
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم موسى لموسى، إذ رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم، ووعِدوا نصر الله إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم، أنهم قالوا له:"إنا لن ندخلها أبدًا" يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدًا.

و"الهاء والألف" في قوله:"إنا لن ندخلها"، من ذكر"المدينة".
* * *
ويعنون بقولهم:"أبدًا"، أيام حياتنا (١) ="ما داموا فيها"، يعنون: ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمِروا بدخولها="فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون"، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم.
* * *
وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت، وليذهب معك ربك فقاتلا= ولكن معناه: اذهب أنت، يا موسى، وليعنك ربُّك. وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب. (٢)
وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين. فأمّا قومٌ أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا عليه، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم.
* * *
وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافَ ما قال قومُ موسى لموسى.
١١٦٨٢ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل:"اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. (٣)
(٢) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ١٦٠، بمعناه، وبغير لفظه.
(٣) الأثر: ١١٦٨٢-"مخارق"، هو: "مخارق بن عبد الله بن جابر البجلي الأحمسي"، ويقال: "مخارق بن خليفة". مترجم في التهذيب.
و"طارق هو"طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي"، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة، وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. ومضى برقم: ٩٧٤٤.
وهذا الخبر روي من طريق طارق، مطولا ومختصرًا. رواه البخاري مختصرًا، مرسلا وموصولا في صحيحه (الفتح ٨: ٢٠٥)، ورواه مطولا موصولا (الفتح ٧: ٢٢٣-٢٢٧)، ورواه أحمد مطولا في مسند ابن مسعود برقم: ٣٦٩٨، ٤٠٧٠، ٤٣٧٦.
وهذا الخبر في مشورة النبي ﷺ أصحابه قبل بدر لما وصل الصفراء، وبلغه أن قريشًا قصدت بدرًا، وأن أبا سفيان نجا بما معه، فاستشار الناس. وانظر القصة مفصلة في كتب السير. ثم انظر الخبر التالي، وأن ذلك كان يوم الحديبية.

١١٦٨٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رسول الله ﷺ قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم:"إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم:"اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون" ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله ﷺ تتابعوا على ذلك. (١)
* * *
وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام، حين تبيَّن لهم أمر الجبارين وشدّةُ بطشهم.
١١٦٨٤ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى:"ادخلوها"، فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا