والمراد من هذا الأمر: الخبر. أى: فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط- عليه السلام-.
ثم بين- سبحانه- ما حل بهم من عذاب فقال: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ.... والبكرة: أول النهار وهو وقت الصبح، وجيء بلفظ بكرة للإشعار بتعجيل العذاب لهم، أى: والله لقد نزل بهم عذابنا في الوقت المبكر من الصباح نزولا دائما ثابتا مستقرا لا ينفك عنهم، ولا ينفكون عنه.. وقلنا لهم: ذوقوا عذابي، وسوء عاقبة تكذيبكم لرسولي لوط- عليه السلام-.
ثم ختم- سبحانه- قصتهم بما ختم به القصص السابقة فقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟.
قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولى عليهم الغفلة، وهذا حكم التكرير، كقوله:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن.
وكقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عند كل آية أوردها في سورة المرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.. «١».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان ما حل بفرعون وقومه، وبتحذير مشركي قريش من سوء عاقبة كفرهم، وببيان ما أعد لهم من عذاب يوم القيامة، وبتبشير المتقين بحسن العاقبة فقال- تعالى-:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤١ الى ٥٥]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
وقصة فرعون وملئه مع موسى- عليه السلام- قد تكررت في سور متعددة، منها سور:
الأعراف، ويونس، وهود، وطه، والشعراء، والقصص.
وهنا جاء الحديث عن فرعون وملئه في آيتين، بين- سبحانه- ما حل بهم من عذاب، بسبب تكذيبهم لآيات الله- تعالى-، فقال- سبحانه-: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ.
والمراد بآل فرعون: أقرباؤه وحاشيته وأتباعه الذين كانوا يؤيدونه ويناصرونه.
والنذر: جمع نذير، اسم مصدر بمعنى الإنذار، وجيء به بصيغة الجمع، لكثرة الإنذارات التي وجهها موسى- عليه السلام- إليهم.
أى: والله لقد جاء إلى فرعون وآله، الكثير من الإنذارات والتهديدات على لسان نبينا موسى- عليه السلام- ولكنهم لم يستجيبوا له...
بل كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها أى: بل كذبوا بجميع المعجزات التي أيدنا موسى- عليه السلام- بها، والتي كانت تدل أعظم دلالة على صدقه فيما يدعوهم إليه.
وأكد- سبحانه- هذه المعجزات بقوله، كلها للإشعار بكثرتها، وبأنهم قد أنكروها جميعا دون أن يستثنوا منها شيئا.
وقوله: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ بيان لشدة العذاب الذي نزل بهم إذ الأخذ
مستعار، للانتقام الشديد، وانتصاب أَخْذَ | على المفعولية المطلقة، وإضافته إلى «عزيز مقتدر» من إضافة المصدر إلى فاعله. |
أى: فأخذناهم أخذا لم يبق منهم أحدا، بل أهلكناهم جميعا، لأن هذا الأخذ صادر عن الله- عز وجل- الذي لا يغلبه غالب، ولا يعجزه شيء.
ووصف- سبحانه- ذاته هنا بصفة العزة والاقتدار، للرد على دعاوى فرعون وطغيانه وتبجحه، فقد وصل به الحال أن زعم أنه الرب الأعلى.. فأخذه- سبحانه- أخذ عزيز مقتدر، يحق الحق ويبطل الباطل.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن أخبار الطغاة الغابرين، التفتت السورة الكريمة بالخطاب إلى كفار مكة، لتحذرهم من سوء عاقبة الاقتداء بالكافرين، ولتدعوهم إلى التفكر والاعتبار، فقال- تعالى-: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ.
والاستفهام للنفي والإنكار، والمراد بالخيرية، الخيرية الدنيوية، كالقوة والغنى والجاه، والسلطان، والخطاب لأهل مكة.
والبراءة من الشيء: التخلص من تبعاته وشروره، والمراد بها التخلص من العذاب الذي أعده الله- تعالى- للكافرين، والسلامة منه.
والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب الذي يكتب فيه.
والمعنى: أكفاركم- يا أهل مكة- خير من أولئكم السابقين في القوة والغنى والتمكين في الأرض... ؟ أم أن لكم عندنا عهدا في كتبنا، بأن لا نؤاخذكم على كفركم وشرككم... ؟
كلا، ليس لكم شيء من ذلك فأنتم لستم بأقوى من قوم نوح وهود وصالح ولوط، أو من فرعون وملئه، وأنتم- أيضا- لم تأخذوا منا عهدا بأن نبرئكم من العقوبة عن كفركم..
وما دام الأمر كذلك فكيف أبحتم لأنفسكم الإصرار على الكفر والجحود؟ إن ما أنتم عليه من شرك لا يليق بمن عنده شيء من العقل السليم.
ثم انتقل- سبحانه- إلى توبيخهم على شيء آخر من أقوالهم الباطلة فقال: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. أى. بل أيقولون نحن جميع يد واحدة، وسننتصر على من خالفنا وعادانا؟ ولقد توهموا ذلك فعلا، وجاهروا به.
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يبطل دعاواهم فقال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ والتعريف في الْجَمْعُ للعهد، والدبر: الظهر وما أدبر من المتجه إلى الأمام. صفحة رقم 118
أى: سيهزم جمع هؤلاء الكافرين ويولون أدبارهم نحوكم- أيها المؤمنون- ويفرون من أمامكم..
والتعبير بالسين لتأكيد أمر هزيمتهم في المستقبل القريب، كما في قوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
والآية الكريمة من باب الإخبار بالغيب، الدال على إعجاز القرآن الكريم.
قال الآلوسى: والآية من دلائل النبوة، لأن الآية مكية، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد، ولا كان قتال، ولذا قال عمر يوم نزلت: أى جمع يهزم، أى: من جموع الكفار. فلما كان يوم بدر، رأيت رسول الله ﷺ يثب في الدرع وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فعرفت تأويلها يومئذ.. «١».
ثم بين- سبحانه- أن هزيمة المشركين ستعقبها هزيمة أشد منها، وأنكى فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ.
والمراد بالساعة، يوم القيامة «وأدهى» : اسم تفضيل من الداهية، وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يعرف طريق للخلاص منه.
وقوله وَأَمَرُّ أى: وأشد مرارة وقبحا. أى: ليس هذا الذي يحصل لهم في الدنيا من هزائم نهاية عقوباتهم، بل يوم القيامة هو يوم نهاية وعيدهم السيئ، ويوم القيامة هو أعظم داهية، وأشد مرارة مما سيصيبهم من عذاب دنيوى.
ثم فصل- سبحانه- ما سينزل بهم من عذاب يوم القيامة فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. أى: في بعد عن الاهتداء إلى الحق بسبب انطماس بصائرهم، وإيثارهم الغي على الرشد، وفي نار مسعرة تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم.
ويقال لهم يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ أى: يوم يجرّون في النار على وجوههم، على سبيل الإهانة والإذلال.
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أى: ويقال لهم: ذوقوا مس جهنم التي كنتم تكذبون بها، وقاسوا آلامها وعذابها.
فقوله- تعالى-: سَقَرَ علم على جهنم، مأخوذ من سقرت الشمس الشيء وصقرته، إذا غيرت معالمه وأذابته، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك مظاهر كمال قدرته وحكمته فقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
وقوله: كُلَّ منصوب بفعل يفسره ما بعده، والقدر: ما قدره الله- تعالى- على عباده، حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.
أى: إنا خلقنا كل شيء في هذا الكون، بتقدير حكيم، وبعلم شامل، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب، كما قال- تعالى-: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ، وكما قال- سبحانه-: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وكما قال- عز وجل-: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وقد استدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة، على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه بالأشياء قبل كونها. وردوا بهذه الآية وبما شاكلها، وبما ورد في معناها من أحاديث على الفرقة القدرية، الذين ظهروا في أواخر عصر الصحابة.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة قال: جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر، فنزلت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «١».
والباء في قوله بِقَدَرٍ للملابسة. أى: خلقناه ملتبسا بتقدير حكيم، اقتضته سنتنا ومشيئتنا في وقت لا يعلمه أحد سوانا...
وقوله- سبحانه-: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ بيان لكمال قدرته- تعالى-.
واللمح: النظر السريع العاجل الذي لا تريث معه ولا انتظار، يقال: لمح فلان الشيء إذا أبصره بنظر سريع... وقوله: واحِدَةٌ صفة لموصوف محذوف.
أى: وما أمرنا وشأننا في خلق الأشياء وإيجادها، إلا كلمة واحدة وهي قول: «كن» فتوجد هذه الأشياء كلمح البصر في السرعة.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
والمراد بهذه الآية وأمثالها: بيان كمال قدرة الله- تعالى- وسرعة إيجاده لكل ما يريد
إيجاده، وتحذير الظالمين من العذاب الذي متى أراده الله- تعالى- فلن يدفعه عنهم دافع، بل سيأتيهم كلمح البصر في السرعة.
والتعبير بقوله: واحِدَةٌ لإفادة أن كل ما يريد الله- تعالى- إيجاده فسيوجد في أسرع وقت، وبكلمة واحدة لا بأكثر منها، سواء أكان ذلك الموجود جليلا أم حقيرا، صغيرا أم كبيرا...
ثم بين- سبحانه- ما يدل على نفاذ هذه القدرة وسرعتها فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
والأشياع: جمع شيعة، وشيعة الرجل: أعوانه وأنصاره، وكل جماعة من الناس اتفقت في رأيها فهم شيعة. قالوا: وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار، حتى تشتعل النار. والمراد به هنا: الأشباه والنظائر.
أى: والله لقد أهلكنا أشباهكم ونظائركم في الكفر من الأمم السابقة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، واتعظوا بما نزل بهم من عقاب.
فالمقصود بالآية الكريمة التهديد والتحذير. والاستفهام فيها للحض على الاتعاظ والاعتبار.
ثم بين- سبحانه- أن كل ما يعمله الإنسان. هو مسجل عليه، فقال: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. أى: وكل شيء فعله هؤلاء المشركون وغيرهم، مكتوب ومحفوظ في كتب الحفظة، ومسجل عليهم لدى الكرام الكاتبين، بدون زيادة أو نقصان..
كما قال- تعالى- بعد ذلك: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أى: وكل صغير من الأقوال أو الأفعال، وكل كبير منهما، فهو مكتوب عندنا، ومسجل على صاحبه.
فقوله: مُسْتَطَرٌ بمعنى مسطور ومكتتب. يقال: سطر يسطر سطرا، إذا كتب، واستطر مثله، والآية الكريمة مؤكدة لما قبلها.
ومن الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «١».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بتلك البشارة العظيمة للمتقين فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
أى: إن المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل محارم الله- تعالى- كائنين في جنات عاليات المقدار، وفي نَهَرٍ أى: وفي سعة من العيش، ومن مظاهر ذلك أن الأنهار الواسعة تجرى من تحت مساكنهم، فالمراد بالنهر جنسه.
وقوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أى: في مكان مرضى، وفي مجلس كريم، لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة، فالمراد بالمقعد مكان القعود الذي يقيم فيه الإنسان بأمان واطمئنان.
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أى: مقربين عند ملك عظيم، قادر على كل شيء.
فالمراد بالعندية هنا، عندية الرتبة والمكانة والتشريف.
وقال- سبحانه- عند مليك، للمبالغة في وصفه- سبحانه- بسعة الملك وعظمته، إذ وصفه- سبحانه- بمليك، أبلغ من وصفه بمالك أو ملك، لأن مَلِيكٍ صيغة مبالغة بزنة فعيل.
وتنكير «مقتدر» للتعظيم والتهويل، وهو أبلغ من قادر، إذ زيادة المبنى تشعر بزيادة المعنى. أى: عظيم القدرة بحيث لا يحيط بها الوصف.
وبعد فهذا تفسير محرر لسورة «القمر» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
الدوحة- قطر مساء الأربعاء ٢ من رجب سنة ١٤٠٦ هـ ١٢/ ٣/ ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى
تفسير سورة الرّحمن
صفحة رقم 123
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة «الرحمن» سميت بهذا الاسم، لافتتاحها بهذا الاسم الجليل من أسماء الله- تعالى-.
وقد وردت تسميتها بهذا الاسم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه فقرأ عليهم سورة «الرحمن» من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قرأتها على الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله- تعالى-: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: ولا بشيء من نعمك يا ربنا نكذب فلك الحمد» «١».
وسميت في حديث مرفوع أخرجه البيهقي عن على بن أبى طالب- رضى الله عنه:
«عروس القرآن».
وقد ذكروا في سبب نزولها، أن المشركين عند ما قالوا: وَمَا الرَّحْمنُ نزلت هذه السورة لترد عليهم، ولتثنى على الله- تعالى- بما هو أهله.
٢- وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وروى عن ابن مسعود وابن عباس أنها مدنية، وقيل هي مكية إلا قوله- تعالى-: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ....
قال القرطبي: والقول الأول أصح، لما روى عن عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي ﷺ عبد الله بن مسعود.
وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهم إياه؟
فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: نخشى عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى، ثم قام عند المقام فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ... ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟
قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.. وفي هذا دليل على أنها مكية.. «١».
والحق أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي من كون سورة الرحمن مكية، هو ما تطمئن إليه النفس، لأن السورة من أولها إلى آخرها فيها سمات القرآن المكي، الذي يغلب عليه الحديث المفصل عن الأدلة على وحدانية الله وقدرته وعظم نعمه على خلقه، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخبار، وسوء عاقبة الأشرار...
٣- وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في المصحف الحجازي، وست وسبعون في المصحف البصري.
٤- وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على الله- تعالى-، ثم بالثناء على القرآن الكريم، ثم ببيان جانب من مظاهر قدرة الله- تعالى-، ومن جميل صنعه، وبديع فعله.. قال- تعالى-: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ.
٥- وبعد أن ساق- سبحانه- ما ساق من ألوان النعم، أتبع ذلك ببيان أن كل من على ظهر هذه الأرض مصيره إلى الفناء، وأن الباقي هو وجه الله- تعالى- وحده... وببيان أهوال القيامة، وسوء عاقبة المكذبين وحسن عاقبة المؤمنين..
قال- تعالى-: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ.
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. ذَواتا أَفْنانٍ.
٦- ثم وصفت ما أعده الله- تعالى- للمتقين وصفا يشرح الصدور، ويقر العيون، فقد أعد- سبحانه- لهم بفضله وكرمه الحور العين، والفرش التي بطائنها من إستبرق.
قال- تعالى-: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ.
وهكذا نرى السورة الكريمة تطوف بنا في آفاق هذا الكون، فتحكى لنا من بين ما تحكى- جانبا من مظاهر قدرة الله- تعالى- ونعمه على خلقه- وتقول في أعقاب كل نعمة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وتتكرر هذه الآية فيها إحدى وثلاثين مرة، لتذكير الجن والإنس بهذه النعم كي يشكروا الله- تعالى- عليها شكرا جزيلا.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا جميعا من عباده الشاكرين عند الرخاء، الصابرين عند البلاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
قطر- الدوحة مساء الأربعاء ٢ من رجب ١٤٠٦ هـ ١٢/ ٣/ ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى