
إلا أنت لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من تعارّ في الليل (يقال تعار الرجل من ذنوبه إذا انتبه وله صوت) فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال اللهم اغفر لي أو قال دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته. ولهذا جعلت صلاة الليل من السنن المؤكدة لما فيها من الثواب العظيم في الدنيا بتنوير القلب وتطهيره، وبالآخرة بالفوز في جنات النعيم.
واعلم أن المراد من هذا الحق حق الزكاة المفروضة لأن هذه الآية جاءت بمعرض الإخبار عن أوصاف المتقين فلا يقصد منها الإنشاء فيقال إن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وسبق أن ذكرنا غير مرة بأن الزكاة لا على قدر المفروض بالمدينة، كانت متعارفة قديما قبل الإسلام وبعده، راجع الآية ٧ من سورة فصلت المارة، وكذلك الصلاة كانت متعارفة إذ لم تخل أمة منهما، إلا أن القدر والهيئة لم يكونا على ما نفعله الآن، وان الله تعالى لم يبين في كتابه ذلك وإنما أبانه حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم أما الأصل فقد تعبد الله به الأمم كافة بواسطة رسله، قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ» واضحات عظيمات الدلائل على وجود الإله القادر وحكمته البالغة وتدبيره الباهر لما فيها من الجبال والأودية والأنهار والعيون والبحار والمسالك والفجاج والطرق للسائرين فيها، فمنها السهل والوعر والصعب والرخو والرملة والعذبة والسبخة والمعادن المتنوعة والدواب المنبئة المختلفة في الصورة والشكل واللون والكبر والصغر، فمنها الطيب والخبيث، والمفترس والهادئ، والنفور والألوف، وفيها أنواع النبات والأشجار المثمرة وغيرها، المتباينة في الجنس والنوع والفصل والضر والنفع والطعم والرائحة وغير ذلك «لِلْمُوقِنِينَ» ٢٠ بالله المصدقين بكتبه ورسله واليوم الآخر المستدلين بها على مبدعها، الآخذين العظات والعبر من كيفياتها وكمياتها وماهيتها.
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ» أيها الناس آيات جليلة وعظيمة وعظات كبيرة «أَفَلا تُبْصِرُونَ» ٢١ إبصار ناظر مدقق ونظر مبصر محقق يستعين بعين بصره على عين بصيرته فيتعظ بما

انطوى عليه جسمه من البراهين الدالة على الخالق إذ ليس في العالم من شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير، وذلك مثل انفراده في هذه الهيئة النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة، والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنايع المختلفة، واستجماع الكمالات المتنوعة، واحتياره على سائر الحيوانات بالنطق واعتدال القامة، وكما أن الإختلاف في الأرض والمياه والحيوان والطير والحوت والحشرات فكذلك هو الإنسان، فمنه الأسود ومنه الأحمر والأبيض والأصفر وما بين ذلك، ومنه الاختلاف في المأكل والمشرب والملبس والمنام، ومنه اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، فمنها ما هو من أصل واحد، ومنها ما هو من أصول متنوعة، ومنها ما هو موافق للحيوان بسبيل الطعام ومجرى الشراب ومخرجهما، وقد بيّنا مراتب خلق الإنسان في الآيتين ٦٤/ ٦٧ من سورة المؤمن، فراجعهما واعتبر وتيقظ.
ويكفي على عظمة الخالق وكمال قدرته خلق أصلك من تراب وأنت من نطفة فعلقة فمضغة فلحم ودم وعظم، ثم روح وحركة وكلام وسمع وبصر وعقل وشباب وكهولة وشيخوخة وهرم، وكذلك في الغذاء فمنه موافق لغذاء الحيوان كالحضروات والحبوب واللحم، ومنها ما هو مباين كالتبن والشوك والحشيش وغيره. واعلم أن الله تعالى جمع في الإنسان ما لم يجمعه في الحيوان، لأن الحيوان الذي يأكل اللحم لا يأكل النبات والذي يأكل النبات لا يأكل اللحم غالبا، والإنسان يأكلهما معا، وجمع فيه ما لم يجمعه في الملائكة، ولا في الحيوان، لأن الملك له عقل بلا شهوة، والحيوان له شهوة بلا عقل، والإنسان جامع لهما، فسبحان من أودع في كل خلقه عظات لا تحصى وعبرا لا تستقصى، ولله در القائل:
دواؤك منك ولا تشعر... وداؤك فيك ولا تبصر
وتحسب أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام:
قال تعالى «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» ٢٢ به مقدر عند الله تعالى على تعاطي الأسباب، فقد يكون عفوا وبتسخير الغير، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية ٢/ ٣ من سورة الطلاق

في ج ٣، راجع هذا البحث في تفسيرها وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي تجد ما لا يخطر يبالك. واعلموا أيها الناس أن ما قدر لكم لا حق بكم لا محالة وإن أعرضتم عنه، أما غير المقدر فلو طلبتموه بجميع أسباب السعي فلن تدركوه، فدع أيها العاقل همك واهتمامك فيه:
الذي إليك حاصل لديك | والذي لغيرك لم يصل إليك |

موقع يتلى فيه كتاب الله، قال أتل على شيئا منه، فتلوت (وَالذَّارِياتِ) إلى قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) الآية، قال حسبك، فقام على قعوده ونحره ووزع لحمه على من أقبل وأدبر، وعمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى. وقد عجبنا جميعا من حاله وفعله وإدباره، ثم بعد سنين حججت مع الرشيد وطفقت أطوف البيت، وإذا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي، وإذا قد نحل جسمه واصفر لونه، فسلم علي واستقرأني السورة، فقرأتها حتى بلغت الآية، فصاح وقال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال وهل غير ذلك؟
قلت بلى، قال زدني، فقرأت (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) الآية، فصاح وقال يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل الجبار حتى خلف، ألم يصدقوه حتى حلف؟ وكرر هذه الجملة ثلاثا وخرجت معها نفسه. رحمه الله رحمة واسعة ورزقنا التصديق بآيات الله تعالى على ما يريده. ثم شرع يقص لحبيبه ما وقع لجده، وهذه القصة ولو أن فيها بعض ما قصه سابقا إلا أن القصص المكررة كل واحدة منها فيها ما لم يكن في غيرها ولنفي بالمقصود، وهذا من بلاغة القرآن العظيم وفوائد التكرار:
قالوا لمسلم فضل... قلت البخاري أولى
قالوا البخاري مكرر... قلت المكرر أحلى
فقال تعالى قوله يا سيد الرسل «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» ٢٤ وصفهم بالكرم لأنهم ملائكة كرام عليه أو لأن إبراهيم الكريم أكرمهم أو لأنهم ضيوفه وهو مكرم على الله، ولفظ ضيف يطلق على الواحد والجمع ولذلك جاء وصفه جمعا كالصوم والزور، قيل كانوا تسعة عاشرهم جبريل عليه السلام، راجع قصتهم في الآية ٦٩ من سورة هود المارة. واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً» عليك يا إبراهيم يا خليل الرحمن «قالَ سَلامٌ» ثم سكت وصار يتملأ بهم ويتعجب من حالتهم إذ دخلوا عليه بلا استئذان، ورأى أن عملهم هذا منكر، فقال أنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» ٢٥ لأن دخلو لكم قبل أن نأذن لكم وقبل أن تستأذنوا عندنا منكر، ولم يجر في عرفنا وأنتم غرباء عن هذه البلاد ولا معرفة لنا بكم، فكيف تجاسرتم على هذا، أولا تعرفون أن عوائدنا هنا عدم

جواز الدخول إلا برخصة من صاحب البيت، أنبهم عليه السلام من جهة عدم مراعاتهم العوائد المتعارفة، ولكنه عذرهم بكونهم غرباء عن بلاده، ولأنهم سكتوا ولم يردوا عليه بشيء بما استدل به على أنهم عرفوا تقصيرهم، لأنه لم يشك بهم أنهم غير بشر لمجيئهم بصفة البشر ولم يسألهم عن هويتهم وهم لم يذكروا له شيئا «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ» ذهب بانسلال حتى لا يحسوا به أنه ذهب ليحضر لهم قراهم وهكذا عادة الكرام إذا نزل بهم الضيف ينسلون من أمامه ليهيئوا له قراه من حيث لا يشعر ولئلا يمنعوه من ذلك، فأسرع وذبح وطهى، كما يدل عليه قوله «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» ٢٦ مشوي لقوله في الآية ٦٩ من سورة هود المارة (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) والقرآن يفسر بعضه، فحمل عليه كما يحمل المقيد على المطلق، راجع الآية ٤٥ من سورة الأنعام المارة «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ» زيادة في إكرامهم لأنه لم يدعهم إليه بل وضعه أمامهم، وهذا من آداب الضيافة التي شرحناها في الآية المذكورة من سورة هود المارة، فرآهم لم يأكلوا «قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» ٢٧ بلين ولطف كما تدل عليه أداة الطلب الخاصة بالرفق والاحترام، لأنه أراد تلافي ما بدر منه عند دخولهم، ولا سيما أنهم لم يجادلوه، فلم يترك شيئا من آداب الضيافة قولا وفعلا إلا فعله معهم، ولما رآهم لم يجيبوا دعوته ولم يمدوا أيديهم لأكله وهو من خير ما يقدم للضيف خشي منهم ووجل وساوره الخوف، لأنه أنبهم ولم يعرفهم وأصروا على عدم الأكل «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» لأن عدم الأكل يدل على سوء الظن، وهو أمارة على الضغائن، وهذه عادة معروفة عندهم ولا تزال حتى الآن فصار يدخل ويخرج فلما أحسوا به أنه قلق من عدم أكلهم ووقع في قلبه الرهبة منهم وهم جماعة وهو واحد «قالُوا لا تَخَفْ» وأخبروه بأنهم ملائكة الله «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» ٢٨ كثير العلم «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ» لما سمعت قولهم هذا «فِي صَرَّةٍ» صيحة مأخوذة من صرير القلم والباب والهودج والرحل، أي صارت تولول كعادة النساء إذا سمعن شيئا، وصرتها هذه هي قولها في آية هود المارة (يا وَيْلَتى) وقيل الصرة الجماعة المنضمين لبعضهم، كأنها جاءت مع نسوة ينظرن الملائكة الكرام «فَصَكَّتْ وَجْهَها» عند سماعها تلك البشارة،
صفحة رقم 149