آيات من القرآن الكريم

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

فَأَصْبَحَ أي صار مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) بقتله دينا ودنيا لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة، ولأن له عقابا عظيما في الآخرة، ولما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما وقيل: سنة
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي يحفر الحفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه، ثم ألقاه فيها وأثار التراب عليه فتعلم قابيل ذلك من الغراب لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ واللام إما متعلقة ببعث حتما والضمير المستكن عائد إلى الله تعالى أو متعلقة ب «يبحث» أو ب «بعث»، والضمير راجع للغراب. و «كيف» حال من ضمير «يوارى» العائد إلى قابيل كالضميرين البارزين وهو معمول ليواري، وجملته معلقة للرؤية البصرية أو العرفانية المتعدية لمفعول قبل تعديتها بهمزة النقل وبعده لاثنين، وحينئذ فكيف في محل المفعول الثاني سادة مسده، والمراد بالسوأة الجسد لقبحه بعد موته. قالَ أي قابيل:
يا وَيْلَتى أي يا هلاكي تعال. وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء كأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره. أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي أي فأغطي جسد أخي بالتراب أي لما قتل قابيل أخاه تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن غرابا ميتا رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر أخفاه تحت الأرض أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) على حمله لهابيل على ظهره سنة لأنه لم يعلم الدفن إلا من الغراب وعلى قتله لأنه لم ينتفع بقتله ولأنه سخط عليه بسببه أبواه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية وعلى استخفافه بهابيل بعد قتله لتركه في العراء. فلما رأى أن الغراب دفن غرابا ميتا ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي لحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على غراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة. فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا ينفعه ذلك الندم. قيل: لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار.
وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا.
قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي المذكور من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهي حصول خسارة الدين والدنيا، وحصول الندم والحسرة والحزن في القلب. والجار والمجرور متعلق ب «كتبنا» وهو ابتداء كلام فلا يوقف على اسم الإشارة فالوقف على قوله تعالى: مِنَ النَّادِمِينَ تام هذا عند جمهور المفسرين وأصحاب المعاني ويروى عن نافع أنه كان يقف على اسم الإشارة ويجعله من تمام

صفحة رقم 264

الكلام الأول فحينئذ الجار والمجرور متعلق بما قبله، واسم الإشارة عائد على القتل أي من أجل أن قابيل قتل هابيل ولم يواره بالتراب. كَتَبْنا أي أوجبنا في التوراة عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ أي الشأن مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من بني آدم بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي أو بغير فساد يوجب إهدار الدم من كفر أو زنا أو قطع طريق.
وقرأ الحسن بنصب فساد بإضمار فعل أي أو عمل فسادا فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً في تعظيم أمر القتل العمد العدوان كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد. فالمقصود مشاركة الأمرين في الاستعظام وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: ٩٣] وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ أي ومن خلص نفسا واحدة من المهلكات كالحرق والغرق، والجوع المفرط، والبرد والحر المفرطين.
قال ابن عباس أي وجبت له الجنة بعفو عن نفس كما لو عفا عن الناس جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لَمُسْرِفُونَ (٣٢) في القتل لا يبالون بعظمته فإنهم كانوا أشد الناس جراءة على القتل حتى كانوا يقتلون الأنبياء إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله، أو إنما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يعملون في الأرض مفسدين بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا واحدا بعد واحد إن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل: يصلبون أحياء ثم يزج بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي تقطع مختلفة بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم نصاب السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا السبل.
قال أبو حنيفة: النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة. قالوا:
والمحبوس قد يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها ولا يرى أحدا من أحبابه فصار منفيا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات، فكان كالمنفي في الحقيقة. وقال الشافعي: هذا النفي محمول على وجهين:
الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد،

صفحة رقم 265

وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي.
والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جميع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فإن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في قوم هلال بن عويمر لأنهم قتلوا قوما من بني كنانة أرادوا الهجرة إلى رسول الله ليسلموا فقتلوهم وأخذوا ما كان معهم من السلب. وقيل: نزلت في قوم من عرينة وكانوا ثمانية نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما شربوا وصحوا قتلوا الراعي مولى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسمه يسار النوبي وساقوا الإبل وكانت خمسة عشر، فبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عشرين فارسا أميرهم كرز بن جابر الفهري في طلبهم فجيء بهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمّرت أعينهم بأن أحمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب ضوءها، وتركوا في الحرة حتى ماتوا ذلِكَ أي الحد لَهُمْ خِزْيٌ أي هوان وفضيحة فِي الدُّنْيا إذا لم تحصل التوبة. أما عند
حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) أي أشد مما يكون في الدنيا لمن لم يتب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) أي إن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين لا يسقط. فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول وجوب القصاص بسبب هذه التوبة لا جوازه قصاصا، وإن أخذوا مالا وجب عليهم رده ولم يكن عليهم قطع اليد والرجل، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال فيسقط وجوب القتل ويجوز استيفاؤه ويجب ضمان المال. وعن علي رضي الله عنه: إن الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته، ودرأ عنه العقوبة، أما إذا تاب القاطع بعد القدرة فالتوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه.
وقال الشافعي رحمه الله: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته فلما تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هلا تركتموه»
«١» وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى وهذا التفصيل إنما يكون للمسلم أما إن كان القاطع كافرا سقطت عنه الحدود مطلقا لأن توبته تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب: الرجم.

صفحة رقم 266

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بترك المنهيات وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بفعل المأمورات وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) نبيل مرضاته وبالفوز بكراماته.
اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين: أحدهما: ترك المنهيات وهو المشار إليه بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ. وثانيهما: فعل المأمورات وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. والمراد بطلب الوسيلة إليه تعالى هو تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات. ولما أمر الله تعالى بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي وكان الانقياد لذلك من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع، لأن النفس لا تدعو إلا إلى المشتهيات واللذات المحسوسة أردف ذلك التكليف بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة، ثم إن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ومنهم من يعبده للثواب مثلا وهو المشار إليه بقوله:
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بالمحبوب وتخلصون عن المكروه. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ أي لو ثبت أن لكل واحد منهم ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي من أصناف أموالها وسائر منافعها قاطبة وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي ليجعلوا كلا منهما فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي من العذاب الواقع يومئذ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) تصريح بعدم قبول الفداء وتصوير للزوم العذاب فلا سبيل لهم إلى الخلاص منه.
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت»
«١» يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بتحويل حال إلى حال. وقيل: يتمنون الخروج إذا رفعهم لهب النار إلى فوق ويقصدونه. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوة النار ودفعها لهم. وقيل: يريدون الخروج بقلوبهم كما قرأ بعضهم «أن يخرجوا» بالبناء للمفعول وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ أي الكافرين خاصة دون عصاة المؤمنين عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) أي دائم لا ينقطع تارة بالبر وتارة بالحر وتارة بغيرهما. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي أيمانهما من الكوع. كما يدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» لأنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. جَزاءً بِما كَسَبا أي لجزاء فعلهما نَكالًا أي للإهانة والذم مِنَ اللَّهِ فجزاء مفعول من أجله وعامله فاقطعوا نكالا مفعول من أجله وعامله جزاء على طريقة الأحوال المتداخلة كما تقول: ضربت ابني تأديبا له، إحسانا إليه، فالتأديب علة للضرب والإحسان علة للتأديب وَاللَّهُ عَزِيزٌ في انتقامه

(١) رواه أحمد في (م ٣/ ص ٢٩١). [.....]

صفحة رقم 267
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية