
وأقسم بالسقف المرفوع وهو السماء التي رفعت بلا عمد ترونها، وأقسم بالبحر المملوء نارا أو هو المملوء ماء، أقسم بهذا كله على أن عذاب ربك لواقع حتما وليس له من دافع يدفعه.
وقد يسأل سائل: ما وجه ذكر هذه الأشياء المختلفة في القسم؟ والجواب أن كل هذه الأشياء من دلائل القدرة مع الإشارة إلى يوم الحساب، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب، والطور على أنه محل مناجاة موسى، والكتاب فيه ذكر ثوابهم وعقابهم، والبيت الحرام محل تقديس وإجلال، وطواف الملائكة والرسل به، وفيه اجتماع كاجتماع الحشر، والسماء والبحار كلها مظهر من مظاهر العظمة، ودليل على إمكان البعث، والله سبحانه أعلم بأسرار كلامه.
إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع، يوم تضطرب السماء اضطرابا، وتزلزل الأرض زلزالا، فتسير الجبال سيرا، فتكون هباء منثورا، وذلك يكون يوم القيامة، فويل يومئذ يحصل ذلك للمكذبين بالرسل واليوم الآخر، الذين هم في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، يوم يساقون إلى جهنم سوقا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون! أفسحر هذا «١» كما كنتم تقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أم أنتم لا تبصرون هذه الحقائق.
ويقال لهم: اصلوا جهنم وادخلوها وقاسوا حرها فاصبروا على ذلك أو لا تصبروا، الأمران سواء عليكم لا ينفعكم شيء من صبر أو غيره، إنما تجزون ما كنتم تعملون جزاء واقعا لا شك.
المتقون وجزاؤهم يوم القيامة [سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)

المفردات:
فاكِهِينَ أى: أصحاب فاكهة كثيرة، وقرئ: فكهين والمراد أنهم طيبو النفس يقال: فكه الرجل فهو فكه: إذا كان طيب النفس مزاجا، ومن معاني الفكه:
الأشر والبطر وعليه قوله تعالى في سورة الدخان وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أى:
أشرين بطرين. هَنِيئاً الأكل والشرب الهنيء: هو ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. مَصْفُوفَةٍ أى: موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا واحدا.
بِحُورٍ عِينٍ حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة العظيمة العين الواسعة. أَلَتْناهُمْ: أنقصناهم. رَهِينٌ أى: مرتهن يؤاخذ بالشر ويجازى بالخير. وَأَمْدَدْناهُمْ أى: وزدناهم على ما عندهم وقتا فوقتا. يَتَنازَعُونَ: يتجاذب بعضهم الكأس من بعض. كَأْساً الكأس: إناء الخمر ما دام مليئا فإذا كان فارغا لم يسم كأسا. لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ اللغو: ما

لا خير فيه، والتأثيم: من الإثم: كل ما يغضب الله. مَكْنُونٌ أى: مصون في أصدافه. مُشْفِقِينَ: خائفين من عذاب الله. السَّمُومِ: اسم من أسماء النار، والسموم: الريح الحارة، وقد تستعمل في لفح البرد وهي في لفح الشمس أكثر.
وهذا شروع في ذكر حال المؤمنين وجزائهم يوم القيامة بعد ذكر البعث وأنه واقع لا محالة، وما يلاقيه المنكرون له بالإجمال، وتلك عادة القرآن الكريم في الترهيب والترغيب.
المعنى:
إن المتقين الذين آمنوا بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا كاملا مقرونا بالعمل في جنات عظيمة، ونعيم مقيم، وفضل كبير، ورضوان من الله أكبر، هم في جنات الخلد حالة كونهم فاكهين ومتلذذين بما آتاهم ربهم من الإحسان والفضل العميم، وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم، ويقال لهم تكريما: كلوا واشربوا، أكلا وشرابا هنيئا، بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال.
إن المتقين في جنات حالة كونهم متكئين «١» على نمارق موضوعة على سرر مصفوفة وقرناهم بحور عين، وكأنهم البيض المكنون، والذين آمنوا، وأتبعتهم ذريتهم بإيمان أى كانوا مؤمنين، وإن لم يكونوا في درجة آبائهم، هؤلاء ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة وما أنقصناهم من عملهم شيئا، ولكنه فضل من الله ونعمة عليهم. روى عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ هذه الآية.
كل نفس بعملها مرهونة عند الله، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، كأن العمل بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن، فإن كان العمل مقبولا عند الله فكأن صاحبه أدى دينه