
قوله عز وجل: ذُو مِرَّةٍ يعني: ذي قوة. وأصل المرة: القتل، فيعبر به عن القوة.
ومنه الحديث: لا تحلّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيَ وَلا لِذِي مَرَّةٍ سَوِيٍ.
ثم قال عز وجل: فَاسْتَوى يعني: جبريل عليه السلام. ويقال: فَاسْتَوى يعني:
محمدا صلّى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يعني: من قبل مطلع الشمس جبريل، فرآه على صورته، وله جناحان، أحدهما بالمشرق، والآخر بالمغرب.
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فكل ما دنا منه، انتقص حتى إذا قرب منه مقدار قوسين، رآه كما في سائر الأوقات، حتى لا يشك جبريل فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ يعني: في القرب مقدار قوسين. وقال بعضهم: ليلة المعراج، دنا من العرش مقدار قوسين، وإنما ذكر القوسين لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس. ويقال: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ يعني: قدر ذراعين، وإنما سمي الذراع قوساً، لأنه تقاس به الأشياء. أَوْ أَدْنى يعني: بل أدنى. ويقال: أو بمعنى واو العطف. يعني: مقدار قوسين أو أقرب من ذلك.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٠ الى ١٨]
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
يعني: أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقرأ عليه جبريل ما قرأ. ويقال: تكلم مع عبده ليلة المعراج ما تكلم. ويقال: أمر عبده بما أمر.
ثم قال: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى يعني: ما كذب قلب محمد صلّى الله عليه وسلم ما رأى بصره من أمر ربه في رؤية جبريل عليه السلام. ويقال: في رؤية الله تعالى بقلبه. قال محمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، هل رأيت ربك: فقال: رأيته بفؤادي. ولم أره بعيني، قرأ الحسن ما كذَّب بتشديد الذال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ومعناه لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذباً. والباقون: بالتخفيف. يعني: ما كذب فؤاد محمد صلّى الله عليه وسلم فيما رأى.
ثم قال عز وجل: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى قرأ حمزة: أفتمرونه بنصب التاء، وجزم الميم بغير ألف. وهكذا روي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما، ومعناه:
أفتجحدونه فيما رأى. والباقون: أَفَتُمارُونَهُ يعني: أفتجادلونه لأنه رأى من آيات ربه الكبرى.

ثم قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى يعني: لقد رأى جبريل مرة أخرى. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: رأى ربه مرة، فقال: إن الله كلم موسى مرتين، ورأى محمداً مرتين، فبلغ ذلك إلى عائشة رضي الله عنها، وعن أبيها، فقالت: قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام فقيل لها: يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقالت:
أنا سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: رأيت جبريل نازلاً في الأفق على خلقته، وصورته. ويقال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى يعني: رآه بفؤاده وأكثر المفسرين يقولون: إن المراد به جبريل. يعني:
محمدا صلّى الله عليه وسلم لما رجع من عند ربه ليلة أسري به، رأى جبريل. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى فقال مقاتل: السدرة هي شجرة طوبى، ولو أن رجلاً ركب نجيبه، وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم، لما وصل إلى المكان الذي ركب منه، تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل، وجميع ألوان الثمار. ويقال: هي شجرة غير شجرة طوبى، وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة، تخرج أنهار الجنة من أصل تلك الشجرة. وإنما سميت سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لأن أرواح المؤمنين تنتهي إليها. ويقال: أرواح الشهداء تنتهي إليها. ويقال: الملائكة ينتهون إليها، ولا يجاوزنها. ويقال: لأنه علم كل واحد ينتهي إليها، ولا يتجاوزنها، ولا يدري ما فوق ذلك.
وروي عن طلحة بن مطرف، عن مرة، عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما عرف من تحتها، وإليها ينتهي ما هبط من فوقها، وهي النهاية التي ينتهي إليها من فوق، ومن تحت، ولا يتجاوز عن ذلك.
ثم قال عز وجل: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى وإنما سميت المأوى لأنه يأوي إليها أرواح الشهداء. قرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة رضي الله عنهما: جَنَّةُ الْمَأْوى بالتاء. وقيل لسعد: إن فلاناً يقرأ عندها جَنَّةُ الْمَأْوى بالهاء. قال سعد: ما له أجنه الله. وعن أبي العالية قال: سألني ابن عباس: كيف تقرأها يا أبي العالية؟ قال: قلت له جنة. قال: صدقت هي مثل قوله: جَنَّاتُ الْمَأْوى. وقراءة العامة جَنَّةُ وهي من جنات.
ثم قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى يعني: يغشاها من الملائكة ما يغشى. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه سئل ماذا يغشى؟ قال: جراد من ذهب. ويقال: فراش من ذهب. وقال الحسن:
يغشاها نور مثل الجراد من ذهب.
ثم قال: مَا زاغَ الْبَصَرُ يعني: ما مال، وما عدل بصر محمد صلّى الله عليه وسلم عما رأى وَما طَغى وما تعدى، وما جاوز إلى غيره. ويقال: وَما طَغى يعني: وما ظلم صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما رأى تلك الليلة التي عرج به إلى السماء لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وهو الرفرف الأخضر، قد غطى الأفق، فجلس عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه وجاوز سدرة المنتهى.
وقال ابن مسعود: رأى جبريل وله ستمائة جناح، وهم مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وذلك أن