالى في سورة الرحمن انشقاق السماء (تصدعها) وذكر هنا رجّ الأرض، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما في الموضوع سورة واحدة، ولكن مع عكس الترتيب، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك. صفحة رقم 237
فافتتح سورة الرحمن بذكر القرآن ثم الشمس والقمر، ثم النبات، ثم خلق الإنسان والجان من نار، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وابتدئت هذه السورة بوصف القيامة وأهوالها، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم النجوم التي لم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم القرآن، فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.
ما اشتملت عليه السورة:
ابتدأت السورة بالحديث عن اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة، ثم صنفت الناس عند الحساب أقساما ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقين، وأخبرت عن مآل كل فريق وما أعده الله لهم من الجزاء العادل يوم القيامة.
وأوضحت أن الأولين والآخرين من الخلائق مجتمعون في هذا اليوم.
ثم أقامت الأدلة على وجود الله الخالق ووحدانيته وكمال قدرته، وإثبات البعث والنشور والحساب، من خلق الإنسان، وإخراج النبات، وإنزال الماء، وخلق قوة الإحراق في النار.
ثم أقسم الله عزّ وجلّ بمنازل النجوم على صدق تنزيل القرآن من ربّ العالمين، وأنه كان في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، وندد بالتشكيك في صحته وصدقه.
ولفت الله تعالى النظر إلى ما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال. وختمت السورة ببيان عاقبة الطوائف الثلاث وما يجدونه من جزاء، وهم المقرّبون الأبرار، السابقون إلى خيرات الجنان، وأهل اليمين السعداء، والمكذّبون الضالون أهل الشقاوة، وأن هذا الجزاء حق ثابت متيقن لا شك فيه.
وكل ذلك يستدعي الإقرار بوجود الخالق وتنزيهه عما لا يليق به من الشرك ونحوه، وتوبيخ المكذبين على إنكار وجود الله تعالى وتوحيده.
فضلها:
وردت أحاديث في فضل هذه السورة منها:
١-
أخرج الحافظ أبو يعلى وابن عساكر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا»
وفي رواية: «في كل ليلة».
٢-
أخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله ﷺ قال: «سورة الواقعة سورة الغنى، فاقرؤوها، وعلّموها أولادكم»
وأخرج الديلمي عنه مرفوعا: «علّموا نساءكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى».
٣- أخرج الإمام أحمد عن جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله ﷺ يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
٤-
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبت قال: «شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يَتَساءَلُونَ، وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»
وقال: حسن غريب.
٥-
أخرج الثعلبي وابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان، فقال:
ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال:
لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي