
وللإكرام هاهنا معنيان. أحدهما: إكرام الله تعالى أنبياءه فهو مكرمهم بلطفه مع جلاله وعظمته. والآخر: إن الإكرام بمعنى الإعظام من العبد لله بعبادته والثناء عليه بإحسانه وإنعامه. والأول معنى قول الحسن: الذي يكرم أهل دينه وولايته (١)، ومعنى قول الكلبي: الكريم على خلقه في عفوه عنهم، والثاني معنى قول ابن عباس: الذي لا أكرم منه ولا أجل ولا أعظم (٢).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ قال أبو صالح: يسأله من في السموات الرحمة، ويسأله من في الأرض المغفرة والرزق (٣).
وقال مقاتل وابن جريج: يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة، وتسأله الملائكة لهم أيضًا الرزق والمغفرة (٤) يدل على هذا قوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: ٥].
والوقف على (الأرض) حسن، لأن قوله ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ كلام
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٢١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧.
(٢) لم أقف عليه
(٣) وهو المروي عن ابن عباس أيضًا.
انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٨ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٢١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٦.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧، و"البحر المحيط" ٨/ ١٩٣.

آخر من نعت عظمته (١).
وقال الأخفش: لا يحسن الوقف على (الأرض) لاتصال معنى الآية وذلك أنه أخبر في النصف الأول من الآية من سؤال الخلق إياه، والسؤال (٢) مختلف؛ لأن كل أحد يسأل ما يهمه، ثم أخبر في آخر الآية أنه في شأن من إعطاء سؤلهم، وقضاء حوائجهم، وكفاية أشغالهم على ما يرى التدبير في ذلك.
وكل يوم ينتصب بالظرف؛ لقوله ﴿فِي شَأْنٍ﴾ وقال يعقوب: انتصب ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ بالسؤال، والمعنى: "سأله من في السموات والأرض كل يوم" وهاهنا الوقف، ثم قال ﴿هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ أي ربنا في شأن على ما يذكر من تفسير ذلك الشأن، وهذا قول غير بعيد.
قال أبو جعفر النحاس: وقال يعقوب ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ فهذا الوقف التام، ثم قال النحاس: أما قول يعقوب فمخالف لقول الذين شاهدوا التنزيل (٣).
والذي يوافق ما ذكره المفسرون أن يكون ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ ظرفًا لقوله ﴿هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ لأنهم قالوا: من شأنه أن يحيى ويميت، ويرزق ويمنع، وينصر ويعز ويذل، ويفك عانيا ويشفي مريضا، ويجيب داعيًا ويعطي سائلًا، ويتوب على قوم، ويكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء.
ذكر ذلك مجاهد، والكلبي، وعبيد بن عمير، وأبو ميسرة، وعطاء عن
(٢) في (ك): (وسؤال).
(٣) انظر: "القطع والائتناف" ص ٦٩٧ - ٦٩٨.

ابن عباس (١)، ومقاتل، وذكر السبب في نزوله، فقال: إن اليهود قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا فأنزل الله في ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (٢) ويؤكد ما ذكرنا ما روي عن عبد الله بن منيب (٣) أنه قال: تلا علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية فقلنا: "يا رسول الله: وما ذاك الشأن؟ قال: يغفر ذنبًا ويفرج كربًا، ويرفع قوماً، ويضع آخرين" (٤).
وانظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٨، و"العظمة" ٢/ ٤٧٩ - ٤٨٨، ونحو هذا روى أبو الدرداء عن النبي في -صلى الله عليه وسلم- قال الألباني بعد ذكره لطرق الحديث: حديث صحيح، ورجاله موثقون، وفي هشام كلام، لكنه توبع. انظر: "تخريج السنة" ١/ ١٣.
وذكر ابن كثير الرواية عن أبي ميسرة وعن غيره، ثم قال: دخل الكلام بعضهم في بعض وإسناد المؤلف -يعني أبا الشيخ- إلى أبي ميسرة صحيح. انظر: "تفسبر القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٣.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ ب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٨ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧.
(٣) عبد الله بن منيب؛ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ٥/ ١٥٢، وذكره ابن حجر في "الإصابة" ٣/ ٣٧٤، ونقل عنه ابن السكن أنه قال: عبد الله والد منيب له صحبة.
(٤) أخرجه الطبراني، والبزار، وابن أبي حاتم، قال البزار: لا أعلم أسند عبد الله بن منيب إلا هذا الحديث. "تخريجات الكشاف" ٤/ ١٦٢.
وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد" ٧/ ١١٧.
واستشهد به الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٦٢٣، لحديث أبي الدرداء. وتعقبه الألباني بقوله: عمرو بن بكر السكسكي متروك كما في "التقريب" ٢/ ٦٦. قلت: فيتعجب منه كيف اعتبره شاهدًا مع هذا الضعف الشديد. "ظلال الجنة في تخريج السنة" ١/ ١٣ فالحديث ضعيف جدًّا؛ لأن عمرو بن بكر متروك وفيه عدة مجاهيل. "العظة" بتحقيق المباركفوري ٢/ ٤٨٣.

ويزيده وضوحًا ما روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن مما خلق لله -عز وجل- لوحًا من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور ينظر الله -عز وجل- فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، ولا يشغله شأن عن شأن، فذلك قوله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (١).
ومعنى الشأن في اللغة: خطب له عِظَم، وجمعه شؤون.
قال أبو الجوزاء (٢) في هذه الآية: ولا يشغله شأن عن شأن (٣)،
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ٧٩، وأبو الشيخ في "العظمة" ٢/ ٤٩٢، ٤٩٦، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ٢/ ٢٦٤، ٤٢٦، موقوفاً على ابن عباس، كلهم عن أبي حمزة الثمالي، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" بسنده برقم (١٢٥١١) وبرقم ٥٠٦ موقوفاً على ابن عباس، ص ٢٩٣.
قال الألباني في تعليقه على الطحاوية: (إسناده يحتمل التحسين، فإن رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب، وهو الكوفي، قال فيه أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات" ٢/ ٣٢، وفي كتاب "العظمة" قال محققه بعد ذكره لطرق الحديث: وإذا ضم إلى هذا الطريق -أي طريق أبي الشيخ- الطرق التي أوردناها وفيها ما يحتمل التحسين يرتفع عنه الضعف ويصل درجة الحسن، و"العظمة" ٢/ ٤٩٤.
وفي موقع آخر قال: ولكن للحديث طريق أخرى تجعل إسناده حسنًا موقوفًا من كلام ابن عباس ٢/ ٤٩٧ وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقاته على "الطحاوية" ٢/ ٣٤٤، بعد ذكره لتخريج الطبراني له: وسنده حسن. وانظر: "مجمع الزوائد" ٧/ ١٩١.
(٢) في (ك): (الجزاء) وانظر. "الدر المنثور" ٦/ ١٤٣ - ١٤٤، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٤١٥، و"اللسان" ٢/ ٢٥٨ (شأن).