
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) هذا هو الوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، وهو الذي واثقكم به من جانبه، جل جلاله، في نظير السمع والطاعة والاستجابة لما أمر الله تعالى به ونهى عنه.
وإن ذلك الوعد إنما يستحقه الذين قاموا بما ألزمهم به الميثاق، وهو الإيمان والطاعة، إذ قالوا سمعنا وأطعنا، وقد عبر الله تعالى عن السمع والاستجابة للسماع والإنصات للأدلة والإذعان لها بالإيمان، فالإيمان: هو العماد الذي يقوم عليه الميثاق الذي التزمه المؤمنون، والطاعة لأوامر الله تعالى ونواهيه هي التي عبر الله تعالى عنها بقوله تعالى:
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وما من مقام ذكر فيه المؤمنون بالمدح إلا اقترن به قيامهم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرته، ومثل الإيمان من غير عمل صالح يقدمه المؤمن كمثل شجرة جرداء لَا تثمر ثمرا ولا تظل مستظلا، والأكثرون من العلماء على أن الإيمان ناقص إذا لم يصحبه عمل، لأن الإيمان يزيد وينقص عند كثيرين ويزيد ولا ينقص عند آخرين، وعند هؤلاء يكون الإيمان من غير عمل إيمانا غير كامل.

والعمل الصالح الذي هو الطاعة، والذي هو استجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه هو العمل الذي يكون فيه نفع للناس، ودفع للفساد في الأرض، وليس فيه ما يسوء أهل الخير، وقد جاء في كتاب غريب القرآن للأصفهاني: " الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسيئة قال تعالى: (... خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا...)، وقال تعالى: (... وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا...).
وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في مواضع كثيرة... وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد إصلاحه، وتارة بالحكم له بالصلاح... ".
وإذا كان عمل الصالحات هو استجابة المؤمن لأمر الله ونهيه، أو تنفيذ لقول المؤمنين: " سمعنا وأطعنا " فمؤدى ذلك أن الله تعالى لَا يكلف عباده إلا ما فيه صلاح أمورهم ورفع الفساد عنهم، فما من أمر كلف الله تعالى عباده أن يقوموا به إلا كان فيه صلاح لهم ومنفعة، وما من أمر نهاهم عنه إلا كان فيه مفسدة، وعلى مقدار ما في الشيء من نفع تكون قوة المطالبة به، وعلى مقدار ما فيه من شر يكون مقدار النهي عنه، وبذلك يتبين أن الشرع الإسلامي كله جاء لخير العباد وصلاحهم، والرحمة بهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالمِينَ)، وعلى ذلك لَا يصح لمؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقول: إن نصوص القرآن أو السنة جاءت بأحكام فيها مضرة؛ فإن ذلك أقصى العناد، وغاية ما يريده أهل الفساد، وما يبتغيه الذين يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما وعد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال: (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). فهذا النص الكريم هو بيان للوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، فذكر الوعد بهما في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ثم ذكر البيان، وفي ذكر البيان بعد الإبهام فضل تمكين للإعْلام،

وتثبيت للمعرفة، والوعد الذي وعد الله تعالى به يتكون من أمرين عظيمين: أحدهما مغفرة عظيمة، والثاني أجر عظيم، أما المغفرة فمعناها: ستر الذنوب وإخفاءها، وإخفاء الذنوب من الله تعالى معناه ألا يقيم لها وزنا ويعفو عنها ويكفر السيئات ولا يجازى عليها، وأما إخفاؤها في الدنيا، فذلك لأن العمل الصالح يلقي في النفس نورا فيذهب أعتامها، إذ إن المرء إذا ارتكب سيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمرت السيئات ولم يكن ثمة عمل صالح، تكاثرت النكت السوداء حتى يربد القلب ويسود، وإن كان العمل الصالح أشرق النور فاختفت السيئات، وهذا معنى قوله تعالى: (... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...). ونكرت كلمة " مغفرة " للدلالة على عظمتها، وأنها مغفرة عظيمة لَا تحيط بها المدارك البشرية.
هذا هو الأمر الأول، أما الأمر الثاني: فهو الأجر العظيم، وهو الثواب، وسماه الله تعالى أجرا، أي أنه استحقاق على عمل صالح، وذلك كان من الله تكرما وفضلا، فكل شيء بفضل الله تعالى، وهو ذو الفضل العظيم.
* * *