آيات من القرآن الكريم

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

مَسْأَلَةٍ يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهَا بِالْإِيمَانِ فَكَانَ الِاهْتِدَاءُ الْيَقِينِيُّ هُوَ الِاهْتِدَاءُ الْمُطْلَقُ فَقَالَ بِمَنِ اهْتَدى وقال بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: ٧] ثم قال تعالى:
[سورة النجم (٥٣) : آية ٣١]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)
إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ غِنَاهُ وَقُدْرَتِهِ لِيَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقُولَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مِنَ الْغَنِيِّ الْقَادِرِ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَقْدِرْ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْجَزَاءُ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقَدُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النَّحْلِ: ٨] وَهُوَ جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ خَلَقَ مَا فِيهِمَا لِغَرَضِ الْجَزَاءِ وَهُوَ لَا يَتَحَاشَى مِمَّا ذَكَرَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [الْقَصَصِ: ٨] أَيْ أَخَذُوهُ وَعَاقِبَتُهُ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ عَدُوًّا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ حَتَّى وَلَامَ الْغَرَضِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْغَرَضَ نهاية الفعل، وحتى لِلْغَايَةِ الْمُطْلَقَةِ فَبَيْنَهُمَا مُقَارَبَةٌ فَيُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، يُقَالُ: سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَهَا وَلِكَيْ أَدْخُلَهَا، فَلَامُ الْعَاقِبَةِ هِيَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ حَتَّى لِلْغَايَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُنَا وَجْهٌ أَقْرَبُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَخْفَى مِنْهُمَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: لِيَجْزِيَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ضَلَّ وَاهْتَدَى لَا بِالْعِلْمِ وَلَا بِخَلْقِ ما في السموات، تَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ وَاهْتَدَى: لِيَجْزِيَ أَنَّ مَنْ ضَلَّ وَاهْتَدَى يُجْزَى الْجَزَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي/ السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كَلَامًا مُعْتَرِضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تعالى: فَأَعْرِضْ [النجم: ٢٩] أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ، كَمَا يَقُولُ المريد فعلا لمن يمنعه منه زرني لِأَفْعَلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا دَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم لم ييأس مَا كَانَ الْعَذَابُ يَنْزِلُ وَالْإِعْرَاضُ وَقْتَ الْيَأْسِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى حِينَئِذٍ يَكُونُ مَذْكُورًا لِيَعْلَمَ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي عِنْدَ إِعْرَاضِهِ يَتَحَقَّقُ لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: ٢٥] بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا وَغَيْرُهُمْ لَهُمُ الْحُسْنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُسِيءِ بِما عَمِلُوا وَفِي حَقِّ الْمُحْسِنِ بِالْحُسْنَى فِيهِ لَطِيفَةٌ لِأَنَّ جَزَاءَ الْمُسِيءِ عَذَابٌ فَنَبَّهَ عَلَى مَا يَدْفَعُ الظُّلْمَ فَقَالَ: لَا يُعَذِّبُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَأَمَّا فِي الْحُسْنَى فَلَمْ يَقُلْ:
بِمَا عَمِلُوا لِأَنَّ الثَّوَابَ إِنْ كَانَ لَا عَلَى حَسَنَةٍ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْفَضْلِ فَلَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى هَذَا إِذَا قُلْنَا الْحُسْنَى هِيَ الْمَثُوبَةُ بِالْحُسْنَى، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا الْأَعْمَالُ الْحُسْنَى فَفِيهِ لَطِيفَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا التَّسَاوِي، وَقَالَ فِي أَعْمَالِ الْمُحْسِنِينَ الْحُسْنَى إِشَارَةً إِلَى الْكَرَمِ وَالصَّفْحِ حَيْثُ ذَكَرَ أَحْسَنَ الِاسْمَيْنِ وَالْحُسْنَى صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بِالْأَعْمَالِ الْحُسْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْأَعْرَافِ: ١٨٠] وَحِينَئِذٍ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت: ٧] أَيْ يَأْخُذُ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ وَيَجْعَلُ ثَوَابَ كُلِّ مَا وُجِدَ مِنْهُمْ لِجَزَاءٍ ذَلِكَ الْأَحْسَنِ أَوْ هِيَ صِفَةُ الْمَثُوبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى أَوْ بِالْعَاقِبَةِ الْحُسْنَى أَيْ جَزَاؤُهُمْ حَسْنُ الْعَاقِبَةِ وَهَذَا جَزَاءٌ فَحَسْبُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ الْفَضْلُ بَعْدَ الْفَضْلِ فَغَيْرُ داخلة فيه.
[سورة النجم (٥٣) : آية ٣٢]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)

صفحة رقم 268

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ (الَّذِينَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمُحْسِنَ لَيْسَ يَنْفَعُ اللَّهَ بِإِحْسَانِهِ شَيْئًا وَهُوَ الَّذِي لَا يُسِيءُ وَلَا يَرْتَكِبُ الْقَبِيحَ الَّذِي هُوَ سَيِّئَةٌ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رَبِّهِ فَالَّذِينَ أَحْسَنُوا هُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَلَهُمُ الْحُسْنَى، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يَكُونُ مُسِيئًا وَالَّذِي يَجْتَنِبُهَا يَكُونُ مُحْسِنًا، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُحْسِنَ لَمَّا كَانَ هُوَ مَنْ يَجْتَنِبُ الْآثَامَ فَالَّذِي يَأْتِي بِالنَّوَافِلِ يَكُونُ فَوْقَ الْمُحْسِنِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُحْسِنَ بِالزِّيَادَةِ فَالَّذِي فَوْقَهُ يَكُونُ لَهُ زِيَادَاتٌ فَوْقَهَا وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ تَقْدِيرُهُ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ مَا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةً لِحَالِ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ وَحَالِ مَنْ لم يحسن ولم يسيء وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَكِبُوا سَيِّئَةً وَإِنْ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمُ الْحَسَنَاتُ، وَهُمْ كَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يُوجَدُ فِيهِمْ شَرَائِطُ التَّكْلِيفِ وَلَهُمُ الْغُفْرَانُ وَهُوَ دُونَ الْحُسْنَى، وَيَظْهَرُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ أَيْ يَعْلَمُ الْحَالَةَ الَّتِي لَا إِحْسَانَ فِيهَا وَلَا/ إِسَاءَةَ، كَمَا عَلِمَ مَنْ أَسَاءَ وَضَلَّ وَمَنْ أَحْسَنَ وَاهْتَدَى، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ بَدَلًا عَنِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا فَلِمَ خَالَفَ مَا بَعْدَهُ بِالْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ حَيْثُ قَالَ تعالى:
الَّذِينَ أَحْسَنُوا [النجم: ٣١] وَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ وَلَمْ يَقُلِ اجْتَنَبُوا؟ نَقُولُ: هُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ الَّذِينَ سَأَلُونِي أَعْطَيْتُهُمْ، الَّذِينَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيَّ سَائِلِينَ أَيِ الَّذِينَ عَادَتُهُمُ التَّرَدُّدُ وَالسُّؤَالُ سَأَلُونِي وَأَعْطَيْتُهُمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ أَيِ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ وَدَأْبُهُمُ الِاجْتِنَابُ لَا الَّذِينَ اجْتَنَبُوا مَرَّةً وَقَدِمُوا عَلَيْهَا أُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ:
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ قَالَ فِي الْكَبَائِرِ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشُّورَى: ٣٧] وَقَالَ فِي عُبَّادِ الطَّاغُوتِ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ [الزُّمَرِ: ١٧] فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ: عِبَادَةُ الطَّاغُوتِ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاعْتِقَادِ وَالِاعْتِقَادُ إِذَا وُجِدَ دَامَ ظَاهِرًا فَمَنِ اجْتَنَبَهَا اعْتَقَدَ بُطْلَانَهَا فَيَسْتَمِرُّ، وَأَمَّا مَثَلُ الشُّرْبِ وَالزِّنَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فَيَتْرُكُهُ زَمَانًا وَيَعُودُ إِلَيْهِ وَلِهَذَا يُسْتَبْرَأُ الْفَاسِقُ إِذَا تَابَ وَلَا يُسْتَبْرَأُ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ، فَقَالَ فِي الْآثَامِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ دَائِمًا، وَيُثَابِرُونَ عَلَى التَّرْكِ أَبَدًا، وفي عبادة الأصنام: فَاجْتَنِبُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْحُصُولِ، وَلِأَنَّ كَبَائِرَ الْإِثْمِ لَهَا عَدَدُ أَنْوَاعٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ نَوْعٍ وَيَجْتَنِبَ عَنْ آخَرَ وَيَجْتَنِبَ عَنْ ثَالِثٍ فَفِيهِ تَكَرُّرٌ وَتَجَدُّدٌ فَاسْتُعْمِلَ فِيهِ صِيغَةُ الِاسْتِقْبَالِ، وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ أَمْرٌ وَاحِدٌ مُتَّحِدٌ، فَتَرَكَ فِيهِ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ وَأَتَى بِصِيغَةٍ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِنَابِ لَهَا دُفْعَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَبَائِرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ وَهِيَ صِفَةٌ فَمَا الْمَوْصُوفُ؟ نَقُولُ: هِيَ صِفَةُ الْفِعْلَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْفِعْلَاتُ الْكَبَائِرُ مِنَ الْإِثْمِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ اخْتِصَاصِ الْكَبِيرَةِ بِالذُّنُوبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْفِعْلَةُ الْكَبِيرَةُ الْحَسَنَةُ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ؟ نَقُولُ: الْحَسَنَةُ لَا تَكُونُ كَبِيرَةً لِأَنَّهَا إِذَا قُوبِلَتْ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا لَكَانَتْ هَبَاءً لَكِنَّ السَّيِّئَةَ مِنَ الْعَبْدِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ كَبِيرَةٌ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَتِهِ سَيِّئَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ غَفَرَ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ وَخَفَّفَ بَعْضَهَا.

صفحة رقم 269

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا ذُكِرَ الْكَبَائِرُ فَمَا الْفَوَاحِشُ بَعْدَهَا؟ نَقُولُ: الْكَبَائِرُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ مِقْدَارِ السَّيِّئَةِ، وَالْفَوَاحِشُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ وَصْفِ الْقُبْحِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَظِيمَةُ الْمَقَادِيرِ قَبِيحَةُ الصُّوَرِ، وَالْفَاحِشُ فِي اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالْقَبِيحِ الْخَارِجِ قُبْحُهُ عَنْ حَدِّ الْخَفَاءِ وَتَرْكِيبُ الْحُرُوفِ فِي التَّقَالِيبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّكَ إِذَا قَلَبْتَهَا وَقُلْتَ:
حَشَفَ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الرَّدَاءَةِ الخارجة عن الحد، ويقال: فشحت النَّاقَةُ إِذَا وَقَفَتْ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِلْبَوْلِ فَالْفُحْشُ يُلَازِمُهُ الْقُبْحُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلِ: الْفَوَاحِشُ مِنَ الْإِثْمِ وَقَالَ فِي الْكَبَائِرِ: كَبائِرَ الْإِثْمِ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ إِنْ لَمْ يُمَيِّزْهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْإِثْمِ لَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الْفَوَاحِشِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَثُرَتِ الْأَقَاوِيلُ فِي الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَقِيلَ: الْكَبَائِرُ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ/ صَرِيحًا وَظَاهِرًا، وَالْفَوَاحِشُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ مَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَقِيلَ: الكبائر مالا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفَاعِلِهِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الْخَفَاءِ أَوْ فَوْقَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَبَائِرَ هِيَ الَّتِي مِقْدَارُهَا عَظِيمٌ، وَالْفَوَاحِشَ هِيَ الَّتِي قُبْحُهَا وَاضِحٌ فَالْكَبِيرَةُ صِفَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْمِقْدَارِ، وَالْفَاحِشَةُ صِفَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ، كَمَا يُقَالُ مَثَلًا: فِي الْأَبْرَصِ عَلَتْهُ بَيَاضُ لَطْخَةٍ كَبِيرَةٍ ظَاهِرَةِ اللَّوْنِ فَالْكَبِيرَةُ لِبَيَانِ الْكِمِّيَّةِ وَالظُّهُورُ لِبَيَانِ الْكَيْفِيَّةِ وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ عَلَى مَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَمُخَالَفَةَ الْمُنْعِمِ سَيِّئَةٌ عَظِيمَةٌ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَطَّ عَنْ عِبَادِهِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ لِأَنَّهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى تَرْكِ التَّعْظِيمِ، إِمَّا لِعُمُومِهِ فِي الْعِبَادِ أَوْ لِكَثْرَةِ وَجُودِهِ مِنْهُمْ كَالْكَذِبَةِ وَالْغِيبَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَالنَّظْرَةِ وَالْقَبَائِحِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ، فَإِنَّ الْمُجْتَنِبَ عَنْهَا قَلِيلٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ الَّذِي مَعَ الْأَوْتَارِ يُفَسَّقُ بِهِ، وَإِنِ اسْتَمَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ لا يعتدون أَمْرَ ذَلِكَ لَا يُفَسَّقُ فَعَادَتِ الصَّغِيرَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ إِنْ لَمْ يُعِدُّوهُ تَارِكًا لِلتَّعْظِيمِ لَا يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا تَخْتَلِفُ الْأُمُورُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ فَالْعَالِمُ الْمُتَّقِي إِذَا كَانَ يَتْبَعُ النِّسَاءَ أَوْ يُكْثِرُ مِنَ اللَّعِبِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ، وَالدَّلَّالُ وَالْبَاعَةُ وَالْمُتَفَرِّغُ الَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَاللَّعِبُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ إِلَّا مَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَوْ ظَنَّ خُرُوجَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ عَنِ الْكَبَائِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي اللَّمَمِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: مَا يَقْصِدُهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يُحَقِّقُهُ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ لَمَّ يَلُمُّ إِذَا جَمَعَ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ عَزْمَهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: مَا يَأْتِي بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَنْدَمُ فِي الْحَالِ وَهُوَ مِنَ اللَّمَمِ الَّذِي هُوَ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ كَأَنَّهُ مَسَّهُ وَفَارَقَهُ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: ١٣٥] ثَالِثُهَا: اللَّمَمُ الصَّغِيرُ مِنَ الذَّنْبِ مِنْ أَلَمَّ إِذَا نَزَلَ نُزُولًا مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ طَوِيلٍ، وَيُقَالُ: أَلَمَّ بِالطَّعَامِ إِذَا قَلَّلَ مِنْ أَكْلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّمَمَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْفَوَاحِشِ وَحِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ اللَّمَمَ لَيْسَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَثَانِيهِمَا:
غَيْرُ مُنْقَطِعٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ إِذَا نُظِرَتْ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَفَاحِشَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [الْأَعْرَافِ: ٢٨] غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْهَا أُمُورًا يُقَالُ: الْفَوَاحِشُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَوَعَدَنَا بِالْعَفْوِ عَنْهُ ثَانِيهَا: إِلَّا بِمَعْنَى غَيْرَ وَتَقْدِيرُهُ وَالْفَوَاحِشَ غَيْرَ اللَّمَمِ وَهَذَا لِلْوَصْفِ إِنْ كَانَ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ: الرِّجَالُ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ فَاللَّمَمُ عَيْنُ الْفَاحِشَةِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ الرِّجَالُ غَيْرُ النِّسَاءِ جَاءُونِي لِتَأْكِيدٍ وَبَيَانٍ فَلَا وَثَالِثُهَا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى:

صفحة رقم 270

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْرَبُونَهُ إِلَّا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِنَا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، لِأَنَّ الْمُحْسِنَ مُجْزَى وَذَنْبُهُ مَغْفُورٌ، وَمُجْتَنِبَ الْكَبَائِرِ كَذَلِكَ ذَنَبُهُ الصَّغِيرُ مَغْفُورٌ، وَالْمُقْدِمُ عَلَى الْكَبَائِرِ إِذَا تَابَ مَغْفُورُ الذَّنْبِ، فَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ لَمْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ مَغْفِرَةٌ إلا الذين أساؤا وَأَصَرُّوا عَلَيْهَا، فَالْمَغْفِرَةُ وَاسِعَةٌ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْرَجَ الْمُسِيءَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِضِيقٍ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ مَغْفِرَةَ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ وَأَسَاءَ لَفَعَلَ، وَمَا كَانَ يَضِيقُ عَنْهُمْ مَغْفِرَتُهُ، وَالْمَغْفِرَةُ مِنَ السَّتْرِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى قَبِيحٍ، وَكُلُّ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ إِذَا نَظَرْتَ فِي فِعْلِهِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ تَجِدُهُ مُقَصِّرًا مُسِيئًا، فَإِنَّ مَنْ جَازَى الْمُنْعِمَ بِنِعَمٍ لَا تُحْصَى مَعَ اسْتِغْنَائِهِ الظَّاهِرِ، وَعَظَمَتِهِ الْوَاضِحَةِ بِدِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَحْتَاجُ إِلَى سَتْرِ مَا فَعَلَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى وَفِي الْمُنَاسَبَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ تَقْرِيرٌ لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ [النجم: ٣٠] كَأَنَّ الْعَامِلَ مِنَ الْكُفَّارِ يَقُولُ: نَحْنُ نَعْمَلُ أُمُورًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَفِي الْبَيْتِ الْخَالِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقَالَ: لَيْسَ عَمَلُكُمْ أَخْفَى مِنْ أَحْوَالِكُمْ وَأَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ ثَانِيهَا: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي حَصَلَا عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ عَلِمَ أَحْوَالَهُمْ وَهُمْ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، فَكَتَبَ عَلَى الْبَعْضِ أَنَّهُ ضَالٌّ، وَالْبَعْضِ أَنَّهُ مُهْتَدٍ ثَالِثُهَا: تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلْجَزَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا [النجم: ٣١] قَالَ الْكَافِرُونَ: هَذَا الْجَزَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْحَشْرِ، وَجَمْعُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَإِعَادَةُ مَا كَانَ لِزَيْدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ فِي بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطٍ غَيْرِ مُمْكِنٍ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ فَيَجْمَعُهَا بِقُدْرَتِهِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ كَمَا أَنْشَأَكُمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي: إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: أَعْلَمُ أَيْ عَلِمَكُمْ وَقْتَ الْإِنْشَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اذْكُرُوا فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِكَوْنِهِ عَالِمًا وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ وَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ يَقُولُ:
إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِهِ بِكُمْ فَاذْكُرُوا حَالَ إِنْشَائِكُمْ مِنَ التُّرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ آدَمُ فَإِنَّهُ مِنْ تُرَابٍ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ غِذَاءً، ثُمَّ يَصِيرُ نُطْفَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى آدَمَ، لِأَنَّ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَنِينًا، وَلَوْ قُلْتَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى/ إِذْ أَنْشَأَكُمْ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ أَجِنَّةً فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ؟ نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْخِطَابُ مَعَ الْمَوْجُودِينَ حَالَةَ الْخِطَابِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مَنْ بَعْدَ الْإِنْزَالِ عَلَى قَوْلٍ، وَمَعَ مَنْ حَضَرَ وَقْتَ الْإِنْزَالِ عَلَى قَوْلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمْ كَانُوا أَجِنَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَجِنَّةُ هُمُ الَّذِينَ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ لَا يُسَمَّى إِلَّا وَلَدًا أَوْ سَقْطًا، فما فائدة

صفحة رقم 271
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية