
كفر (١)، وإليه ذهب السدي أيضًا (٢).
وهؤلاء ذهبوا إلى ظاهر الخطاب.
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآية.
قال ابن عباس: يريد وفرضنا عليهم في التوراة (٣).
﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ يريد من قتل نفسًا بغير، قود قتل به (٤).
قال الضحاك: لم يجعل لهم دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو (٥) القصاص (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾.
اختلفوا في رفع العين ونصبها، فقرأ الأكثرون بالنصب، وكذلك ما العين (٧)، جعلوا الواو للإشراك في نصب (أنّ)، ولم يقطعوا الكلام مما قبله (٨).
(٢) أخرج قوله الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٧.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٥.
(٤) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٨.
(٥) في (ش): (و).
(٦) لم أقف عليه عن الضحاك، وورد نحوه عن ابن عباس. أخرجه الطبري في "تفسيره"
٦/ ٢٥٩، وأورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩٣.
(٧) قرأ بالنصب العشرة إلا الكسائي فإنه قرأ بالرفع، ووافقه في (الجروحُ) خاصة ابن كثير في "تفسيره" وأبو عمرو وأبو جعفر وابن عامر.
انظر: "الحجة" ٣/ ٢٢٣، "النشر" ٢/ ٢٥٤.
(٨) "الحجة" ٣/ ٢٢٣.

ومن رفع العين فإنه عطف جملة على جملة، ولم يجعل الواو للإشراك في العامل كما كان كذلك في قول من نصب، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى؛ لأن معنى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ قلنا لهم: (النَّفْسُ بِالنَّفْسِ)، فحمل (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) على هذا (١). والحمل على المعنى كثير في التنزيل والشعر، من ذلك قوله:
بادَتْ وغَيَّرَ آيَهنّ مع البلَى | إلا رواكدَ جَمْرُهن هبَاءُ |
ومُشَجَّعٌ أما سواءُ قَذالِه | فَبَدا وغَيَّر سارَهُ المِعْزَاءُ (٢) |
قال الزجاج: ويجوز أن يكون: (العينُ) عطفًا على المضمر في قوله: (بالنفس (٤))، لأن المضمر في: (بالنفس (٥)) في موضع رفع، المعنى: أن النفس مأخوذة هي بالنفس، والعين معطوفة على: هي (٦).
(٢) البيتان بدون عزو في "الكتاب" ١/ ١٧٣، ١٧٤، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص ٨٤، "الحجة" ٣/ ٢٢٥.
ومعنى بادت تغيرت وبليت، وآيهن: آثارهن، والرواكد: الأثافي، والهباء: الغبار، أي صار الجمر كالغبار لقدمه وانسحاقه، والمشجج، وتد الخباء، وتشجيجه ضرب رأسه لتثبيته، وسواء قذاله: أعلى الوتد، وساره: سائره، والمعزاء: الصلبة.
(٣) "الحجة" ٣/ ٢٢٥، وانظر: "الكتاب" ١/ ١٧٤.
(٤) في (ج): (أن النفس)، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٩: النفس.
(٥) في "معاني الزجاج" النفس.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٧٩، وانظر القرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٩٣.

وأما من قرأ الجميع بالنصب ورفع (الجروحُ) (١) فالكلام في رفع (الجروحُ) كما ذكرنا في رفع العين.
قال العلماء في هذه الآية: كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في العين والأنف والأذن والسن وجميع الأطراف، إذا تماثلا في السلامة من الشلل، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضًا في الأطراف (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ وهو كل ما يمكن أن يقتص فيه مثل: الشفتين والذكر والأنثين والألسن والقدمين واليدين وغيرها (٣).
فأما ما لا يمكن القصاص من رضة لحم، أو هيضة عظم أو جراحة في البطن يُخاف منها التلف ففيه أرش (٤) حكومة (٥).
والقصاص ههنا مصدر يراد به المفعول، أي والجروح مُتقاصّة بعضها ببعض.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ﴾.
(٢) انظر: "الأم" ٦/ ٥، ٥٠، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٣.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٨ - ٢٥٩، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٣، "زاد المسير" ٢/ ٣٦٨.
(٤) الأرش: هو اسم للمال الواجب على ما دون النفس. "التعريفات" للجرجاني ص ١٧، وانظر: "اللسان" ١/ ٦٠ (أرش).
(٥) انظر: "الأم" ٦/ ٨٠ - ٨٣، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ٢٠٤.

أي: أعطى وبذل وترك، من الصدقة، وكل ما يعطيه الإنسان من ماله أو بدنه أو عرضه فرضًا كان أو نقلًا، ومنه قوله - ﷺ -: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضَمْضَم (١)؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس" (٢).
والكلام في أصل الصدقة قد مضى عند قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١].
وقوله تعالى: ﴿بِهِ﴾ أي: بالقصاص الذي وجب له.
﴿فَهُوَ﴾ أي: التصدق، ﴿كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ أي: للمتصدق الذي هو المجروح، أو ولي الدم. وهذا قول أكثر أهل التأويل (٣).
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد فمن عفا فهو مغفرة له عند الله وثواب عظيم (٤).
وهذا قول ابن عمر والحسن والشعبي وقتادة (٥).
(٢) أخرجه بنحوه أبو داود (٤٨٨٧) كتاب الأدب، باب (٤٣): ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه ٥/ ١٩٩، من طرق، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" ٤/ ٢٥٧، وابن الأثير في "أسد الغابة" ٦/ ١٧٧، وابن حجر في "الإصابة" ٤/ ١١٢.
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٠ - ٢٦٢، "معاني الزجاج" ٢/ ١٧٩، "معاني النحاس" ٢/ ٣١٧، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٠.
(٤) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٩٥ ولم أقف عليه، وقد ثبت عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة أنه قال: فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب.
"تفسير ابن عباس" ص ١٨٠، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٧٢ من هذه الطريق أيضًا.
(٥) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٠ - ٢٦٢، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣١٧، "النكت والعيون" ٢/ ٤٣ - ٤٤

وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله - ﷺ - قال: "من تصدق من جسده بشيء كفر الله -عز وجل- عنه بقدره من ذنوبه" (١).
وقال آخرون: الكناية في قوله: ﴿لَهُ﴾ تعود على المتصدق عليه، أي كفارة للمتصدق عليه؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه (٢).
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير في قوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ قال: فهو كفارة للجارح، وأجر المتصدق على الله (٣).
وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم (٤).
وعلى هذا فالجاني إذا عفا عنه المجني عليه كان العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أن القصاص كفارة له.
والقول الأول أظهر؛ لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور وهو (من)، وفي القول الثاني يعود إلى مدلول عليه وهو المتصدق عليه، دل عليه قوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ﴾ (٥).
(٢) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦١، "النكت والعيون" ١/ ٤٧٠.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٢، وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٣١٧، "النكت والعيون" ٢/ ٤٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٤.
(٤) أخرج أقوالهم الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦١ - ٢٦٢، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٦٤.
(٥) وهذا أيضًا اختيار الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٦٢.