
ومن عاد بعد هذا فينتقم الله منه أشد الانتقام في الآخرة، والله عزيز الانتقام، لا يغلبه عاص أو مذنب.
أيها المسلمون أحل لكم صيد البحر سواء كان حيا أو ميتا، قذفه البحر أو طفا على وجهه، أو انحسر عنه الماء فهو الحل ميتته، الطهور ماؤه، أحله الله متاعا لكم وللسيارة المسافرين، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج، ومن كان مسافرا فعنده السمك المحفوظ، وحرم عليكم صيد البر من الوحش والطير ما دمتم حرما، أى: فلا مانع من أكل ما صاده غيركم، أو صدتموه في غير الإحرام،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «١»
واتقوا الله الذي إليه تحشرون.
البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما [سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
المفردات:
جَعَلَ يصح أن تفسر بالجعل التكويني الخلقي أو التشريعي الْكَعْبَةَ:
البيت المربع، وقيل: المرتفع، وقد غلب اسمها على البيت المقدس الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما السلام. قِياماً لِلنَّاسِ: ما به يقوم أمرهم ويصح شأنهم.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ تقدم تفسير ذلك أول السورة.
قال الرازي: الله تعالى حرم في هذه الآية المتقدمة الاصطياد على المحرمين، فكان الطير والوحش آمنا على نفسه وولده، وفي هذه الآية أفاد أن الحرم سبب لأمن الناس وهدايتهم لحصول الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة لهم.

المعنى:
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الذين يسكنونها، حيث يجلب إليهم الخيرات، ويرزقهم من الثمرات ويجعل قلوب الناس تهوى إليهم، وتعطف عليهم وبذلك يقوم أمرهم، ويصلح شأنهم، وكذا من حج إليها واعتمر يجدون فيها الخير والسعادة، والراحة والطمأنينة، وكل ذلك إجابة لدعاء إبراهيم- عليه السلام-:
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [ابراهيم ٣٧].
وجعلها الله قياما للناس في أمر دينهم المهذّب لأخلاقهم المزكّى لأنفسهم، أليست مكان الحج الذي هو ركن من أركان الدين؟ فيه يعقد المؤتمر العام للمسلمين الذين يهرعون إليه من كل فج عميق كبارهم وزعماؤهم. وأغنياؤهم، يتباحثون ويقفون على أمور دينهم، وتنبعث القوة في نفوسهم، ويتجدد الإسلام في أعماقهم، وتتأكد الرابطة بينهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «١» وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس كذلك فهو مثابة للناس وأمن في الجاهلية والإسلام، فيه يأمنون على أنفسهم وتجارتهم وأموالهم، فيه يلقى السلاح، وتهدأ النفوس، وتسكن الفتن، وتخمد نار الحرب المستعرة، ألست معى في أنه قيام للناس؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «٢» وكان الهدى والقلائد قياما للناس فمن بذلها قوّمت له دينه، وكفرت عن ذنبه، وطهرت له نفسه، وزكّت ماله، وجعلته آمنا على نفسه وهي عند من يأخذها قوام حياته.
كل ذلك لتعلموا أن هذه الأمور لحكم، الله يعلمها، ولا يمكن أن تصدر إلا من عالم بما في السموات وما في الأرض، وأنه بكل شيء عليم.
والناظر إلى الحج يجده دعامة من أقوى الدعائم للإسلام، يعرفه الغربيون ويعرفون أثره في نفوس المسلمين، وما يحصل بسببه من تقوية أواصر الصلات، وإذكاء روح الدين بين المؤمنين.
(٢) سورة العنكبوت آية ٦٧.