مَنَاةَ كَانَتْ بِقَدِيدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضِيزى قَالَ: جَائِرَةٌ، لَا حَقَّ لها.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٤٢]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦)
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢)
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أَيْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمُ الْكُفَّارُ، يَضُمُّونَ إِلَى كُفْرِهِمْ مَقَالَةً شَنْعَاءَ وَجَهَالَةً جَهْلَاءَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ الْمَلَائِكَةَ الْمُنَزَّهِينَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلُوهُمْ إِنَاثًا، وَسَمَّوْهُمْ بَنَاتٍ وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ جملة فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: يُسَمُّونَهُمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِمَا يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ، وَلَا شَاهَدُوهُمْ، وَلَا بَلَغَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يُخْبِرُ الْمُخْبِرُونَ عَنْهَا، بَلْ قَالُوا ذَلِكَ جَهْلًا وَضَلَالَةً وَجَرْأَةً. وَقُرِئَ «مَا لَهُمْ بِهَا» أَيْ: بِالْمَلَائِكَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عن الظنّ وحكمه فقال: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أَيْ: إِنَّ جِنْسَ الظَّنِّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ، وَالْحَقُّ هُنَا الْعِلْمُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ لَا يقوم قيام الْعِلْمِ، وَأَنَّ الظَّانَّ غَيْرُ عَالِمٍ. وَهَذَا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْعِلْمِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ، لَا فِيمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ، وهي الحقائق الْعَمَلِيَّةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا. وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ظَنِّيَّةٌ، فَالْعَمَلُ بِهَا عَمَلٌ بِالظَّنِّ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَكَانَتْ أَدِلَّةُ وُجُوبِهِ العمل بما فيها مُخَصِّصَةٌ لِهَذَا الْعُمُومِ، وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الذَّمِّ لِمَنْ عَمِلَ بِالظَّنِّ وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أَيْ: أَعْرِضْ عَمَّنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِنَا، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْقُرْآنُ، أَوْ ذِكْرُ الْآخِرَةِ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِيمَانُ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكْ مُجَادَلَتَهُمْ فَقَدْ بَلَّغْتَ إِلَيْهِمْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ: لَمْ يُرِدْ سِوَاهَا، وَلَا طَلَبَ غَيْرَهَا، بَلْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَأَهِّلٍ لِلْخَيْرِ، وَلَا مُسْتَحِقٍّ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ. ثُمَّ صَغَّرَ سُبْحَانَهُ شَأْنَهُمْ، وَحَقَّرَ أَمْرَهُمْ فَقَالَ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ التَّوَلِّيَ وَقَصْرَ الْإِرَادَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهُ،
وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سِوَاهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: ذَلِكَ قَدْرُ عُقُولِهِمْ وَنِهَايَةُ عِلْمِهِمْ أَنْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى جَعْلِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ بَنَاتِ اللَّهِ، وَتَسْمِيَتِهِمْ لَهُمْ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هَنَا مُطْلَقُ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الظَّنُّ الْفَاسِدُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ جَهْلِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ مُجَرَّدَ الظَّنِّ. وَقِيلَ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فَإِنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ حَادَ عَنِ الْحَقِّ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى فَقَبِلَ الْحَقَّ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ وَعَمِلَ بِهِ، فَهُوَ مُجَازٍ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِرْشَادٌ لَهُ بأنه لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي دَعْوَةِ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الضَّلَالَةِ وَسَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ حَالَ هَذَا الْفَرِيقِ الضَّالِّ كَمَا عَلِمَ حَالَ الْفَرِيقِ الرَّاشِدِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ سَعَةِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ مُلْكِهِ، فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ لِذَلِكَ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ لَا يُشَارِكُهُ فيه أحد، واللام في لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكُ ذَلِكَ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لِيَجْزِيَ الْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَالْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى لِيَجْزِيَ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: وَعَاقِبَةُ أَمْرِ الْخَلْقِ الَّذِينَ فِيهِمُ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ أَنْ يَجْزِيَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا بِعَمَلِهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. قَرَأَ الجمهور لِيَجْزِيَ بالتحتية. وقرأ زيد ابن عَلِيٍّ بِالنُّونِ، وَمَعْنَى بِالْحُسْنَى أَيْ: بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، أَوْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحُسْنَى، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ فَهَذَا
الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ بَيَانٌ لَهُ، وَقِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أو في رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ:
كَبائِرَ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ كَبِيرَ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْكَبَائِرُ:
كُلُّ ذَنْبٍ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، أَوْ ذَمَّ فَاعِلَهُ ذَمًّا شَدِيدًا، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْقِيقِ الْكَبَائِرِ كَلَامٌ طَوِيلٌ. وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهَا وَمَاهِيَّتِهَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا، وَالْفَوَاحِشُ: جُمَعُ فَاحِشَةٍ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ كَالزِّنَا وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَبَائِرُ الْإِثْمِ كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِالنَّارِ، وَالْفَوَاحِشُ: كُلُّ ذَنْبِ فِيهِ الْحَدُّ. وَقِيلَ:
الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ، وَالْفَوَاحِشُ: الزِّنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَا هُوَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ فَائِدَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ مُنْقَطِعٌ «١». وَأَصْلُ اللَّمَمِ فِي اللُّغَةِ مَا قَلَّ وصغر، منه: أَلَمَّ بِالْمَكَانِ قَلَّ لُبْثُهُ فِيهِ، وَأَلَمَّ بِالطَّعَامِ قَلَّ أَكْلُهُ مِنْهُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ اللَّمَمِ أَنْ تُلِمَّ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْكَبَهُ. يُقَالُ: أَلَمَّ بِكَذَا إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يُخَالِطْهُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْإِلْمَامَ فِي مَعْنَى الدنوّ والقرب، ومنه قول جرير:
بِنَفْسِي مَنْ تَجَنُّبُهُ عَزِيزٌ | عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ |
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا «١» وَنَارًا تَأَجَّجَا |
أَلْمَمْتُ بِهِ إِذَا زُرْتُهُ وَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، وَيُقَالُ: مَا فَعَلْتُهُ إِلَّا لمما وَإِلْمَامًا، أَيِ: الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ، وَمِنْهُ إِلْمَامُ الْخَيَالِ. قَالَ الْأَعْشَى:
أَلَمَّ خَيَالٌ مِنْ قُتَيْلَةَ بعد ما | هي حَبْلُهَا مِنْ حَبْلِنَا فَتَصَرَّمَا |
بِزَيْنَبَ أَلْمِمْ قَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ الرَّكْبُ | وَقُلْ إِنْ تَمَلِّينَا فَمَا مَلَّكِ الْقَلْبُ |
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرُ جَمَّا | وأيّ عبد لك لا أَلَمَّا؟ |
لِلنَّهْيِ، أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى عُقُوبَةَ اللَّهِ وَأَخْلَصَ الْعَمَلَ لَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ مَا هِيَ عَامِلَةٌ، وَمَا هِيَ صَانِعَةٌ، وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَةٌ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ على العمون خَصَّ بِالذَّمِّ بَعْضَهُمْ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أَيْ: تَوَلَّى عَنِ الْخَيْرِ، وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أَيْ: أَعْطَى عَطَاءً قليلا، وأعطى شَيْئًا قَلِيلًا، وَقَطَعَ ذَلِكَ وَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَأَصْلُ أَكْدَى مِنَ الْكُدْيَةِ وَهِيَ الصَّلَابَةُ، يُقَالُ: لِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ بَلَغَ فِيهَا إِلَى حَجَرٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ فِيهِ حَفْرٌ: قَدْ أَكْدَى، ثُمَّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَعْطَى فَلَمْ يُتِمَّ، وَلِمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَمْ يَبْلُغْ آخِرَهُ، وَمِنْهُ قول الحطيئة:
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه | وَمَنْ يَبْذُلِ الْمَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ |
وحفر فأكدى: إذا بلغ إلى الصّلب] «١». وَيُقَالُ: كَدِيَتْ أَصَابِعُهُ: إِذَا مَحَلَتْ «٢» مِنَ الْحَفْرِ، وكديت يَدُهُ: إِذَا كَلَّتْ فَلَمْ تَعْمَلْ شَيْئًا، وَكَدَتِ الْأَرْضُ: إِذَا قَلَّ نَبَاتُهَا، وَأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عَنِ الشَّيْءِ رَدَدْتُهُ، وَأَكْدَى الرَّجُلُ: إِذَا قَلَّ خَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَمْسَكَ مِنَ الْعَطِيَّةِ وقطع. وقال المبرد: منعه مَنْعًا شَدِيدًا.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ قَدِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِهِ، فَعَيَّرَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فَتَرَكَ وَرَجَعَ إِلَى شِرْكِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْوَلِيدُ مَدَحَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهُ فَأَعْطَى قَلِيلًا مِنْ لِسَانِهِ مِنَ الْخَيْرِ ثُمَّ قَطَعَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى: أَعْنَدَ هَذَا الْمُكْدِي عِلْمُ مَا غاب عنه أَمْرِ الْعَذَابِ، فَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى - وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَيْ: أَلَمْ يُخْبَرْ وَلَمْ يُحَدَّثْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى؟ يَعْنِي أَسْفَارَهُ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ، وَبِمَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَيْ: تَمَّمَ وَأَكْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ: بَلَّغَ قَوْمَهُ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَدَّاهُ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: بَالَغَ فِي الْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا فِي صُحُفِهِمَا فَقَالَ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ غَيْرِهَا، وَ «إِنْ» هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ الْجَرُّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ صُحُفِ مُوسَى وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، أَوِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تَزِرُ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَجْرُ سَعْيِهِ وَجَزَاءُ عَمَلِهِ، وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا عَمَلُ أَحَدٍ، وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِمِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «٣»، وَبِمِثْلِ مَا وَرَدَ فِي شَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لِلْعِبَادِ وَمَشْرُوعِيَّةِ دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ لِلْأَمْوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
(٢). في تفسير القرطبي: كلّت.
(٣). الطور: ٢١.
وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ الْخَاصَّ لَا يَنْسَخُ الْعَامَّ، بَلْ يُخَصِّصُهُ، فَكُلُّ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ كَانَ مُخَصَّصًا لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أَيْ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُكْشَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُجْزاهُ أَيْ: يُجْزَى الْإِنْسَانُ سَعْيَهُ، يُقَالُ: جَزَاهُ اللَّهُ بِعَمَلِهِ وَجَزَاهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْمَنْصُوبُ إِلَى سَعْيِهِ. وَقِيلَ:
إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَزَاءِ الْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الْجَزاءَ الْأَوْفى فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ هُوَ مُفَسِّرٌ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعًا إِلَى الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ يُجْزَاهُ، وَيُجْعَلُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى تَفْسِيرًا لِلْجَزَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، كما في قوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ «١» قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ: جَزَيْتُهُ الْجَزَاءَ «٢» وَجَزَيْتُهُ بِالْجَزَاءِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أَيْ: الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ قَالَ: الْكَبَائِرُ:
مَا سَمَّى اللَّهُ فِيهِ النَّارَ، وَالْفَوَاحِشُ: مَا كَانَ فيه حدّ الدنيا. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: زِنَا الْعَيْنَيْنِ: النَّظَرُ، وَزِنَا الشَّفَتَيْنِ:
التَّقْبِيلُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ: الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ: الْمَشْيُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرَجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِنَّ تَقَدَّمَ بِفَرْجِهِ كَانَ زَانِيًا، وَإِلَّا فَهُوَ اللَّمَمُ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: هِيَ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ، فَإِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ، وَهُوَ الزِّنَا.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالْفَاحِشَةِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَ تَغْفِرْ جَمَّا | وأيّ عبد لك لا أَلَمَّا؟ |
اللَّمَّةُ: مِنَ الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يَعُودُ، وَاللَّمَّةُ: مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يَعُودُ، فَذَلِكَ الْإِلْمَامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اللَّمَمُ كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ يُكَفِّرُهُ الصَّلَاةُ، وَهُوَ دُونَ كُلِّ مُوجِبٍ، فَأَمَّا حَدُّ الدُّنْيَا فَكُلُّ حَدٍّ فَرَضَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا حدّ الآخرة فكلّ شيء
(٢). من تفسير القرطبي (١٧/ ١١٥).