
غليظ يقال له: بحر الحيوان، يمطر العباد بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون من قبورهم» [١٠٤] «١».
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ نازل ما لَهُ مِنْ دافِعٍ مانع.
قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله في أسارى بدر [فذهبت] «٢» إليه وهو يصلّي بأصحابه المغرب، وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ وَالطُّورِ الى قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فكأنما صدع قلبي، وكان أوّل ما دخل قلبي الإسلام، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: أخبرت عن [محمد] بن الحرث المكي، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن هشام بن حسان، قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن فانتهينا إليه وعنده رجل يقرأ، فلمّا بلغ هذه الآية إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ بكى الحسن وبكى أصحابه، وجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٩ الى ٢٤]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تدور كدوران الرحى، وتتكفّأ بأهلها تكفّأ السفينة، ويموج بعضها في بعض.
واختلفت عبارات المفسرين فيها: قال ابن عباس: تدور دورانا. قتادة: تتحرك.
الضحاك: تحرك. عطاء الخراساني: تختلف إحداها بعضها في بعض. قطرب: تضطرب.
عطية: تختلف. المؤرخ: يتحول بعضهم تحولا. الأخفش: تتكفّأ، وكلّها متقاربة.
(٢) ما أثبتناه منا وفي المخطوط (فدفعت).

وأصل المور الاختلاف والاضطراب، قال رؤبة:
مسودّة الأعضاد من وشم العرق | مائرة الضبعين مصلات العنق |
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً فتزول عن أماكنها وتصير هباء منبثّا.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وإنّما أدخل الفاء في قوله فَوَيْلٌ لأن في الكلام معنى المجاراة مجازه: إذا كان هذا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ باطل يَلْعَبُونَ غافلين جاهلين ساهين لاهين.
يَوْمَ يُدَعُّونَ يدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا دفعا ويزعجون إليها إزعاجا، وذلك أنّ خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وتجافى أقفيتهم حتى يردوا النار.
وقرأ أبو رجاء العطاردي يوم يدعون إلى النار دعاء بالتخفيف من الدعاء. قالوا: فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة:
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها ادخلوها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ ذوي «١» فاكهة كثيرة، وفكهين: معجبين ناعمين.
بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ثم يقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ قد صفّ بعضها إلى بعض، وقوبل بعضها ببعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ قرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بالنون والألف «ذرياتهم» بالألف فيهما، وكسر التائين لقوله: أَلْحَقْنا... وَما أَلَتْناهُمْ ليكون الكلام على نسق واحد، وقرأ الآخرون وَاتَّبَعَتْهُمْ بالتاء من غير ألف ثم اختلفوا في قوله: ذُرِّيَّتُهُمْ، وقرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء، والثانية بالألف وكسر التاء، وقرأ أهل الشام بالألف فيهما وكسر تاء الثانية، وهو اختيار يعقوب وأبي حاتم، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وفتح تاء الثانية، وهو اختيار أبي عبيد.
واختلف المفسّرون في معنى الآية، فقال قوم: معناها وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ التي بلغت الإيمان بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان، وهو قول الضحّاك ورواية العوفي عن ابن عباس. فأخبر الله سبحانه وتعالى أنّه يجمع لعبده المؤمن ذرّيته في الجنة

كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا له، ويدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته، بعمل الأب «١» من غير أن ينقص الآباء من أجور أعمالهم شيئا فذلك قوله سبحانه: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الآباء، والهاء والميم راجعان إلى قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا، والألت: النقص والبخس.
أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله الحديثي، قال: حدّثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا جنادة بن المفلس، قال: حدّثنا قيس بن الربيع، قال: حدّثنا عمرو بن المسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» «٢» [١٠٥] ثم قرأ والذين آمنوا واتّبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء قال: «ما نقصنا الآباء بما أعطينا [البنين] » [١٠٦] «٣».
وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسن الهمداني، قال:
حدّثنا أبو عبد الله عمر بن نصر البغدادي ببردعة، قال: حدّثنا محمد بن عبد الرّحمن بن غزوان، قال: حدّثنا شريك بن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أظنّه ذكره عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة فسأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنّهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به» «٤» [١٠٧] وتلا ابن عباس:
والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال:
حدّثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدّثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال: سألت خديجة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن ولدين ماتا في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هما في النار» قال: فلمّا رأى الكراهية في وجهها قال: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت: يا رسول الله فولداي منك؟
قال: «في الجنة».
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار» «٥» [١٠٨] ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّاتهم
(٢) المستدرك: ٢/ ٤٦٨.
(٣) مجمع الزوائد: ٧/ ١١٤.
(٤) المعجم الصغير: ١/ ٢٢٩، وتفسير ابن كثير: ٣/ ٣٤، وفي سند الحديث محمد بن عثمان قال الذهبي في الميزان خبره منكر.
(٥) مسند احمد: ١/ ١٣٤.

كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ من الخير والشر رَهِينٌ مرهون فيؤخذ بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره.
وَأَمْدَدْناهُمْ وأعطيناهم بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع اللحمان يَتَنازَعُونَ يتعاطون فيتناولون ويتداولون فِيها كَأْساً إناء فيها خمر لا لَغْوٌ فِيها وهو الباطل. عن قتادة. مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. سعيد بن المسيّب: لا رفث فيها. ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. القتيبي: لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا، وقال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محلّه جنة عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة، والقوم أضياف الله وَلا تَأْثِيمٌ أي فعل يؤثمهم، وهو تفعيل من الإثم، يعني: إنّهم لا يأثمون في شربها.
وقال ابن عباس: يعني ولا كذب، وقال الضحّاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا «١».
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ بالخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ من بياضهم وصفاء لونهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مخزون مصون، قال سعيد بن جبير: يعني في الصدف.
أخبرني الحسن بن محمد، قال: حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن خنيس، قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن عصام، قال: حدّثنا عمر بن عبد العزيز المصري، قال: حدّثنا يوسف بن أبي طيبة عن وكيع بن الجراح عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف، يناديه كلّهم:
لبيك» «٢» [١٠٩].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي المقرئ، قال: حدّثنا محمد بن عمران قال:
حدّثنا هاني بن المسري، قال: حدّثنا عبيده بن سعيد عن قتادة بن عبد الله بن عمر قال: ما من أحد من أهل الجنة إلّا سعى له ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب المنوي قال: حدّثنا الحسن ابن الكميت الموصلي قال: حدّثنا المعلى بن مهدي، قال: أخبرنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنّه كان إذا تلا هذه الآية يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ قالوا: يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ قال «ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب» «٣» [١١٠].
(٢) تفسير القرطبي: ١٧/ ٦٩. [.....]
(٣) تفسير القرطبي: ١٧/ ٦٩.