
قال ع «١» : فَمَنْ فكَّر في مرجعه إلى اللَّه سبحانه، فهذا حاله، قلْتُ: وخرَّج البغويُّ في «المسند المنتخب»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالاً تَعْزُبُ عَنْكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَتُوشِكُ العوازب أن تئوب إلى أَهْلِهَا، فَمَسْرُورٌ بِهَا، وَمَكْظُومٌ» «٢». انتهى من «الكوكب الدري»، والله المستعان.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ... الآيةَ، إلى قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: ١٠٩] : قال مكِّيٌّ: هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً، ومعنًى، وحُكْماً.
قال ع «٣» : وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها وذلك بيِّن من كتابه، وباللَّه نستعين.
لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنّ تميما الدّاريّ «٤»...
(٢) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٢/ ٩٤) رقم (١٤١٦) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله الشامي، عن عائذ الله أبي إدريس، عن ثوبان مرفوعا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٢٣٤) وقال: رواه الطبراني في «الكبير»، وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥٠).
(٤) هو: تميم بن أوس بن حارثة (خارجة) ابن سود (سواد) ابن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار... أبو رقية. الداري. قال ابن حجر في الإصابة: مشهور في الصحابة، وكان نصرانيا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم قصة الجساسة والدجال، فحدث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنه بذلك على المنبر، وعد ذلك من مناقبه.
قال ابن السكن: أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم ولهما صحبة.
وقال ابن إسحاق: قدم المدينة، وغزا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد. -

وعَدِيَّ بْن بَدَّاء «١»، وكانا نصرانيَّيْنِ، سافرا إلى المدينةِ، يريدانِ الشامَ لتجارتهما، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِي، يريد الشامَ تاجِراً، قال الفخْر «٢» : وكان مُسْلماً، فخرَجُوا رفاقة، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ، وأوصى إلى تميمٍ وعديٍّ أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم «٣»، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ أنه قال: بَرِىءَ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء، وذكر القصَّة «٤»، إلا أنه قال: وكان معه جَامُ فِضَّةٍ، يريد به المُلْكَ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ، فبْعنَاه بألفٍ، وقَسَّمنا ثمنه، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم المدينةَ، تَأَثَّمْتُ من ذلك، فأتيْتُ أهْلَهُ، فأخبرتهم الخبر، وأدَّيْتُ خمسمائة، فوثَبُوا إلى عَدِيٍّ فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِي، ورجُلٌ آخر معه، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ «٥».
قال ع «٦» : واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ، ولا ثبت إسلامه، وقد صنَّفه في الصحابة بعض المتأخّرين، ولا وجه
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (١/ ٢٥٦)، «الإصابة» (١/ ١٩١)، «الثقات» (٣/ ٣٩)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٤٤٠)، «تقريب التهذيب» (١/ ١١٣)، «سير أعلام النبلاء» (٢/ ٤٤٢)، «جمهرة أنساب العرب» (٤٥٤)، (٤٢٢)، «المتفردات والوحدان» (٦٢)، «مشاهير علماء الأمصار» (٥٢).
(١) عدي بن بدّاء: بتشديد الدال قبلها موحدة مفتوحة.
قال ابن حبان: له صحبة، وأخرجه ابن منده، فأنكر عليه ذلك أبو نعيم، وقال: لا يعرف له إسلام.
قال ابن عطيّة: لا يصح لعدي عندي صحبة، وقد وضعه بعضهم في الصحابة، ولا وجه لذكره عندي فيهم، وقوّى ذلك ابن الأثير بأن السياق عند ابن إسحاق: فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوا عديّا بما يعظم على أهل دينه.
والذي عندي أن بداء، بفتح الموحدة وتشديد الدال مقصور، وقيل: ممدود. ورأيته بخط الخطيب في سياق القصة عن تفسير مقاتل عديّ بن بندا، بنون بين الموحدة والدال.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (٤/ ٣٨٧)، «الثقات» (٣/ ٣١٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٧٦)، «أسد الغابة» ت (٣٦٠٥).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٩٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥/ ١١٥) (١٢٩٧٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٢/ ٧٤)، وابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٠).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٠).
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥١).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥١).

عندي لذكْره في الصَّحابة.
وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي، إذا حضره الموتُ: أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ، فإن كان في سَفَرٍ، وهو الضَّرْب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر، فإذا قدما، وأَدَّيا الشهادةَ على وصيَّته، حَلَفَا بعد الصَّلاة أنهما ما كَذَبَا، ولا بَدَّلاَ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ما كتمنا فيه/ شهادةَ اللَّه، وحُكِمَ بشهادتهما، فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كَذَبَا، أو خَانَا، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما، هذا معنى الآيةِ على مذهب أبي موسَى الأشعريِّ، وابن عبَّاس، وسعيدِ بْنِ المسيَّب، ويحيى بن يَعْمَرَ، وابنِ جُبَيْر، وأبي مِجْلَزٍ، وإبراهيم، وشُرَيْحٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وابن سِيرِينَ، ومجاهدٍ وغَيْرِهم «١»، قالوا: ومعنى قوله:
مِنْكُمْ، أي: مِنَ المؤمنين، ومعنى: مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من الكافرين.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلَتْ، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره أن الآية مُحْكَمَةٌ، ومذهب جماعة منهم أنها منسوخةٌ بقوله:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: ٢] وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ.
قال ع «٢» : ولنرجع الآنَ إلى الإعراب، ولنقصِدِ القَوْل المفيد لأن الناس خلطوا في تفسيره هذه الآية تخليطاً شديداً، وذِكْرُ ذلك والرَّدُّ عليه يطولُ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ، واللَّه المستعان.
فقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، هي الشهادةُ «٣» التي تُحْفَظُ لتؤدى، ورفعها بالابتداء،
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٢٥٢).
(٣) الشهادات: جمع شهادة: وتجمع باعتبار أنواعها. وإن كانت في الأصل مصدرا. تعريف الشهادة:
للشهادة في اللغة معان: منها: الإخبار بالشيء خبرا قاطعا. تقول: شهد فلان على كذا، أي أخبر به خبرا قاطعا. ومنها: الحضور. تقول: شهد المجلس أي حضره قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: ١٨٥] وقال عليه الصلاة والسلام: «الغنيمة لمن شهد الرفعة» أي حضرها. ومنها:
الاطلاع على الشيء، ومعاينته، تقول: شهدت كذا. أي اطلعت عليه وعاينته. ومنها: إدراك الشيء.
تقول: شهدت الجمعة. أي أدركتها، ومنها: الحلف: تقول أشهد بالله لقد كان كذا. أي: أحلف. -

والخَبَرُ في قوله: اثْنانِ، وقوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: إذا قارب الحضُورَ، والعاملُ في «إذا» المصدرُ الذي هو «شهادة»، وهذا على أنْ تجعل «إذا» بمنزلة «حِينَ»، لا تحتاج إلى جوابٍ، ولك أن تجعل «إذا» في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ، لكن استغني عن جوابها بما تقدَّم في قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذ المعنى: إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ، فينبغي أن يُشْهِدَ، وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ: ظرْفُ زمانٍ، والعاملُ فيه حَضَرَ، وإنْ شِئْتَ، جعلته بَدَلاً مِنْ «إذا»، وقوله: ذَوا عَدْلٍ: صفة لقوله: اثْنانِ، ومِنْكُمْ: صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ، وقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ: صفة ل آخَرانِ وقوله:
تَحْبِسُونَهُما: صفة ل آخَرانِ أيضاً، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله: إِنْ أَنْتُمْ، إلى الْمَوْتُ، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر، وحلولِ الموتِ فيه، واستغني عن جواب «إنْ» لِمَا تقدَّم من قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقال جمهورٌ مِن العلماء: الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر، وقال ابنُ عباس:
إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين «١»، وأما العصر، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما، والفاءُ في قوله:
فَيُقْسِمانِ: عاطفةٌ جملةً على جملةٍ لأن المعنى تَمَّ في قوله: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ، وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به، والضميرُ في قول الحالِفَيْن:
لاَ نَشْتَرِي بِهِ: عائدٌ على القَسَمِ، أو على اسم اللَّهِ، وقوله: لاَ نَشْتَرِي جوابٌ يقتضيه قوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لأن «أقسم» ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيْمَانُ، وقوله:
ثَمَناً، أي: ذا ثَمَنٍ، وخُصَّ ذو القربى بالذِّكْر لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل، وقوله: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها، الناهِي عن كتمانها، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره: «شَهَادَةً» - بالتنوين-، «اللَّه» - بقطع الألف دون مَدٍّ وخفضِ الهاءِ-، وقال أيضاً:
وقد تسكن هاؤه فتقول: شهد فلان شهادة، وجمع الشاهد، شهد وشهود وأشهاد، والمشاهدة المعاينة.
عرفها الشافعية بأنها: إخبار صادق بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره، في مجلس القضاء، ولو بلا دعوى.
عرفها المالكية بأنها: إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه.
عرفها الحنفية بأنها: إخبار بحق للغير على آخر.
ينظر: «مغني المحتاج» (٤/ ٤٢٦)، «أدب القضاء» لابن أبي الدم (١/ ١٧٥)، «نهاية المحتاج» (٨/ ٢٧٧)، «حاشية الدسوقي» (٤/ ١٦٤)، «الدرر» (٢/ ٢٧٠)، «الفتاوى الهندية» (٣/ ٤٥٠). [.....]
(١) أخرجه الطبري بنحوه (٥/ ١١١) برقم (١٢٩٥٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٢٥٣).

يقف على الهاء مِن: «شهادة» بالسكون، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ كما تقدَّم، ورُوِيَ عنه كان يقرأ: / «آللَّهِ» - بمد ألفِ الإستفهامِ في الوجْهَيْن-، أعني: بسكون الهاء من «شهادة»، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ «شهادة»، ومدُّ ألف الاستفهام بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب، قال أبو الفَتْح: إنما تُسَكَّن هاء «شهادة» في الوقْف عليها.
وقوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ: استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه، واسْتَحَقَّا إِثْماً: معناه: استوجباه مِنَ اللَّه، وكانا أهْلاً له لأنهما ظَلَمَا وخَانَا.
وقوله تعالى: فَآخَرانِ، أي: إذا عُثِرَ على خيانتهما، فَالأَوْلَيَانِ باليمينِ وإقامةِ القضية: آخرَانِ من القَوْم الذين هُمْ ولاة المَيِّت، واستَحَقَّ عليهم حظُّهم، أو نصيبهم، أو مالهم، أو مَا شِئْتَ من هذه التقديراتِ، وقرأ نافعٌ «١» وغيره: «استحق» - مضمومةَ التاءِ-، «والأَوْلَيَانِ» على تثنية الأولى، ورُوِيَ عنِ ابنِ كَثِيرٍ: «استحق» - بفتح التاء- وكذلك روى حَفْصٌ عن عاصم.
وفي قوله: اسْتَحَقَّ: استعارة لأنه وَجْه لهذا الاستحقاق إلاَّ الغلبة على الحالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعَدَمه لقرابَتِه أو لأهل دِينه، فاستحق هنا كما تقول لظالمٍ يظلمُكَ:
«هذا قَدِ استحق علَيَّ مالِي أوْ مَنْزِلِي بظلمه»، فتشبهه بالمستَحِقِّ حقيقةً إذْ تصوَّر تصوُّره، وتملَّك تملُّكه وهكذا هي «استحقَّ» في الآية على كلِّ حال، وإنْ أسندتَّ إلى النصيب ونحوه.
وقرأ حمزة «٢» وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر: «استحق» - بضم التاء-، «الأَوَّلِينَ» : على جَمْعِ أوَّل ومعناها: من القومِ الذين استحق عليهم أمْرُهُمْ إذْ غُلِبُوا علَيْه، ثم وصَفَهم بأنَّهم أوَّلُون، أي: في الذِّكْر في هذه الآية، وذلك في قوله: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ، ثم بعد ذلك قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقوله: فَيُقْسِمانِ، يعني: الآخَرَيْنِ اللذَيْنِ يقُومانِ مَقَامَ شاهِدَيِ الزُّورِ، وقولُهما: لَشَهادَتُنا أي: لَمَا أَخْبَرْنَا نَحْنُ به، وذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ القصَّة- أحقُّ مما ذَكَراه أوَّلاً وحرَّفاه، وَمَا اعْتَدَيْنا في قولنا هذا، وقولهما:
(٢) ينظر السابق.