
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، حكيم فى تدبير شئون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه.
والخلاصة- إن رسول الله بين أظهركم وهو أعلم بمصالحكم، لو أطاعكم فى جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم فى مهاوى الردى، ولكنّ بعضا منكم حبّب إليهم الإيمان فى قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الذين أصابوا الحق، وسلكوا سبيل الرشاد.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
تفسير المفردات
الطائفة: الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» فأصلحوا بينهما: أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب، بغت: أي تعدّت وجارت، تفيء: أي ترجع، وأمر الله: هو الصلح، لأنه مأمور به فى قوله: «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» فأصلحوا بينهما بالعدل: أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى، وأقسطوا: أي واعدلوا فى كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط: إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور، والقاسط: الجائز كما قال: َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»

والإخوة فى النسب، والإخوان فى الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوّة فى الدين كالأخوّة فى النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم:
أبى الإسلام لا أب لى سواه | إذا افتخروا بقيس أو تميم |
بعد أن حذر سبحانه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق- بين هنا ما ربما ترتب على خبره من النزاع بين فئتين وقد يئول الأمر إلى الاقتتال، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه، وأن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرة إن أمكن، أو باستعداء الحاكم عليها، وإن كان الباغي هو الحاكم فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها بشرط ألا تثير فتنة أشدّ من الأولى.
ثم تمم الإرشاد وأبان أن الصلح كما يلزم بين الفئتين- يجب بين الأخوين، ثم أمرهم بتقوى الله ووجوب اتباع حكمه وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره.
روى قتادة أن الآية نزلت فى رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة فى حق، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقى منك عنوة، لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يتّبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدى والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
الإيضاح
(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي وإن اقتتلت طائفتان من أهل الإيمان، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم الله والرضا بما فيه، سواء كان لهما أو عليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل. صفحة رقم 130

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم الله وتعدت ما جعله الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى فقاتلوا التي تعتدى وتأبى الإجابة إلى حكمه حتى ترجع إليه وتخضع طائعة له.
(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله- فأصلحوا بينهما بالإنصاف والعدل حتى لا يتجدد بينهما القتال فى وقت آخر.
ثم أمرهم سبحانه بالعدل فى كل أمورهم فقال:
(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي واعدلوا فى كل ما تأتون وما تذرون، إن الله يحب العادلين فى جميع أعمالهم ويجازيهم أحسن الجزاء.
وفى الصحيح عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قلت: يا رسول الله: هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟
قال: تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه».
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للسعادة الأبدية،
وفى الحديث «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه فى البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة، ولا يشترى لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها، ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل»
وفى الصحيح أيضا: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب: قال الملك: آمين ولك بمثله».
ولما كانت الأخوّة داعية إلى الإصلاح ولا بد- تسبب عن ذلك قوله:
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فى الدين كما تصلحون بين أخويكم فى النسب.