آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي ﷺ قالوا : نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا : نعم، فقال النبي ﷺ :« لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لمن يأخذ بسنتي فليس مني »، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم : لا آكل اللحم، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء، وقال بعضهم : لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال :« ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام واقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وعن ابن عباس : أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليَّ اللحم، فنزلت :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾، وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع النبي ﷺ، وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي، فنهانا رسول الله ﷺ عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾ الآية، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة، والله أعلم. وعن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فجيء بضرع فتنحّى رجل، فقال له عبد الله : أدن. فقال : إني حرمت أن آكله، فقال عبد الله : ادن فأطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾ الآية.
وقد ذهب بعض العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضاً لقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾، ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه لم يأمره النبي ﷺ بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام ( أحمد بن حنبل ) إلى أن من حرّم مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً أو شيئاً من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى :

صفحة رقم 689

﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التحريم : ١ ] ثم قال :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٢ ] الآية. وكذلك ها هنا لما ذكر هذا الحكم عقبة بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم. وقال ابن جرير : أراد رجالا منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية. وقال ابن جريج عن عكرمة : إن عثمان بن مظعون، وعلي بن أي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلاّ ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾، يقول : لا تسيروا بغير سنّة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله ﷺ فقال :« إن لأنفسكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا » فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تعتدوا ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه : لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم كما قاله من قاله من السلف، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه، كما قال تعالى :﴿ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] وقال :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط. ولهذا قال :﴿ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾ ثم قال :﴿ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ أي في حال كونه حلالاً طيباً، ﴿ واتقوا الله ﴾ أي في جميع أموركم واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه ﴿ الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾.

صفحة رقم 690
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية