وقوله:
بمطرد لدن صحاح كعوبه... وذي رونق عضب يقد القوانسا
وقال الجمهور: الإفراد أولى والقياس معهم، وعليه قوله:
ورجال حسن أوجههم... من إياد بن نزار بن معد
وقيل: إن تبع مفردا فالإفراد أولى- كرجل قائم غلمانه- وإن تبع جمعا فالجمع أولى- كرجال قيام غلمانهم- وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلونى البراغيث وجوز أن يكون في خُشَّعاً ضمير مستتر، وأَبْصارُهُمْ بدلا منه، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي- خاشعا- بالإفراد، وقرأ أبيّ وابن مسعود «خاشعة» وقرىء «خشع» على أنه خبر مقدم، وأَبْصارُهُمْ مبتدأ، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ حال أيضا وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل، وقيل: يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب.
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين إليه قال أبو عبيدة: وزاد بعضهم مادّي أعناقهم، وآخر مع هز ورهق ومدّ بصر، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشد البيت، وقيل: خافضين ما بين أعينهم، وقال سفيان: شاخصة أبصارهم إلى السماء، وقيل: أصل الهطع مد العنق، أو مد البصر، ثم يكنى به عن الإسراع، أو عن النظر والتأمل فلا تغفل، يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه، وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنبياء الموجبة للازدجار ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى: فَما تُغْنِ النُّذُرُ والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح: وقوله تعالى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ [هود: ٤٥] إلخ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل، والفاء عليه سببية، وقيل: معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته، ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله:
وقد جبر الدين الإله فجبر وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.
وَقالُوا مَجْنُونٌ أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وَازْدُجِرَ عطف على- قالوا- وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد، وقرأ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: ١١٦] وقال مجاهد: هو من تمام قولهم أي هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبّه وتخبطته، والأول أظهر وأبلغ، وجعل مبنيا للمفعول لغرض الفاصلة، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي- ورويت عن عاصم- «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين مَغْلُوبٌ من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم، وقيل: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، وقيل: المراد- بمغلوب- غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب، وقيل: كثير قال الشاعر:
أعيناي جودا بالدموع الهوامر | على خير باد من معد وحاضر |
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماءان، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة! والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا، والله تعالى أعلم.
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب «ففتحنا» بالتشديد لكثرة الأبواب، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير، فالتمييز محول عن المفعول، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناء على أنه الأكثر، الأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق- وهذا منه- وهو تكلف لا حاجة إليه، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب عُيُوناً حالا مقدرة، وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يوما، وقرأ عبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم «فجرنا» بالتخفيف فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض، والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمد بن كعب والجحدري- الماءان- والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا صفحة رقم 81
فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض، ونحوه قوله:
لنا إبلان فيهما ما علمتم | فعن أيها ما شئتم فتنكبوا |
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي كائنا على حال قد قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.
وقيل: إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملا أربعين، وقيل: ما الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز وجل، أو على أمر قدره الله تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء، وعَلى عليه للتعليل، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «قدّر» بتشديد الدال وَحَمَلْناهُ أي نوحا عليه السلام عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة وَدُسُرٍ أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب، وقيل: دُسُرٍ كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمي به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل: حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث: خيوط تشد بها ألواحها، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها.
وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيا ما كان فقوله تعالى: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر:
مفرشي صهوة الحصان ولكن | قميصي مسرودة من حديد |
تراءى لها في كل عين مقابل | ولو في عيون النازيات بأكرع |
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته، وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير صفحة رقم 82
واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضا أي جحدت نبوته، فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة، وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل: غضبا وانتصارا لله عز وجل وهو كما ترى، وقرأ مسلمة بن محارب- كفر- بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله:
لو عصر منه البان والمسك انعصر وقرأ يزيد بن رومان وقتادة وعيسى «كفر» مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة، وجوز أن تكون كانَ زائدة كأنه قيل: جزاء لمن كُفِرَ ولم يؤمن وَلَقَدْ تَرَكْناها أي أبقينا السفينة آيَةً بناء على ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن، أو- تركنا- بمعنى جعلنا، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية- مذكر- بالذال المعجمة على قلب تاء الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال، وقال صاحب اللوامح: قرأ قتادة فهل من- مذكر- بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها، وقرىء مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، والنذر- مصدر كالإنذار، وقيل: جمع نذير بمعنى الإنذار، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه، وليس بشيء، وكذا جعله بمعنى المنذر، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ إلخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحنّاه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد لِلذِّكْرِ أي للتذكر والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، وقيل: المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن، وأخرج ابن المنذر، وجماعة عن مجاهد أنه قال: يسرنا القرآن. هونّا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال:
لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ والمعنى الذي ذكر أولا أنسب بالمقام، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية، وجوز تفسير يَسَّرْنَا بهيأنا من قولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر:
وقمت إليه باللجام ميسرا | هنالك يجزيني الذي كنت أصنع |
ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف، والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب، وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل: كَذَّبَتْ عادٌ فهل سمعتم، أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم، وقيل: هو للتهويل أيضا لغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذا النوع من العذاب، وفيه بحث، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً استئناف لبيان ما أجمل أولا، والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك، وقيل: شديد الصوت وتمام الكلام قد مر في «فصلت».
فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ ذلك الشؤم لأنهم بعد أن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة، والمراد باليوم مطلق الزمان لقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: ١٦]، وقوله سبحانه: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧] المشهور أنه يوم الأربعاء وكان آخر شوّال على معنى أن ابتداء إرسال الريح كان فيه فلا ينافي آيتي «فصلت» و «الحاقة».
وجوز كون مُسْتَمِرٍّ صفة يوم أي في يوم استمر عليهم حتى أهلكهم، أو شمل كبيرهم وصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة على أن الاستمرار بحسب الزمان أو بحسب الأشخاص والأفراد لكن على الأول لا بد من تجوز بإرادة استمرار نحسه، أو بجعل اليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر، وجوز كون مُسْتَمِرٍّ بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له، وجوز كونه بدلا، أو عطف بيان وهو كما ترى، وقرأ الحسن «يوم نحس» بتنوين يوم وكسر حاء نحس، وجعله صفة ليوم فيتعين كون مُسْتَمِرٍّ صفة ثانية له، وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ بذلك كثير من الناس فتطيروا منه وتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له:
أربعاء لا تدور، وعليه قوله:
لقاؤك للمبكر فأل سوء | ووجهك- أربعاء لا تدور- |
لخبر ابن حيان والديلمي عن جابر مرفوعا «من غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال: سبحان الباعث الوارث أتته أكلها»
نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك،
ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا «لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء، وأحب الأيام إليّ الشخوص فيها يوم الخميس»
وهو غير معلوم الصحة عندي.
وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس. وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعا يوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحد يوم غرس وبناء ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس. ويوم الأربعاء لا أخذ ولا صفحة رقم 84
عطاء. ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان. والجمعة يوم خطبة ونكاح، وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف، وروى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا
وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء»
وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص
، وكره بعضهم عيادة المرضى فيه، وعليه قيل:
لم يؤت في الأربعاء مريض | إلا دفناه في الخميس |
أجل لكن- بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر- ونقل المناوي عن البحر أن أخباره عليه الصلاة والسلام عن نحوسه آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليس من الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أي احذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلهم، وهذا كما قال حين أتى الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك، وحكي أيضا عن بعضهم أنه قال: التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء في مصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه لما كرهته النفس لا اقتفاءا للتطير ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه لمن يشاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ونقل عن الحليمي أنه قال: علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا، ويقابل النحس السعد وإذا ثبت الأول ثبت الثاني أيضا، فالأيام منها نحس ومنها سعد كالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد، ولكن زعم أن الأيام والكواكب تنحس أو تسعد باختيارها أوقاتا وأشخاصا باطل، والقول- إن الكواكب قد تكون أسبابا للحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده- مما لا بأس به. ثم قال المناوي: والحاصل أن توقي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ومن تطير حاقت به نحوسته، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل:
تعلم أنه لا طير إلا | على متطير وهو الثبور |
ألا إنما الأيام أبناء واحد | وهذي الليالي كلها أخوات |