آيات من القرآن الكريم

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
ﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ

وَإِكْرَامَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْجَلَالِ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقْصِ وَفِي الْإِكْرَامِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيَّةِ وَصِفَاتِ الْجَمَالِ كَالْإِحْسَانِ.
وَتَفْرِيعُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ كَمَا عَلِمَتْ مِنْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُعَامَلَةَ خَلْقِهِ مُعَامَلَةَ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا تَصْدُرُ عَنْهُ السَّفَاسِفُ، الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَقْطَعُ إِنْعَامَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الآلاء الْعَظِيمَة.
[٢٨]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٨]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
تَكْرِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الْمَوْقِعُ يُنَادِي عَلَى أَنَّ لَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَن: ٢٦]، وَلَا أَنَّ جُمْلَةَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ تَتَضَمَّنُ نِعْمَةً إِذْ لَيْسَ فِي الفناء نعْمَة.
[٢٩]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٩]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
اسْتِئْنَافٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ تَنْقَرِضُ مِنْهُمْ أَجْيَالٌ وَتَبْقَى أَجْيَالٌ وَكَلُّ بَاقٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَسْبَابِ بَقَائِهِ وَصَلَاحِ أَحْوَالِهِ فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الَّذِي لَا يَفْنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا أَفْضَى الْإِخْبَارُ إِلَى حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَعَالَى أَتْبَعَ بِأَنَّ الْاِحْتِيَاجَ عَامٌّ أَهْلَ الْأَرْضِ وَأَهْلَ السَّمَاءِ. فَالْجَمِيعُ يَسْأَلُونَهُ، فَسُؤَالُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وَيَسْأَلُونَ رِضَى اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُمُ الْبَشَرُ يَسْأَلُونَهُ نِعَمَ الْحَيَاةِ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ. وَحذف مفعول يَسْئَلُهُ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُمْ وَمَهَامِّهِمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا.
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي يَسْئَلُهُ أَوْ تذييلا لجملة يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن من الشؤون

صفحة رقم 254

لِلسَّائِلِينَ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ تَعَالَى يبرم شؤونا مُخْتَلِفَةً مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ دَوَامًا، وَيَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا
بِالْاِسْتِقْرَارِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ فِي شَأْنٍ، وَقُدِّمَ عَلَى مَا فِيهِ مُتَعَلِّقُهُ لِلْاِهْتِمَامِ بِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ. وَالْمَعْنَى: فِي شَأْن من شؤون مِنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنِ اسْتِجَابَةِ سُؤْلٍ، وَمِنْ زِيَادَةٍ، وَمِنْ حِرْمَانٍ، وَمِنْ تَأْخِيرِ الْاِسْتِجَابَةِ، وَمِنْ تعويض عَن الْمَسْئُول بِثَوَابٍ، كَمَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ الدُّعَاءِ أَنَّ اسْتِجَابَتَهُ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠].
وَمَعْنَى فِي عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَقْوِيَة ثُبُوت الشؤون لِلَّهِ تَعَالَى وَهِي شؤون تَصَرُّفِهِ وَمَظَاهِرُ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفضل النَّيْسَابُورِي: «شؤون يبديها لَا شؤون يَبْتَدِيهَا».
ويَوْمٍ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْوَقْتِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، إِذِ الْمَعْنَى: كُلُّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ لَحُظَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْوَقْتَ الْخَاصَّ الَّذِي يَمْتَدُّ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ.
وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ وَنَحْوِهُ عَلَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: الدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ نُعُمٌ وَيَوْمٌ بُؤْسٌ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

وَإِنَّ غَدًا وَإِنَّ الْيَوْمَ رَهْنٌ وَبَعْدَ غَدٍ لِمَا لَا تَعْلَمِينَ
أَرَادَ الزَّمَانَ الْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَاضِرَ وَالْمُسْتَقْبَلَ الْبَعِيدَ وَإِلَّا فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ.
وَالشَّأْنُ: الشَّيْءُ الْعَظِيمُ وَالْحَدَثُ الْمُهِمُّ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَأَعْمَالٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى كُلُّ يَوْمٍ يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ»
، وَهُوَ تَعَالَى يَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ كُلُّ شَأْنٍ فَمَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الشَّأْنِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ مِنْ تَصَرُّفِهِ.
والظرفية المستعملة فِيهَا حَرْفِ فِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِشِدَّةِ التَّلَبُّسِ

صفحة رقم 255
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية