
الأخرى والأقطار المجاورة القديمة «١» وكان في أذهانهم بالنسبة إليهم صورة قوية فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم في جملة ما اقتضت ذكره في مقام العظة والإنذار.
والأسلوب الذي ذكر به الأقوام واضح الدلالة على أن الهدف هو الإنذار والتذكير، ولقد جاءت بعد الحملة على الكفار والتنديد بهم ولفت أنظارهم إلى مشاهد عظمة الله وقدرته، وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني.
ومما يحسن التنبيه إليه أن بلاد قسم من الأقوام الثمانية المذكورين في الآيات هي في جزيرة العرب وهم تبّع عاد وثمود وأصحاب الرسّ وأن بلاد القسم الآخر متصلة بالجزيرة وهم قوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة وفرعون ومتصلة من قريب أو بعيد ببلاد الحجاز مهبط وحي الله ومبعث نبيه المصطفى، ومنها ما هو على طريق قوافلها كبلاد ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة ومنها ما تصل إليه قوافلها كاليمن ومصر، فالتذكير بهم تذكير بأمور معروفة سمعا ومشاهدة من قبل سامعي القرآن، وهو المتسق مع هدف القصص كما أن فيه القرينة على عدم جهل السامعين لأخبارهم على ما نبهنا عليه آنفا.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٥ الى ١٨]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
. (١) عيينا: عجزنا أو تعبنا.
(٢) الخلق الأول: الخلق لأول مرة للناس والكائنات.
(٣) لبس: شك أو حيرة.

(٤) حبل الوريد: جهاز من الدورة الدموية. والقصد من التعبير هنا بيان شدّة القرب.
(٥) قعيد: قاعد ومترصد.
(٦) رقيب: مراقب.
(٧) عتيد: حاضر.
والآيات متصلة بالسياق السابق. وفيها عود على بدء في مناقشة المكذبين للبعث والردّ عليهم والبرهنة على قدرة الله عليه بأسلوب آخر فيه تنديد وتسفيه، وفيه في نفس الوقت إنذار بعلم الله بكل ما يدور في نفوس الناس وبأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يقولونه ويشهدون على كل ما يفعلونه.
تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم
ولقد روى المفسرون في صدد الآيتين الأخيرتين من هذه الآيات بعض الأحاديث. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل. وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر». ومنها حديث رواه الطبرسي عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تعالى وكلّ بعبده ملكين يكتبان عليه فإذا مات قالا يا ربّ قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين قال سمائي مملوءة بملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني.
اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة».
ومنها حديث أورده الطبري في سياق تفسير الآية [١١] من سورة الرعد مرويا عن كنانة العدوي قال: «دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال يا رسول

الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب؟ قال: لا، لعله يستغفر الله ويتوب فإذا قال ثلاثا قال اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقلّ مراقبته لله وأقلّ استحياءه منا. يقول الله ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك. وملكان على شفتيك يحفظان عليك إلّا الصلاة على محمد وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي.
وإبليس بالنهار وولده بالليل». وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن مضمونها إجمالا قد يتسق مع ظاهر الآيتين. وفي سورة الانفطار آيات قد يتسق ظاهرها مع ذلك أيضا وهي: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) وفي سورة الجاثية آية متصلة بهذا المعنى وهي: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩). وفي سورة الزخرف هذه الآية:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠). وهناك آيات تذكر أن كتب أعمال الناس توضع أمامهم أو توزع عليهم منها آيات سورة الإسراء هذه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) وآية سورة الكهف هذه: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩).
فهذه الآيات وتلك الأحاديث التي تتساوق معها والتي ليس ما يمنع أن تكون صدرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة وكذلك الآيات الكثيرة التي تذكر قيام الملائكة بخدمات الله المتنوعة ومن جملة ذلك إحصاء

وتسجيل أعمال الناس توجب الإيمان بما ذكرته من ذلك ولو لم تدرك العقول كيفيته مع الإيمان بأن وروده في القرآن بالأسلوب الذي ورد به لا بدّ من أن يكون له حكمة. وفي الآية [١٦] من آيات (ق) التي نحن في صددها تقرير كما هو ظاهر بأن الإنسان تحت مراقبة الله عزّ وجلّ وإحاطته مباشرة وأنه قريب جدا إليه وأنه يعلم كل ما يجول في ذهنه وتوسوس به نفسه فضلا عن ما يباشره من أعمال ويلفظه من أقوال. وفي سورة يس هذه الآية: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) حيث ينسب الله عزّ وجلّ الكتابة والإحصاء إلى نفسه. وهذه التقريرات متكررة أيضا كثيرة في القرآن. وقد مرّ أمثلة منها وستأتي أمثلة كثيرة أخرى.
ولما كان علم الله الشامل محيطا بكل شيء ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتّاب والشهود وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزّع على الناس. ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة. ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا فيتبادر أن هذا من هذا الباب وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصيّ مسجّل عليهم لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يدعم هذا التوجيه ويتسق مع هذا القصد والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
ولقد رأينا بعض المفسرين يتوقفون عند جملة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فيؤولونها بأن ذلك بواسطة الملائكة تفاديا من معنى حلول الله أو اتحاده بخلقه