اللَّهِ الْبَنَاتِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْلِ: ٦٢] / فَلَمَّا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْبَنَاتِ حَصَلَ مِنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ قسمة جائزة وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يُرْهِقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذاً جَوَابُ مَاذَا؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: نِسْبَتُكُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ لَكُمُ الْبَنُونَ قِسْمَةٌ ضِيزَى الثَّانِي: نِسْبَتُكُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُنَّ نَاقِصَاتٌ وَاخْتِيَارِكُمُ الْبَنِينَ مَعَ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّهُمْ كَامِلُونَ إِذَا كُنْتُمْ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى فِي نِهَايَةِ الْعَظَمَةِ قِسْمَةٌ ضِيزَى، فَإِنْ قِيلَ مَا أَصْلُ إِذاً؟ قُلْنَا هُوَ إِذَا الَّتِي لِلظَّرْفِ قُطِعَتِ الْإِضَافَةُ عَنْهَا فَحَصَلَ فِيهَا تَنْوِينٌ وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّكَ تَقُولُ آتِيكَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَكَأَنَّكَ أَضَفْتَ إِذَا لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَقُلْتَ آتِيكَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ آتِيكَ فَتَقُولُ لَهُ إِذَنْ أُكْرِمُكَ أَيْ إِذَا أَتَيْتَنِي أُكْرِمُكَ فَلَمَّا حَذَفْتَ الْإِتْيَانَ لِسَبْقِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَتَيْتَ بَدَلَهُ بِتَنْوِينٍ وَقُلْتَ إِذَنْ كَمَا تَقُولُ: وَكُلًّا آتَيْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ضِيزى قُرِئَ بِالْهَمْزَةِ وَبِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَعَلَى الْأُولَى هِيَ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ كَذِكْرَى عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ أَيْ قِسْمَةٌ ضَائِزَةٌ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هِيَ فُعْلَى وَكَانَ أَصْلُهَا ضُوزَى لَكِنَّ عَيْنَ الْكَلِمَةِ كَانَتْ يَائِيَّةً فَكُسِرَتِ الْفَاءُ لِتَسْلَمَ الْعَيْنُ عَنِ الْقَلْبِ كَذَلِكَ فُعِلَ بِبِيضٍ فَإِنَّ جَمْعَ أَفْعَلَ فُعْلٌ تَقُولُ أَسْوَدُ وَسُودٌ وَأَحْمَرُ وَحُمْرٌ وَتَقُولُ أَبْيَضُ وَبِيضٌ وَكَانَ الْوَزْنُ بيض وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ قَلْبُ الْعَيْنِ فَكُسِرَتِ الْبَاءُ وتركت الباء عَلَى حَالِهَا، وَعَلَى هَذَا ضِيزَى لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ ضَائِزَةٍ، تَقُولُ فَاضِلٌ وَأَفْضَلُ وَفَاضِلَةٌ وَفُضْلَى وَكَبِيرٌ وَأَكْبَرُ وَكَبِيرَى وَكُبْرَى كَذَلِكَ ضَائِزٌ وَضُوَزٌ وَضَائِزَةٌ وَضُوزَى عَلَى هَذَا نَقُولُ أَضْوَزُ مِنْ ضَائِزٍ وَضِيزَى مِنْ ضَائِزَةٍ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتَ مِنْ قَبْلُ إِنَّ قَوْلَهُ أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: ٣٩] لَيْسَ بِمَعْنَى إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ بِمَعْنَى إِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِظْهَارِ النُّكْرِ بِالْأَمْرِ الثَّانِي، كَمَا تَقُولُ أَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ الثَّانِي، وَهَاهُنَا قَوْلُهُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَنْكَرَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلَانِ: أَمَّا إِنْكَارُ الْأَمْرَيْنِ فَظَاهِرٌ فِي الْمَشْهُورِ، أَمَّا إِنْكَارُ الْأَوَّلِ فَثَابِتٌ بِوُجُوهٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَقَدْ صَارَ لَكُمُ الْبَنُونَ بِقُدْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ الشُّورَى: ٤٩] خَالِقُ الْبَنِينَ لَكُمْ لَا يَكُونُ لَهُ بَنَاتٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى فَنَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ عَائِدَةٌ إِلَى النِّسْبَةِ أَيْ نِسْبَتُكُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ لَكُمُ الْبَنِينَ قِسْمَةٌ ضَائِزَةٌ فَالْمُنْكَرُ تِلْكَ النِّسْبَةُ وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ الْقِسْمَةَ نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ أَيَجُوزُ جَعْلُ الْبَنَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ وَاحِدًا إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى السَّوِيَّةِ فَيَأْخُذُ نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَيُعْطِي مِنَ النِّصْفِ الْبَاقِي نِصْفَهُ لِظَالِمِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ فَقَالَ هَذِهِ قِسْمَةٌ ضَائِزَةٌ لَا لِكَوْنِهِ أَخَذَ النِّصْفَ فَذَلِكَ حَقُّهُ بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُوصِلْ إليه النصف الباقي.
[سورة النجم (٥٣) : آية ٢٣]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَفِيهِ/ مَبَاحِثُ تَدُقُّ عَنْ إِدْرَاكِ اللُّغَوِيِّ إِنْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ حَظٌّ عَظِيمٌ، وَلْنَذْكُرْ مَا قِيلَ فِيهِ أَوَّلًا فَنَقُولُ قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ، أَيْ كَوْنُهَا إِنَاثًا وَكَوْنُهَا مَعْبُودَاتٍ أَسْمَاءٌ لَا مُسَمًّى لَهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِإِنَاثٍ حَقِيقَةً وَلَا مَعْبُودَاتٍ، وَقِيلَ أَسْمَاءٌ
أَيْ قُلْتُمْ بَعْضُهَا عُزَّى وَلَا عِزَّةَ لَهَا، وَقِيلَ قُلْتُمْ إِنَّهَا آلِهَةٌ وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، وَالَّذِي نَقُولُهُ هُوَ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَلِدْ كَمَا تَلِدُ النِّسَاءُ وَلَمْ يُولَدْ كَمَا تُولَدُ الرِّجَالُ بِالْمُجَامَعَةِ وَالْإِحْبَالِ، غَيْرَ أَنَّا رَأَيْنَا لَفْظَ الْوَلَدِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْمُسَبَّبِ تَقُولُ: بِنْتُ الْجَبَلِ وَبِنْتُ الشَّفَةِ لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمَا وَيُوجَدُ، لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْلَادُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ وُجِدُوا بِسَبَبِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَقُلْنَا إِنَّهُمْ أَوْلَادُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ فَقُلْنَا هُمْ أَوْلَادٌ مُؤَنَّثَةٌ، وَالْوَلَدُ الْمُؤَنَّثُ بِنْتٌ، فَقُلْنَا لَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، أَيْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيجَادِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ اسْتَنْبَطْتُمُوهَا أَنْتُمْ بِهَوَى أَنْفُسِكُمْ وَأَطْلَقْتُمْ عَلَى اللَّهِ مَا يُوهِمُ النَّقْصَ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَوْلُهُ تعالى: يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: ٥٦] وقوله (بيده الْخَيْرُ) «١» أَسْمَاءٌ مُوهَمَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا، وَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِمَا اخْتَارَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ بِمَا يُوهِمُ النَّقْصَ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ، وَلْنُبَيِّنِ التَّفْسِيرَ فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هِيَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْأَسْمَاءُ كَأَنَّهُ قَالَ مَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي وَضَعْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْأَصْنَامِ بِأَنْفُسِهَا أَيْ مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَسْمَاءٌ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّجَوُّزِ، يُقَالُ لِتَحْقِيرِ إِنْسَانٍ مَا زَيْدٌ إِلَّا اسْمٌ وَمَا الْمَلِكُ إِلَّا اسْمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَمِلًا عَلَى صِفَةٍ تُعْتَبَرُ فِي الْكَلَامِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً [يُوسُفَ: ٤٠] أَيْ مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَسْمَاءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ سَمَّيْتُمُوها مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ وَضَعُوهَا أَوْ بَعْضَهَا هُمْ وَضَعُوهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ؟ نَقُولُ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَا يَتِمُّ الذَّمُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ إِنْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا كَلَامَ فِيهَا، وَإِنْ وَضَعَهَا لِلتَّفَاهُمِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي ضِمْنِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمَ مِنْهَا لَكِنَّ إِيهَامَ النَّقْصِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى مَا جَوَّزَ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ إِلَّا حَيْثُ تَسْلَمُ عَنِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ وَلَا وَجْهٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْقَلِيلَةِ لَا يُجَوِّزُهُ الْعَاقِلُ، فَإِذَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَوَضَعَ الِاسْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ خَالِيًا عَنْ وُجُوهِ الْمَضَارِّ الرَّاجِحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ قَالَ: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسَامِي لِأَصْنَامِهِمْ كَانَتْ قَبْلَهُمْ؟ نَقُولُ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا مَا سَمَّيْنَاهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ قَبْلَنَا، قِيلَ لَهُمْ كُلُّ مَنْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَهُوَ كَالْمُبْتَدِئِ الْوَاضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاضِعَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَاضِعًا بِدَلِيلٍ/ عَقْلِيٍّ لَمْ يَجِبِ اتِّبَاعُهُ فَمَنْ يُطْلِقُ اللَّفْظَ لِأَنَّ فُلَانًا أَطْلَقَهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ أَضَلَّنِي الْأَعْمَى وَلَوْ قَالَهُ لَقِيلَ لَهُ بَلْ أَنْتَ أَضْلَلْتَ نَفْسَكَ حَيْثُ اتَّبَعْتَ مَنْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْأَسْمَاءُ لَا تُسَمَّى، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهَا فَكَيْفَ قَالَ: سَمَّيْتُمُوها؟ نَقُولُ عَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: لُغَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَضْعُ الِاسْمِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَسْمَاءٌ وَضَعْتُمُوهَا فَاسْتَعْمَلَ سَمَّيْتُمُوهَا اسْتِعْمَالَ وَضَعْتُمُوهَا، وَيُقَالُ سَمَّيْتُهُ زَيْدًا وسميته يزيد فَسَمَّيْتُمُوهَا بِمَعْنَى سَمَّيْتُمْ بِهَا وَثَانِيهِمَا: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمْ بِهَا لَكَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الِاسْمِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِها لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ سَمَّيْتُ به يستدعي مفعولا
آخَرَ تَقُولُ سَمَّيْتُ بِزَيْدٍ ابْنِي أَوْ عَبْدِي أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ جَعَلَ لِلْأَصْنَامِ اعْتِبَارًا وَرَاءَ أَسْمَائِهَا، وَإِذَا قَالَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَيْ وَضَعْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِهَا لَا مُسَمَّيَاتٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٦] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتَ مَقْصُودًا وَإِلَّا لَكَانَتْ مَرْيَمُ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهَا كَمَا قُلْتَ فِي الْأَصْنَامِ؟ نَقُولُ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ قَالَ: سَمَّيْتُها مَرْيَمَ فَذَكَرَ الْمَفْعُولَيْنِ فَاعْتَبَرَ حَقِيقَةَ مَرْيَمَ بِقَوْلِهِ سَمَّيْتُها وَاسْمَهَا بِقَوْلِهِ مَرْيَمَ وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَالَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَيْ مَا هُنَاكَ إِلَّا أَسْمَاءٌ مَوْضُوعَةٌ فَلَمْ تُعْتَبَرِ الْحَقِيقَةُ هَاهُنَا وَاعْتُبِرَتْ فِي مَرْيَمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اسْتُعْمِلَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟
نَقُولُ كَمَا يَسْتَعْمِلُ الْقَائِلُ ارْتَحَلَ فُلَانٌ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ، أَيِ ارْتَحَلَ وَمَعَهُ الْأَهْلُ وَالْمَتَاعُ كَذَا هَاهُنَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ إِنْ تَتَّبِعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ عَلَى الْمُغَايَبَةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَهُمْ لَكِنَّهُ يَكُونُ الْتِفَاتًا كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: إِنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِمْ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُمْ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ آبَاءَهُمْ وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءً وَضَعْنَاهَا نَحْنُ، وَإِنَّمَا هِيَ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ تَلَقَّيْنَاهَا مِمَّنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا فَقَالَ وَسَمَّاهَا آبَاؤُكُمْ وَمَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، فَإِنْ قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، نَقُولُ وَبِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا كَأَنَّهُ يَفْرِضُ الزَّمَانَ بَعْدَ زَمَانِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: ١٨]. ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامَّةَ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعِ الْكَافِرُونَ إِلَّا الظَّنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى الظَّنِّ وَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِهِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي الْفِقْهِ
وَقَالَ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ؟
نَقُولُ أَمَّا الظَّنُّ فَهُوَ خِلَافُ الْعِلْمِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا مَكَانَ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ مَكَانَهُ، وَأَصْلُ الْعِلْمِ الظُّهُورُ وَمِنْهُ الْعِلْمُ وَالْعَالَمُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْعَالَمِينَ أَنَّ حُرُوفَ ع ل م فِي تَقَالِيبِهَا فِيهَا مَعْنَى الظُّهُورِ، وَمِنْهَا لَمَعَ الْآلُ إِذَا ظَهَرَ وَمِيضُ السَّرَابِ وَلَمَعَ الْغَزَالُ إِذَا عَدَا وَكَذَا النَّعَامُ وَفِيهِ الظُّهُورُ وَكَذَلِكَ عَلِمْتُ، وَالظَّنُّ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِلْمِ فَفِيهِ الْخَفَاءُ وَمِنْهُ بِئْرٌ ظَنُونٌ لَا يُدْرَى أَفِيهَا مَاءٌ أَمْ لَا، وَمِنْهُ الظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ لَا يُدْرَى مَا يَظُنُّ، نَقُولُ يَجُوزُ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ الْيَقِينِ وَالِاعْتِقَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَقِينَ لم يتعذر علينا وإلى هذا إشارة بقول وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم: ٢٣] أَيِ اتَّبَعُوا الظَّنَّ، وَقَدْ أَمْكَنَهُمُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ وَفِي الْعَمَلِ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَيْضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ خَبَرِيَّةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَصْدَرِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَهَوَى الْأَنْفُسِ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ زِيَادَةِ مَا وِفِيهِ تَطْوِيلٌ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَإِنَّهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ثُمَّ نَذْكُرُهَا هُنَا فَنَقُولُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ أَعْجَبَنِي صُنْعُكَ يُعْلَمُ مِنَ الصِّيغَةِ أَنَّ الْإِعْجَابَ مِنْ مَصْدَرٍ قَدْ تَحَقَّقَ وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ أَعْجَبَنِي مَا تَصْنَعُ يُعْلَمُ أَنَّ الْإِعْجَابَ مِنْ مَصْدَرٍ هُوَ فِيهِ فَلَوْ قَالَ أَعْجَبَنِي صُنْعُكَ وَلَهُ صُنْعٌ أَمْسِ وَصُنْعٌ الْيَوْمَ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُعْجَبَ أَيُّ صُنْعٍ هُوَ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ هَاهُنَا قَوْلُهُ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ مَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فِي