
وقوله: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي في المعتقدات المواضع التي يريد الإنسان أن يحرر ما يعقل ويعتقد فإنها مواضع حقائق لا تنفع الظنون فيها، وأما في الأحكام وظواهرها فيجتزى فيها بالظنونات، ثم سلى تعالى نبيه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكفرة، وما في الآية من موادعتهم منسوخ بآية السيف.
وقوله: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا معناه لا يصدق بغيرها، فسعيه كله وعمله إنما هو لدنياه.
وقوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ معناه هنا انتهى تحصيلهم من المعلومات، وذلك أن المعلومات منها ما هي معقولات نافعة في الآخرة، ومنها ما هي أمور فانية وأشخاص بادية كالفلاحة وكثير من الصنائع وطلب الرئاسة على الناس بالمخرقة، فكلها معلومات ولها علم ومبلغ الكفرة إنما هو في هذه الدنياويات.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ الآية تصل بمعنى التسلية في قوله: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ الآية، ووعيد للكفار ووعد للمؤمنين، وأسند الضلالة والهدى إليهم بكسبهم وإن كان الجميع خلقا له واختراعا، واللام في قوله: لِيَجْزِيَ متعلقة بقوله: ضَلَّ وبقوله:
اهْتَدى فكأنه قال: ليصير أمرهم جميعا إلى أن يجزى.
وقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اعتراض بين الكلام بليغ، وقال بعض النحويين اللام متعلقة بما في المعنى من التقدير، لأن تقديره: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يضل من يشاء ويهدي من يشاء لِيَجْزِيَ والنظر الأول أقل تكلفا من هذا الإضمار. وقال قوم: اللام متعلقة في أول السورة:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٤] وهذا بعيد، و: (الحسنى) هي الجنة ولا حسنى دونها.
وقوله عز وجل:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٢ الى ٣٨]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦)
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
قوله: الَّذِينَ نعت ل الَّذِينَ [النجم: ٣١] المتقدم قبله، و: يَجْتَنِبُونَ معناه: يدعون جانبا. وقرأ جمهور القراء والناس: «كبائر الإثم» وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي: «كبير الإثم» على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقوله: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: ١٠٠]، وكقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩] ونحو هذا.
واختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في

الأحاديث وقد مضى القول في ذكرها واختلاف الأحاديث فيها في سورة النساء. وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا، أو توعد بنار في الآخرة، أو لعنة ونحو هذا خاصا بها فهي كثيرة العدد، ولهذا قال ابن عباس حين قيل له أسبع هي؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال زيد بن أسلم: «كبير الإثم» هنا يراد به: الكفر. والْفَواحِشَ هي المعاصي المذكورة.
وقوله: إِلَّا اللَّمَمَ هو استثناء يصح أن يكون متصلا، وإن قدرته منقطعا ساغ ذلك، واختلف في معنى اللَّمَمَ فقال ابن عباس وابن زيد معناه: ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام. قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه: إن سبب الآية أن الكفار قالوا للمسلمين: قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا، فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] وقال ابن عباس وغيره: ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه، ذكر الطبري عن الحسن أنه قال في اللمة: من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كالذي قبله، فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي، وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم: اللَّمَمَ صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصا بها مذكورا لها، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها، ويعضد هذا القول، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة، فزنى العين: النظر، وزنى اللسان: المنطق، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان، وإلا فهو اللمم». وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر. وتظاهر العلماء في هذا القول، وكثر المائل إليه. وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال:
اللَّمَمَ ما دون الشرك، وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو. وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي: اللَّمَمَ ما دون الزنا. وقال نفطويه: اللَّمَمَ ما ليس بمعتاد. وقال الرماني: اللَّمَمَ الهم بالذنب وحديث النفس به دون أن يواقع. وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب: أنه ما خطر على القلب، وذلك هو لمة الشيطان. قال الزهراوي وقيل: اللَّمَمَ نظرة الفجأة، وقاله الحسين بن الفضل. ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
وقوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية، روي عن عائشة أنها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله، ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة، فنزلت الآية فيهم، ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر، وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم، وقوله: أَعْلَمُ بِكُمْ قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه: هو عالم بكم. وقال

جمهور أهل المعاني: بل هو التفضيل بالإطلاق، أي هو أعلم من الموجودين جملة، والعامل في إِذْ أَعْلَمُ، وقال بعض النحاة العامل فيه فعل مضمر تقديره: اذكروا إذ، والمعنى الأول أبين، لأن تقديره:
فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون، والإنشاء من الأرض: يراد به خلق آدم عليه السلام، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء. و: أَجِنَّةٌ جمع جنين.
وقوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه، ويحتمل أن يكون نهيا عن أن يزكي بعض الناس بعضا وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته. وأما تزكية الإمام والقدرة أحدا ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز، وقد زكى رسول الله ﷺ بعض أصحابه أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها، وأصل التزكية إنما هو التقوى، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم.
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآية، قال مجاهد وابن زيد وغيرهما نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أنه سمع قراءة النبي ﷺ وجلس إليه ووعظه رسول الله، فقرب من الإسلام، وطمع النبي عليه السلام فيه، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، فنزلت الآية فيه. وذكر الثعلبي عن قوم أنها نزلت في عثمان بن عفان في قصة جرت له مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح وذلك كله عندي باطل، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله، وقال السدي: نزلت في العاصي بن وائل، فقوله: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، وعلى هذا القول في المال، وقال مقاتل بن حيان في كتاب الثعلبي المعنى: وأعطى من نفسه قليلا من قربه من الإيمان ثم أَكْدى أي انقطع ما أعطى، وهذا بين من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية. و: تَوَلَّى معناه: أدبر وأعرض ومعناه عن أمر الله. وَأَكْدى معناه: انقطع عطاؤه وهو مشبه بالحافر في الأرض، فإذا انتهى إلى كدية، وهي ما صلب من الأرض وقف وانقطع حفره، وكذلك أجبل الحافر إذ انتهى إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع عمله: أكدى وأجبل.
وقوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى معناه: أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وهو له فيه بصيرة أم هو جاهل لم ينبأ أي يعلم ما في صحف موسى وهي التوراة وفي صحف إبراهيم وهي كتب نزلت عليه من السماء من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، وإنما يؤخذ كل واحد بذنوب نفسه، أي فلما كان جاهلا بهذا وقع في عطاء ماله للذي قال له: إني أتحمل عنك درك الآخرة.
واختلف المفسرون في معنى قوله: وَفَّى ما هو الموفى؟ فقال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي في القتل ونحوه فوفى إبراهيم وبلغ هذا الحكم من أنه لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وقال ابن عباس أيضا والربيع: وفى طاعة الله في أمر ذبح ابنه. وقال الحسن وابن جبير وقتادة وغيره، وفى