آيات من القرآن الكريم

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ

قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
الإعراب:
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ.. معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وتقديره:
وفي موسى آيات. هُوَ مُلِيمٌ
الجملة حال من ضميرأَخَذْناهُ.
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا...
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ...
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ.. عند من قرأ بالجر، ومن قرأ بالنصب فهو منصوب بفعل مقدر، تقديره: أهلكنا قوم نوح، أو اذكر قوم نوح.
البلاغة:
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ استعارة، استعار الركن للجنود والجموع، لأنه يتقوى بهم، ويعتمد عليهم كما يعتمد على الركن في البناء.
هُوَ مُلِيمٌ
مجاز عقلي، أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول، أي ملام على طغيانه.
الرِّيحَ الْعَقِيمَ استعارة تبعية في قوله: الْعَقِيمَ شبه استئصالهم بعقم النساء، ثم أطلق المشبه به على المشبه، واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.

صفحة رقم 35

المفردات اللغوية:
وَفِي مُوسى معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قال الزمخشري وابن عطية:
وهذا بعيد جدا ينزّه القرآن عن مثله. والأصح العطف على قوله: وَتَرَكْنا فِيها والمعنى:
وجعلنا في قصة موسى آية. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي مصحوبا متلبسا بسلطان مبين، أي بحجة واضحة هي معجزاته، كاليد والعصا. فَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان. بِرُكْنِهِ أي كقوله: نأى بجانبه، أو فتولى عن الإيمان مع جنوده وأتباعه، لأنهم له كالركن، والأصل في الركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا: جنوده وأعوانه، كما في آية: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود ١١/ ٨٠].
وَقالَ لموسى. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي هو ساحر أو مجنون، كأنه نسب الخوارق إلى الجنّ. نَبَذْناهُمْ
طرحناهم. ي الْيَمِ
في البحر.. هُوَ مُلِيمٌ
آت بما يلام عليه من الكفر والعناد وتكذيب الرسل ودعوى الربوبية.
وَفِي عادٍ أي وفي إهلاك عاد آية. إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ حين أرسلنا عليهم الريح العقيم، سماها عقيما، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أو لأنها لا خير ولا منفعة فيها، فلا تحمل المطر ولا تلقح الشجر، وهي الدّبور أو الجنوب أو النكباء. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي ما تترك شيئا مرّت عليه. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالرماد، أو كالشيء البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، مأخوذ من الرم: وهو البلى والتفتت.
وَفِي ثَمُودَ أي وفي إهلاك ثمود آية. إِذْ قِيلَ لَهُمْ بعد عقر الناقة. تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ إلى انقضاء آجالكم. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثال أمره. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي العذاب بعد الثلاثة أيام، كما في آية: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود ١١/ ٦٥] والصاعقة: نار نازلة بسبب احتكاكات كهربية، وهي الصيحة المهلكة التي صعقتهم. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها، فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب، وهو كقوله تعالى:
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود ١١/ ٦٧]. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب وعلى من أهلكهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم نوح، ومن قرأ بالجر فهو عطف على ثمود، أي وفي إهلاكهم آية. مِنْ قَبْلُ قبل إهلاك هؤلاء المذكورين. فاسِقِينَ خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده.

صفحة رقم 36

المناسبة:
بعد بيان العظة والعبرة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام، من أجل الإيمان بقدرة الله، عطف تعالى على ذلك قصص أقوام آخرين، عذبوا على تكذيب الرسل بعذاب الاستئصال، وهم فرعون موسى وأتباعه، وعاد وثمود، وقوم نوح، وقد تبين في تعذيبهم نهاية الطغاة والمكذبين والكفار الظالمين، ليثوب الناس إلى رشدهم، ويؤمنوا بالله وبالبعث، ويكفّوا عن تكذيب الرسول ﷺ والكفر برسالته.
التفسير والبيان:
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي وتركنا في قصة موسى عليه السلام آية وعبرة، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا بحجة ظاهرة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وما معها من الآيات.
فأعرض استكبارا وعنادا ونأى عن آياتنا بجانبه، واعتز بجنده وجموعه وقوته، وقال محقرا شأن موسى: هو إما ساحر أو مجنون، إذ لم يستطع تفسير ما رآه من الخوارق، إلا بنسبته إلى السحر أو الجنون، كما في آية أخرى: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء ٢٦/ ٣٤] وآية: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء ٢٦/ ٢٧].
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ، وَهُوَ مُلِيمٌ
أي فأخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر، فألقيناهم في البحر، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية والعناد والفجور.
وهذا دليل آخر على عظمة القدرة الإلهية على إذلال الجبابرة، جزاء عتوهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.

صفحة رقم 37

ثم ذكر الله تعالى قصة عاد، فقال:
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي وتركنا أيضا في قصة عاد آية وعبرة، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية، لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب، فلا تترك شيئا مرّت عليه من الأنفس البشرية والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
ثم أبان الله تعالى قصة ثمود، فقال:
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي وتركنا في قصة ثمود آية، حين قلنا لهم: عيشوا متمتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك، كما قال تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
فتكبروا عن امتثال أمر الله، فنزلت بهم صاعقة من السماء أهلكتهم، والصاعقة: هي كل عذاب مهلك، وهم يرونها عيانا بالنهار، أو هم ينتظرون ما وعدوه من العذاب، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، جزاء وفاقا لما اقترفوا من آثام ومعاص.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ، وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي لم يقدروا على القيام والهرب من تلك الصرعة، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
ثم أعقبه بقصة قوم نوح، فقال:
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي وأهلكنا بالطوفان قوم نوح من قبل هؤلاء، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، متجاوزين حدوده.

صفحة رقم 38

فقه الحياة أو الأحكام:
هذه نهاية الطغاة الظالمين وعاقبة الكفار المكذبين، أخبر بها تعالى للعظة والعبرة، وهي تذكّر بحال أربعة أقوام.
- فإن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام مؤيدا بالدليل الباهر والحجة القاطعة والمعجزات كالعصا واليد، إلى فرعون الطاغية الجبار، فأعرض عن الإيمان بجنوده وجموعه، وكذبوا برسالته، ووصف فرعون موسى بأنه ساحر يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم، والجن يقربونه ويقصدونه إن لم يقصدهم، فيصير كالمجنون، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن، غير أن الساحر يأتيهم باختياره، والمجنون يأتونه من غير اختياره.
فكان عاقبتهم الإغراق في البحر لكفرهم وتوليهم عن الإيمان، وإتيان فرعون بما يلام عليه من ادعاء الربوبية والطغيان والعناد.
- كذلك أرسل الله هودا عليه السلام إلى قبيلة عاد، فكذبوه واستكبروا عن دعوته، وعكفوا على عبادة الأصنام، فاستأصلهم الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية، لا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة، وهي كما قال مقاتل: الدّبور، كما
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور»
وقيل: هي الجنوب، لما
روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن النبي ﷺ قال: «الريح العقيم: الجنوب»
وقال ابن عباس: هي النكباء.
وكان تأثير تلك الريح شديدا مرعبا، فلم تمر بشيء من الأنفس والأموال والديار إلا جعلته كالشيء الهشيم، أو كالشيء الهالك البالي، كما قال تعالى:
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف ٤٦/ ٢٥].
- وأرسل الله أيضا نبيه صالحا عليه السلام إلى قبيلة ثمود الذين متعهم الله تعالى بالخيرات في الدنيا، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فخالفوا أمر

صفحة رقم 39
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية