آيات من القرآن الكريم

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﰿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ

الوسط لدوام الشهود ذلك يعني صدق الطلب في البداية وغلبات الوجد في الوسط والاختصاص بالمحبة في النهاية وَاللَّهُ واسِعٌ كرمه قادر على أن يتفضل على كل أحد لكنه عَلِيمٌ بحال كل أحد فلا يتفضل إلا على من يستأهله. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يديمونها مراقبين حقوقها في الباطن بمراعاة السر وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ما زكى من وجودهم وهو الفناء في الله وَهُمْ راكِعُونَ راجعون إلى الله بانحطاط. فمن قيام البشرية إلى قيام القيومية هم الغالبون على أهوائهم وأنفسهم والدنيا والشيطان. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ يعني أهل الغفلة والسلو المستهزئين بأهل المحبة والقرب مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي العلوم الظاهرة والكفار يعني الفلاسفة ومقلديهم لأنهم بمعزل عن العلوم اللدنية والكشفية وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى لا يعقلون بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٩ الى ٦٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)

صفحة رقم 609

القراآت:
هَلْ تَنْقِمُونَ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت: حمزة. الباقون بنصب الطاغوت على أن. عَبَدَ فعل ماض عطفا على صلة من كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. مبصوطتان بالصاد مثل وزاده بصطة [البقرة: ٢٤٧] وقد مر في البقرة. رِسالَتَهُ أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون رِسالاتِهِ.
الوقوف:
مِنْ قَبْلُ لا لعطف وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ على أَنْ آمَنَّا. فاسِقُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ط ومن جعل محله جرا على البدل من شَرٌّ لم يقف. الطَّاغُوتَ ط السَّبِيلِ ط خَرَجُوا بِهِ ط يَكْتُمُونَ هـ السُّحْتَ ط يَعْمَلُونَ هـ السُّحْتَ ط يَصْنَعُونَ هـ مَغْلُولَةٌ ط وقيل: لا وقف ليتصل قوله: غُلَّتْ وهو جزاء قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. بِما قالُوا م لئلا يوهم أن قوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ مفعول قالُوا. مَبْسُوطَتانِ ط لأن قوله: يُنْفِقُ من مقصود الكلام فلا يستأنف. كَيْفَ يَشاءُ ط وَكُفْراً ط يَوْمِ الْقِيامَةِ ط أَطْفَأَهَا اللَّهُ لا قال السجاوندي: لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر. فَساداً ط الْمُفْسِدِينَ هـ النَّعِيمِ هـ أَرْجُلِهِمْ ط مُقْتَصِدَةٌ ط يَعْمَلُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط رِسالَتَهُ ط مِنَ النَّاسِ ط الْكافِرِينَ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط وَكُفْراً ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب.
الْكافِرِينَ هـ يَحْزَنُونَ هـ.
التفسير:
لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم: ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين. نقمت على الجل أنقم بالكسر، إذا عتبت عليه، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضا إذا كرهته وأنكرته. وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتبا وعيبا لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات، وأما الإيمان بمحمد ﷺ وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد عنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض. ثم عطف عليه: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ والمراد ما تنقمون منا إلّا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل: ما تنكرون منا إلّا مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم. وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل: هل تنقم مني إلّا أني عفيف وأنك فاجر. ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين، ويجوز أن تكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنكرون منا إلّا الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسبا للصفات

صفحة رقم 610

الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيرا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم. ويحتمل أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم، ومن هنا قال الحسن في تفسيره: بفسقكم نقمتم ذلك علينا. ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف. وإنما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضا بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك. والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.
قال ابن عباس: أتى نفر من اليهود إلى رسول الله ﷺ فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة: ١٣٦] إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: ١٣٦]
فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ يعني المتقدم وهو الإيمان، ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله ومَثُوبَةً نصب على التمييز من شَرٌّ وهي من المصادر التي جاءت على «مفعول» كالميسور والمجلود ومثلها المشورة، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة.
واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١] وقد أخرج الكلام هاهنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلّا فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. قال المفسرون: عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام. ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. أما قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعا من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلّا قراءة حمزة، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلّا أنه بناء مبالغة كقولهم: رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر:
أبني لبيني إن أمكم... أمة وإن أباكم عبد

صفحة رقم 611

أبني لبيني لستم بيد إلّا يدا ليست لها عضد
وقيل: هما لغتان مثل سبع وسبع. وقيل: إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة. وقيل: أرادوا أعبد الطاغوت مثل: فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل. والطاغوت هاهنا قيل:
هو العجل. وقيل: هو الأحبار. والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله، وكل من أطاع أحدا في معصية فقد عبده. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى. وقالت المعتزلة: معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] أو أنه خذلهم حتى عبدوها. أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين. قال ابن عباس: إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه. وقال علماء البيان: هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصده ووسطه. كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله ﷺ يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط. وقوله: بِالْكُفْرِ وبه حالان أي ملتبسين بالكفر، وكذلك قوله: وَقَدْ دَخَلُوا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا ولذلك دخلت «قد» تقريبا للماضي من الحال، وليفيد التوقع أيضا. وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله ﷺ متوقعا لإظهار الله أسرارهم. والعامل في هذه الحال قالوا: وفي الأولى: دَخَلُوا وخَرَجُوا أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وإنما ذكر عند الخروج كلمة «هم» لتأكيد إضافة الكفر إليهم. ونفى أن يكون من النبي ﷺ في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفرا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. وهاهنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ. الإثم الكذب كقوله بعد: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ والعدوان الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. وقيل: الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله. وفي الآية فوائد منها: ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك.
ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات. ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت. وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب. وقال

صفحة رقم 612

الحسن: الربانيون علماء الإنجيل، والأحبار علماء التوراة. وإنما قال هاهنا: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ وفي الأول يَعْمَلُونَ لأن الصنع أرسخ من العمل فلا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة إلا إذا تمكن فيه وتدرب وينسب إليه فكان ذنب العلماء إذا تركوا النهي عن المنكر أشد وأعظم وأثبت وأرسخ. وتحقيقه أن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة كالمرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال. وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قيل: في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة. والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد ﷺ في غاية الفقر والضر قالوا: إن إله محمد كذلك. وقال الحسن: أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب. وقيل: لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد. وقال المفسرون: كان اليهود أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث الله محمدا ﷺ وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ. وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: ٢٩] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع: ما أبسط يده بالنوال. وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد:
قد أصبحت بيد الشمال زمامها

صفحة رقم 613

فجازاهم الله تعالى بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٩] وكما علمهم الدعاء على المنافقين في قوله: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: ١٠] وعلى أبي لهب في قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخبارا. قال الحسن: يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز. وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره. وَلُعِنُوا بِما قالُوا قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقي الناس كان قد سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال:
أين هذه الآية يعني قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا فأروه إياها فمحاها، فلم يمض أسبوع إلّا وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة- وهو ظاهر- وعلى النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكرها له. وعلى القوة مثل: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: ٤٥] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا. والمعنى سلب كمال القدرة. وعلى الملك تقول: هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى:
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٧] وقد يراد به شدة العناية قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا. ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠]. وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية، وبإثبات الأيدي أخرى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله، أو

صفحة رقم 614

المراد نعمة الدين نعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو: لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعادا بعد إسعاد. ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وفيه أنه لا ينفق إلّا على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئا أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به. وَلَيَزِيدَنَّ جواب قسم محذوف كَثِيراً مِنْهُمْ يعني علماء اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن والحجج طُغْياناً وَكُفْراً مجاوزة في الحد وغلوا في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرها وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ بين اليهود والنصارى- قاله مجاهد والحسن- أو فيما بين اليهود الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة، ومن النصارى ملكانية ونسطورية، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فلا يهمون بأمر من الأمور إلّا وقد رجعوا بخفي حنين. وقيل: كلما حاربوا رسول الله غلبوا. وعن قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلّا وجدتهم أذل الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يستخفون كيدا للإسلام وذويه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي. قيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليم المسلمين إلى يوم القيامة. ثم لما بالغ في تهجين سيرتهم ذكر أنهم مع ما عدّد من مساويهم لو آمنوا بمحمد ﷺ وما جاء به واتقوا المنكرات التي كانوا يأتونها لتكون توبتهم نصوحا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ تلك السيئات سترناها عليهم وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع المسلمين جَنَّاتِ النَّعِيمِ من النعم خلاف البؤس أي نعيم صاحبها فما أوسع رحمة الله تعالى وما أعظم عفوه وغفرانه وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ عملوا بما فيهما من الوفاء بعهود الله تعالى ومن الإقرار بنبوّة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم، أو حافظوا على أحكامهما وحدودهما، أو أقاموهما نصب أعينهم لئلا ينسوا ما فيهما من التكاليف. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني القرآن أو سائر الكتب الإلهية كصحف إبراهيم وزبور داود وكتاب شعيا وحيقوق ودانيال فإن كلها مشحونة من البشارة بمبعث محمد ﷺ وأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها. لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي ينزل عليهم بركات السماء وبركات الأرض، أو يكثر لهم الأشجار

صفحة رقم 615

المثمرة والزروع المغلة، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تناثر على وجه الأرض. ويحتمل أن يراد به المبالغة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا أو تحتا أي لأكلوا أكلا كثيرا متصلا، ويشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم.
والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد ﷺ وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها. ثم فصل حالهم فقال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ طائفة متوسطة في الغلو والتقصير، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيرا يمينا وشمالا، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان: أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، والثاني هم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافا متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ
عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يوم غدير خم، فأخذ رسول الله ﷺ بيده وقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فلقيه عمر وقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.
وروي أنه ﷺ نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟
فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
وقيل: لما نزلت آية التخيير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: ٢٨] فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وقيل: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش.
وقيل: لما نزل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: ١٠٨] سكت رسول الله ﷺ عن عيب آلهتهم فنزلت.
أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها.
وقيل: إنه ﷺ لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع. قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد فنزلت.
وقيل: نزلت في قصة

صفحة رقم 616

الرجم والقصاص المذكورتين.
وقال الحسن: إن نبي الله قال: لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف.
وقالت عائشة: سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟
قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة. قالت: فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال سعد وحذيفة: جئنا نحرسك. فنام رسول الله ﷺ حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله ﷺ رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية. فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال: يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس.
ومعنى قوله: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرتك به كما أمرتك به فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع. ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة. فإن قيل:
معنى قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ إن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فما وجه صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئا لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها. أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما
روي أنه ﷺ قال: بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعا فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت.
فإن قيل: أين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد. أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يمكنهم مما يريدون. ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على دين يعتد به كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه، وباقي الآية مكرر للتأكيد. ومعنى فَلا تَأْسَ لا تأسف ولا تحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك. يقال:
آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن. ثم لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلّا إذا آمن وعمل صالحا، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلّا بمعرفة المبدأ والمعاد- أعني

صفحة رقم 617

الإيمان بالله واليوم الآخر- وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق- أعني العمل الصالح- وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلّا أنه بقي هاهنا بحث لفظيّ وهو أن قوله: وَالصَّابِئُونَ عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون: إنه معطوف على محل الَّذِينَ لأن اسم «إن» إذا كان مبنيا جاز العطف على محله، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز: إنك وزيد ذاهبان. وإن لم يجز إن زيدا وعمرو قائمان. وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقا لأنه يؤدي إلى إعمال «إنّ» وإعمال معنى الابتداء معا في «قائمان» فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال. فإذن الصَّابِئُونَ مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها، وفائدة هذا التقديم التنبيه على أن التوبة مقبولة البتة، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال: كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل: والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم «إن» محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم.
التأويل:
شر الفريقين من جعله الله مستعدا لقبول فيض القهر من اللعن والغضب، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم.
أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وكل إناء يرشح بما فيه. ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم
قال: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء» «١»
بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان، وعلى

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ١١ باب ٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٣٦، ٣٧. الترمذي

صفحة رقم 618
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية